آخر الأخبار

لماذا رفض الروس الإسلام واعتنقوا الأرثوذكسية؟

شارك

في حال واجهت مشكلة في مشاهدة الفيديو، إضغط على رابط المصدر للمشاهدة على الموقع الرسمي

يتبادر إلى الذهن سؤال طالما تناقش حوله الباحثون في التاريخ الروسي المبكر، ألا وهو: لماذا اختار الروس الأرثوذكسية ديانةً وهم الذين جاورهم المسلمون البلغار عند حوض نهر الفولجا الجنوبي، واليهود الخزر قرب بحر قزوين ، والمسيحيون اللاتين في وسط وغرب أوروبا، ثم أعرضوا عن كل هذا واختاروا اعتناق الأرثوذكسية ديانة البيزنطيين اليونان جيرانهم في الجنوب؟

ذلك سؤال خاض فيه الخائضون، وخلصوا فيه إلى أسباب ونتائج شتى، ومن الضروري أن نقف عليها ونبحث عنها لنعرف سبب هذا اللغز، خاصة أن الحضارة الإسلامية في القرون الأربعة الأولى من الإسلام لم تكن بعيدة عن الروس إطلاقا.

اقرأ أيضا

list of 2 items
* list 1 of 2 لماذا اغتال بيبرس السلطان قطز في وهج الانتصار؟
* list 2 of 2 لماذا أعجب روي كاساغراندا بالصحابي خالد بن الوليد؟ end of list

فقد أرسل الخليفة العباسي آنذاك سفارة كبرى إلى الأراضي الروسية في بداية القرن الرابع الهجري/التاسع الميلادي، كان على رأسها السفير ابن فضلان الذي كتب أحد أقدم المشاهد والرحلات والدراسات حول الروس الوثنيين الذين لم يعرفوا حضارة أو ثقافة حتى ذلك التاريخ.

ظهور الروس على مسرح التاريخ

والناظر للتاريخ منذ الألفية الثانية قبل الميلاد سيجدُ شعوبا عاشت على الأراضي الروسية كانت تنتمي إلى المجموعتين الهندو-أوروبية والأورال-آلطائية، إلى جانب مجموعات أخرى، غير أن تفاصيل هويات هذه الأقوام ومؤسساتها وأنشطتها لا تزال محدودة في السجلات التاريخية.

وفي تخوم جنوب أوكرانيا المعاصرة نشأت منذ العصور القديمة مستوطنات يونانية وإيرانية تركت بصماتها الأولى على المنطقة، فيما كانت شبكات تجارية واسعة تستغل موارد الغابات الكثيفة المترامية غرب جبال الأورال على ضفاف أنهار الكاما والفولغا، ورغم ذلك ظل أثر تلك الصلات محدودا في مسار المجتمعات المحلية.

وبين القرنين الرابع والتاسع الميلاديين عبرت هذه الرقعة شعوب الهون والأفار والقوط والمجر، لكن حضورهم العابر لم يغير البنية الثقافية للسلاف الشرقيين، الذين واصلوا في تلك الفترة تمددهم التدريجي نحو الجنوب والشرق انطلاقا من مواطنهم الأصلية بين نهر إلب في ألمانيا الحالية والمستنقعات البريبيّتية في بيلاروسيا وأوكرانيا.

إعلان

وبحلول القرن التاسع أخذت معالم مشهد جديد في التشكل، إذ تدفقت قوافل التجار ومجموعات المغامرين من شمال أوروبا عبر بحر البلطيق، ومن المراكز الإسلامية والشرقية عبر البحر الأسود ، وقد جعل هذا الانفتاح على فضاءات اقتصادية وثقافية وسياسية متباينة مجتمعات السلاف الشرقيين جزءا من شبكات تفاعل أوسع، وأسهم في صياغة الإطار التاريخي الذي مهَّد لقيام كياناتهم السياسية الأولى وتحديد مسارات تطورهم اللاحق.

وتشير المصادر التاريخية الروسية المبكرة، مثل الحولية التي كتبها الراهب نسطور "الحولية الأولية" التي تُسمى أيضا بـ"سجل الحوادث الغابرة"، وكتابات الجغرافيين العرب كالمسعودي وابن رسته إلى معلومات محدودة عن التطورات اللاحقة في أراضي السلاف الشرقيين.

