أمام كومة من الملابس والأغطية المحزومة بجوار قنينة غاز ومواعين وبراميل مياه، وأربعة أفرشة، وقفت نوارة في انتظار السيارة التي تأمل أن تنقلها هي وأطفالها الخمسة وأغراضهم من غزة، لمسافة 32 كيلومتراً جنوباً نحو رفح.
رفقاً بحالها، قبِل السائق بـ500 شيكل (نحو 150 دولار) بعد أن ترجته كثيراً. لم يكف المبلغ الذي تديّنته سوى لتأجير سيارة تجر عربة صغيرة ستحاول أن تحمل فيها أطفالها وكل أغراضها. وإذا لم تكف السيارة، لن تنزح نوارة.
هذه هي المرة العاشرة التي تنزح فيها الأم البالغة من العمر 48 عاماً، مع أطفالها منذ بداية الحرب.
"أريد حماية أطفالي الخمسة، في كل مرة يقولون انزحي فأنزح، وفي كل مرة يزداد الأمر صعوبة. لست أدري إن كنت سأجد مكاناً آوي إليه في الجنوب الآن إذا ذهبت"، تقول نوارة التي تريد الآن الابتعادً قدر المستطاع عن مدينة غزة مع تكثيف الجيش الإسرائيلي ضرباته عليها، وتوعد نتنياهو باجتياحها.
تساقطت على سكان مدينة غزة صباح الثلاثاء 9 سبتمبر/أيلول منشورات إسرائيلية تطالبهم بإخلاء المدينة استعداداً لعملية عسكرية وصفها وزير الدفاع الإسرائيلي يسرائيل كاتس بـ"الإعصار المدوي".
وحسب بيان صادر عن المكتب الإعلامي التابع لحماس في 9 سبتمبر/أيلول، مازال أكثر من 1.2 مليون إنسان في مدينة غزة وشمالها.
وقال بيان صادر عن الفريق القُطْري للعمل الإنساني في الأراضي الفلسطينية المحتلة يوم الأربعاء 10 سبتمبر/أيلول بشأن الوضع في مدينة غزة، إن "نحو مليون شخص تُرِكوا دون خيارات آمنة أو عمليّة، فلا الشمال ولا الجنوب يضمنان الأمان".
وطالب تقرير الفريق الذي يضم رؤساء هيئات الأمم المتحدة وأكثر من 200 منظمة غير حكومية دولية وفلسطينية، بوقف فوري لإطلاق النار وحماية المدنيين من التهجير القسري.
ورغم خطورة الوضع في مدينة غزة قرر كثيرون البقاء في انتظار انتهاء الحرب أو الموت. وهو في الحقيقة ليس قراراً بقدر ما هو تسليم بحقيقة أنهم لا يقدرون على النزوح، كما يقولون.
تتكون عائلة حنين من 20 فرداً، هي وأمها ووالدها المريض وإخوتها وأطفالهم العشرة. يعيشون معاً وينزحون معاً من مكان لمكان منذ بداية الحرب.
لكنهم قرروا الآن أن تكون مدينة غزة آخر محطات اللجوء مهما تعالت الصافرات وتساقطت مناشير الإخلاء.
"ليس لأننا لا نخاف الموت ولكن لأننا لا نستطيع توفير ثمن النزوح" تقول حنين.
سيحتاج نقل عائلة حنين وأغراضهم نحو الجنوب شاحنتين تكلفان 5000 شيكل (نحو 1500 دولار).
"نصرف كل ما لدينا من المال على شراء الطحين والبطاطا قوتاً يومياً للعائلة، لم يتبق معنا شيكل واحد نصرفه على النزوح"، تقول حنين.
وتختلف حاجة النازحين من مرة لأخرى، على حسب ما يملكون وما يفقدون ومن أي مكان لأي مكان ينزحون.
لكن أساسيات حط الرحال في مكان جديد هي عربات للتنقل وشحن الأمتعة، وأرض يستأجرونها في مكان النزوح وخيمة يأوون إليها. وكل هذه الأشياء باتت كلفتها تفوق طاقة أغلب الغزيين.
"فقدت عشرين كيلوغراماً من وزني لأني لا أقدر على ثمن الأكل، فكيف لي بمئات الدولارات ثمناً للنزوح؟" تقول لنا نوارة بحسرة على تبدل حالها.
"منذ أن نزلت علينا مناشير الإخلاء، جُنّ أصحاب السيارات وتضاعفت الأسعار"، تقول حنين التي أرسلت لنا صورة عربة صغيرة مجرورة بدراجة نارية طلب صاحبها 900 شيكل (270 دولار) ثمن شحنة واحدة.