لكن الأدلة الأثرية، وعلى رأسها العثور على عملات فضية عباسية وأموية في أوروبا الشرقية، تكشف أن هذا التطور مرَّ بعدة مراحل، فمنذ نحو عام 770 حتى 830 ميلاديا، بدأ مستكشفون تجاريون في اختراق منطقة الفولغا بكثافة كما تذكر الموسوعة الأوكرانية والبريطانية.

وانطلاقا من قواعد مبكرة عند مصبات أنهار منطقة البلطيق الشرقية، شرعت فرق جرمانية ذات طابع تجاري عسكري، كما يذكر المؤرخ البيزنطي قسطنطين بورفيروجينيتوس في كتابه "الإدارة الإمبراطورية" وتنقل عنه الموسوعة البريطانية، فقد شرعت في التوغل نحو أراضٍ تسكنها قبائل سلافية، بحثا عن الكهرمان والفراء والعسل والشمع ومنتجات الأخشاب، ولم يواجهوا مقاومة تُذكر إذ لم تكن هناك سلطة محلية قوية تنظم العلاقة بين التجارة والجزية والنهب.

وفي الوقت نفسه نشطت من الجنوب شبكات تجارية مقرها شمال إيران وشمال أفريقيا، كما يذكر ابن خرداذبة في "المسالك والممالك"، وخاصة في مناطق الفولغا الأدنى ونهر الدون، وبدرجة أقل في منطقة نهر الدنيبر في أوكرانيا، بحثا عن السلع نفسها، وخاصة العبيد.

وفي نحو عام 830م خفَّت الحركة التجارية في حوضَيْ الدون بجنوب روسيا والدنيبر بأوكرانيا، بينما نشطت في شمال الفولغا في وسط روسيا، حيث أسس تجار إسكندنافيون كانوا يعملون من قاعدتَيْ لادوغا وأونيغا شمال غرب روسيا مركزا جديدا.

وفي هذه الفترة تذكر المصادر الإسلامية والغربية أول حاكم للروس وتصفه بلقب "خاقان"، ويبدو ذلك تأثرا من الروسيين بجيرانهم الخزر، ويُعد هذا الكيان المعروف بـ"خاقانية الفولغا-روس" هم السلف السياسي المباشر لدولة كييف، ثم بعد عقود وسّع الروس ومعهم جماعات إسكندنافية أخرى "الوارنجيون" غاراتهم على المسارات النهرية والحضارية الكبرى من جيرانهم.

الرواية الأشهر لتنصر الروس

وفي أواخر القرن العاشر شهدت روسيا الكييفية "روس – كييف"، التي عُدّت النواة الأولى للدولة الروسية، تحولا دينيا مفصليا تحت حكم الأمير فلاديمير الأول (978-1015)، وبحسب "حولية نسطور" المعروفة بـ"الحولية الأولية"، وهي سجل تاريخي روسي أساسي يعود إلى القرن الثاني عشر.

فقد أجرى فلاديمير الأول عملية تقويم دقيقة لعدد من الديانات الكبرى قبل أن يحسم اختياره للمسيحية الأرثوذكسية، وقد تضمنت هذه الديانات الإسلام واليهودية والمسيحية الغربية (الكاثوليكية) إضافة إلى الممارسات الوثنية السلافية، وتشير الوقائع إلى أن الأمير أرسل وفودا إلى مراكز هذه الديانات لتقصّي طبيعتها، قبل أن يقرر تبنّي الأرثوذكسية البيزنطية، مدفوعا بمزيج من العوامل السياسية والثقافية والروحية.

مصدر الصورة الأمير الروسي فلاديمير الأول أو "العظيم" (ويكيبيديا)

ورغم طابع حوليات الراهب نسطور الأسطورية وتأخرها، فإن تفاصيلها -مثل الإشارات إلى مواقع الأحداث- تدل على أنها تستند إلى روايات مبكرة وربما إلى شهود عيان، ذلك أن الحولية تذكر وصول وفود بلغار الفولغا المسلمين إلى كييف سنة 986م وعرضهم الإسلام على الأمير فلاديمير، الذي استمع بعناية حول مبادئ الإسلام، لكنه رفض اعتناقه لتحريمه أكل لحم الخنزير وفرضه الختان وكذلك تحريمه الخمر، وقد علق بعبارته الشهيرة التي نراها في الحوليات والمصادر الروسية المبكرة بقوله: "بهجة الروس هي الشراب"!

إعلان

وعقب ذلك جاء وفد من قِبَل البابا في روما يعرض المسيحية الكاثوليكية ويصفها بكونها دين الخالق الواحد، وبعدما استمع الأمير فلاديمير أجاب أن آباءه لم يقبلوا هذا الدين من قبل، ولم يرضوا به، ومن ثم فإنه يرفضه، هذه التفاصيل تلاقت مع ما تورده مصادر غربية عن فشل محاولة البابا أوتو الأول سنة 961م لتنصير الروس على يد المبشرين الألمان.

وبحسب ما يذكره موقع إدارة الشؤون الخارجية لبطريركية موسكو على الإنترنت، فقد جاء عقب البلغار والألمان الكاثوليك مبعوثون من خاقان يهود الخزر، الذين وُصفوا في النصوص الروسية القديمة باسم "يهود خزارستيا"، وعندما سألهم فلاديمير عن شريعتهم، وبعد أن أصغى إليهم طرح سؤالا مباشرا عن أرضهم وديارهم وعن سبب هجرتهم وتشتتهم في الأرض، وحينما لم يقتنع بإجابتهم اتهمهم فلاديمير بالسعي إلى جلب غضب الله على الروس، ذلك الغضب الذي اعترفوا هم أنه السبب في تشتتهم في أصقاع الأرض.

وفي المرحلة الأخيرة، مثُلَ أمام فلاديمير مبعوث من اليونان البيزنطيين الأرثوذكس، وبحسب حولية نسطور فلم يكن هذا القادم واعظا عاديا، بل كان فيلسوفا محنكا، وقد جاءت خطبته مطولة انتقد فيها خصومه من الأديان الأخرى، وختمها بوعيد النار الأبدية لكل مَن يرفض الإيمان الحق بحسب اعتقاده.

وقد تضمنت خطبته عرضا مكثفا للتاريخ المقدس منذ آدم وصولا إلى المسيح والرسل الذين نقل اليونان تعاليمهم، وقد تأثر فلاديمير بمنطقه، وازدادت قناعته بعدما شاهد صورة أيقونية تُمثِّل مشهد يوم القيامة، فأغدق العطايا على الفيلسوف، لكنه أجاب عن دعوته إلى المعمودية بأنه سيتريث قليلا قبل اتخاذ القرار الذي كان يميل إلى الأرثوذكسية البيزنطية بلا شك.

إن أحد أبرز العوامل التي رجّحت هذا الخيار تَمثَّل في العلاقة الوثيقة القديمة التي جمعت الروس والأوكران مع الإمبراطورية البيزنطية مركز المسيحية الأرثوذكسية، ففي عام 988م عقد فلاديمير زواجه من الأميرة آنا، شقيقة الإمبراطور البيزنطي باسيل الثاني، وهو حدث منح روسيا الكييفية تحالفا سياسيا ودينيا متينا مع القسطنطينية، وأسرع من عملية تحول الروس للأرثوذكسية.

ويؤكد المؤرخ سيرغي سولوفيوف في كتابه "تاريخ روسيا منذ أقدم العصور" أن تعميد فلاديمير وزواجه من الأميرة آنا رَسَّخا ارتباط روس كييف ببيزنطة، وفتحا باب انتقال المؤسسات والثقافة المسيحية إلى البلاد، وقد أتاح هذا التحالف لروسيا الناشئة فرصة التأثر واستيراد المنجزات الثقافية والحضارية لبيزنطة، مثل الفنون الكنسية والهندسة المعمارية ذات الطابع الإمبراطوري، الأمر الذي أسهم في ترسيخ هوية ثقافية ودينية جديدة ستطبع ملامح روسيا على مدى قرون لاحقة.

كانت المسيحية الأرثوذكسية جذابة للروس لأسباب أخرى، لأنها تمكنت من استيعاب بعض الموروثات الشعبية لدى السلاف، فما يُسمى "ماسلنيتسا" أو "أسبوع الفطائر" على سبيل المثال أُعيد تأطيره داخل التقويم الكنسي، ما سهّل الانتقال إلى الدين الجديد، ويؤكد الباحثان سايمون فرانكلين وجوناثان شيبرد في كتابهما "بزوغ الروس" أن مسار التنصير اتسم بقدر من البراغماتية الثقافية سمح بمواءمة العادات المحلية وإدماجها في إطار أرثوذكسي.

وعلى الجانب الآخر صُوِّر الإسلام حينئذ بوصفه يفرض تغييرات ملموسة على أسلوب العيش، ولا سيما تحريم الخمر، إذ تورد "الحولية الأولية" العبارة الشهيرة على لسان مبعوثي فلاديمير: "الشرب بهجة الروس، لا نستطيع العيش دونه"، في دلالة على البون الواضح بين الأعراف السلافية الروسية الوثنية القديمة ومتطلبات الشريعة الإسلامية.

وتُظهر هذه الشهادة أن قبول الأرثوذكسية ارتبط بقدرتها المؤسسية على احتضان العادات المحلية أكثر من ارتباطه بمواجهة لاهوتية مباشرة مع أديانٍ أُخرى، ولكن يجب القول إن قلة خبرة الدعاة البلغار المسلمين، وعدم إدراكهم ربما لتدرج الإسلام في تحريمه الخمر وإنزال هذا التدريج على هؤلاء الروس الوثنيين قد حرمهم من مهارة الإقناع.

إعلان

وفي نهاية المطاف، قرر فلاديمير الأول أو كما يصفه الروس بـ"القديس فلاديمير" وعلية القوم من حاشيته الدخول في المسيحية الأرثوذكسية، وتصف حولية الراهب نسطور معمودية سكان كييف بمشهد درامي، إذ أمر فلاديمير أولا بتحطيم التماثيل الوثنية وعلى رأسها تمثال الإله بيرون.

ورغم حزن بعض الأهالي على آلهتهم القديمة فقد أطاع الجميع أوامره، ونزلوا إلى نهر الدنيبر حيث أُقيمت مراسم التعميد بين الناس صغارا وكبارا من مختلف الطبقات، وتذكر الحولية أن هذا الحدث جرى في الأول من أغسطس (حسب التقويم الشرقي) أو الرابع عشر من أغسطس (حسب التقويم الغربي)، وهو اليوم الذي أصبح عيدا دينيا في الكنيسة الأوكرانية.

وسعيا لتنظيم الحياة الدينية أصدر فلاديمير الأول قانونا خصّص بموجبه عُشر ممتلكات الدولة للكنيسة، وقد عُرف لاحقا بضريبة "العُشر"، وأقرّ حقوقا متعددة لرجال الدين، وتأتي أول إشارة إلى منصب مطران الروس إلى عام 1039، كما تذكر الموسوعة العالمية الأوكرانية في موقعها على الإنترنت.

وهكذا انتشرت الكتابات المسيحية والثقافة الكنسية في أنحاء أوكرانيا وروسيا، حيث أسس فلاديمير الأول مدارس وبنى الكنائس، بداية من كييف ثم في مدن أخرى، كما تولى التعليم كهنة جاؤوا من خرسونيس التي تُعرف اليوم بخيرسون وكانت تابعة للدولة البيزنطية وإحدى قواعد الأرثوذكسية من قديم، حيث كانوا يجيدون اللغة السلافية، مما جعل الطقوس الدينية تُقام باللغة السلافية.

ومن اللافت أن إدخال المسيحية الأرثوذكسية للأراضي الروسية والأوكرانية لم يؤدِّ إلى هيمنة سياسية لبيزنطة، بل إلى فتح قنوات اتصال جديدة مع الجيران القريبين والبعيدين، حيث سعى فلاديمير الأول إلى منح الكنيسة الجديدة المكانة نفسها في هيكل دولته كما كانت عليه في الإمبراطورية البيزنطية، وكما تذكر الموسوعة الأوكرانية أن المسيحية الأرثوذكسية رسخت من الوحدة الدينية لكيان فلاديمير الأول السياسي.

مصدر الصورة كاتدرائية المسيح المخلص في موسكو، روسيا، يوم الأحد 24 مايو/أيار 2015 (أسوشيتد برس)

أسباب أخرى

لكن من اللافت أن قرار فلاديمير السيادي بإعلانه اعتناق الأرثوذكسية هو وشعبه كان له أسباب أخرى أعمق مما سبق ذكره من اقتناعه بحجة ذلك الفيلسوف والداعية القادم من القسطنطينية، فكما نرى في كلٍّ من الموسوعتين البريطانية والأوكرانية في تناولهما لسيرة الأمير فلاديمير الأول أو "العظيم"؛ فقد ارتبطت كييف عاصمة الروس وقتئذ في عصر الوثنية بمحور تجاري إستراتيجي مع بيزنطة، وهو الطريق المائي الذي يصل بحر البلطيق بالبحر الأسود عبر نهر الدنيبر.

وقد جعل هذا الموقع اعتماد كييف الاقتصادي والسياسي موجَّها نحو بيزنطة بدرجة أكبر بكثير من الصِّلات التي كانت متاحة عبر الفولغا نحو العواصم الإسلامية في الشرق، هذا الانحياز الجغرافي في مسارات التجارة والجباية عزَّز مكانة القسطنطينية بوصفها الشريك التجاري الأول والحَكَم السياسي والمرجع الحضاري والثقافي الذي يتطلع إليه الروس.

وقد تناول الباحثان سايمون فرانكلين وزميله جوناثان شيبرد هذه الفكرة في كتابهما "بزوغ الروس"، حيث أكدا أن طرق التجارة نفسها فرضت على النخبة الروسية المبكرة الارتباط ببنية بيزنطية والتعرف عليها عن قرب أكثر من غيرها من الجيران.

والأهم من ذلك أن جدّة الأمير فلاديمير أولغا كانت قد اعتنقت الأرثوذكسية قبل ذلك بثلاثة عقود، وكما يرى ليف غوميليوف في كتابه "تاريخ روسيا من القبيلة إلى الأمة"، فإن نفوذ الكنيسة الأرثوذكسية البيزنطية كان قد انتشر تدريجيا قبل الإعلان عن التعميد والقبول بهذه العقيدة في عام 988م، فقد بنَت الكنائس والأديرة، وعلَّمت الناس محو الأمية والرسم، وحصل هناك تعايش قبل التعميد وبعده بين مَن عُمِّدوا والوثنيين الذين بقوا على أديانهم القديمة.

كان تبنّي دين الدولة قرارا إستراتيجيا يرتبط كذلك بتأمين الشرعية السياسية وتثبيت التحالفات، فقد أتاح اعتناق الأرثوذكسية لفلاديمير تعزيز رابطة المصاهرة والعلاقات السياسة مع بلاط القسطنطينية، حيث تزوج أخت الإمبراطور البيزنطي، إضافة إلى تبادل الاعتراف والمنافع.

أما الإسلام واليهودية فكان كلٌّ منهما مرتبطا أكثر في نظر الروس بمنافسيهم من الجيران كبلغار الفولغا المسلمين الذين كانوا خصوما مباشرين لكييف، وبالخزر الذين تبنّوا اليهودية ولم يُشكِّلوا مصدر إلهام للروس، فضلا عن ارتباطه بشبكات إسلامية في أسواق الجنوب الشرقي البعيدة.

إعلان

وهذا ما يؤكده المؤرخ الأميركي الروسي الأصل جورج فيرنادسكي في كتابه "روسيا الكييفية"، فإن قصة استماع فلاديمير لسفراء ودعاة الأديان وإرساله مبعوثين للتعرف على هذه الأديان تلخّص المنافسة الدينية والسياسية القائمة آنذاك.

وقد تأثر رسله أكثر ما يكون بطقوس العبادة البيزنطية في آيا صوفيا بالقسطنطينية، فعادوا بتقييم يرفع من شأن الطقوس الجماعية الدينية البيزنطية ومشهدها البصري والسمعي، الأمر الذي مال بكفة الاختيار نحو المسيحية الشرقية، ويرى فيرنادسكي أن هذه الرواية تعكس توجّه النخبة إلى الحل الذي يمنح اعترافا دوليا وإدماجا مؤسسيا عبر الكنيسة البيزنطية، ولم يكن مجرد انطباع روحي عابر.

وكما مرَّ من قبل فإن رفض الروس للإسلام وشريعته التي حرَّمت الخمر ولحم الخنزير، وفرضت الختان على الرجال، كان مرتبطا بالنخب الروسية الحاكمة التي اعتادت الولائم والضيافات والرموز الجمعية المرتبطة بالمشروبات المخمرة، وفي مقابل ذلك بدت الأرثوذكسية أكثر قدرة على استيعاب عناصر فولكلورية وموسمية روسية ضمن الطقوس الكنسية الجديدة، ما خفف من كلفة الانتقال الثقافي، وهو ما يشير إليه أندريه بوبّه في دراسته " تنصير روس الكييفية وبنيتهم الكنسية حتى عام 1300″.

تلك بعض الاتجاهات والتصورات التي تناولت الأسباب التاريخية التي جعلت الروس في منعطفهم التاريخي الحاسم في القرن العاشر الميلادي يجدون أنفسهم في مفاضلة بين الإسلام واليهودية والمسيحية، فاختاروا المسيحية الأرثوذكسية لأسباب متعددة كما رأينا.

الجزيرة المصدر: الجزيرة
شارك

أخبار ذات صلة



حمل تطبيق آخر خبر

إقرأ أيضا