"هذه العربة بالكاد تكفي أغراضي أنا فما بالك بخيمة وعائلة كاملة" تقول حنين.
ليس هناك سعر موحد للشحن أو الخيم أو أي من حاجات النازحين، فالأسعار تختلف من وقت إلى وقت ومن مكان إلى مكان ومن شخص لآخر حتى.
لكن في المعدل وصل ثمن النقلة الواحدة في شاحنة كبيرة هذه الأيام إلى ما بين 2000 و2500 شيكل (600 و750 دولار)، وكان قبلها بين ألف وألفي شيكل (300 و600 دولار).
بينما يطلب أصحاب الحافلات الصغيرة التي كانت تستخدم في الرحلات ما بين 1500 و1800 شيكل ( بين 450 و541 دولاراً).
"وكل ما زاد الخطر وكانت موجة النزوح أكبر، يستغلون الحاجة ويضاعفون المبلغ"، تقول نوارة، داعية أن ينال مستغلو حاجتها جزاء عادلاً من الله.
ويحدث الأمر ذاته مع أسعار الخيم كما يقول الغزيّون.
أما التجار فيبدو أن أغلبهم يخضع لمنطق العرض والطلب حتى في ظروف الحرب. وكلما زاد الطلب وشحت الكمية ترتفع الأسعار.
هناك عدد من الصفحات المخصصة لبيع وشراء الخيم والشوادر في مدينة غزة وجنوب القطاع على فيسبوك.
تختلف المعروضات من الخيم، بين خيم قطرية ومصرية وخيم مساعدات من اليونيسيف أو الصليب الأحمر، يعرضها أصحابها للبيع وفي بعض الأحيان للمبادلة بألواح طاقة أو أغراض يحتاجونها.
وبين من يعرض ومن يطلب، تعليقات كثيرة يستغيث أصحابها مما يصفونها بالأسعار الفلكية للخيم وما يرونه استغلالاً لحاجتهم برفع الأسعار.
ويبلغ معدل ثمن نصب خيمة نزوح آلاف الشواكل وتختلف تكاليف الخيم حسب نوعها وحجمها وتجهيزاتها.
هناك خيم جاهزة لكنها شحيحة وغالية، قد يتجاوز سعر الواحدة منها الـ2000 شيكل (600 دولار) في الأيام العادية لكنها قد تصل الـ5000 شيكل (1500 دولار) في موجات النزوح وأوامر الإخلاء عندما يتزايد الطلب.
بينما يعتمد كثير من النازحين على خيم يصنعونها بأنفسهم باعتماد الشوادر والأخشاب.
ويلحقون بالخيمة حماماً بدائياً تشترك فيه العائلة التي تكون غالباً مكونة من عدد من الأسر الصغيرة من الإخوة أو الأقارب.
تحتاج الخيم إلى أن تغطى بقطعة نايلون تقي ساكنيها من تسرب الأمطار.
وفي فصل الصيف ترتفع الحرارة داخل هذه الخيم لأن أغلبها يصنع من مواد بلاستيكية. لذلك تحتاج العائلة إلى عرائش تلحق بالخيمة لتوفّر قليلاً من الظل.
وتحتاج هذه العرائش بعض الأمتار الإضافية، ما يرفع تكلفة إيجار الأرض.
ويضطر النازحون في أحيان كثيرة لترك خيمهم والكثير من أمتعتهم وينزحون إما مشياً على الأقدام وإما بشكل جماعي في سيارات صغيرة أو عربات تجرها الحيوانات حين لا يجدون سيارات نقل كبيرة ولا يقدرون على إيجارها.
وسام أبو كلوب البالغ من العمر 32 عاماً، أب لطفلين. يعيش مع عائلته في خيمة في مدينة غزة التي عاد إليها خلال الهدنة بداية 2025 ليجد أن منزله هناك دمر بالكامل.
كلفته رحلة عودته من رفح إلى غزة 850 شيكل (نحو 250 دولاراً). اضطر حينها لبيع خيمته الأولى والبرميل الذي كان يخزن فيه المياه حتى يوفر مالاً للشحن.
وبعد عناء حصل وسام على خيمة جديدة وتمكن من تأثيثها واستقر بها في مدينة غزة. وليس مستعداً الآن للتخلي عنها: "حتى لو فرض النزوح لن أنزح، لن أعود إلى الصفر مجدداً وقد باتت لدي خيمة وسجاد وفرشٌ لي ولعائلتي".
يفكر وسام في الأمر باستمرار. ليس لديه مال يدفعه لعربات الشحن التي يقول إنها ستكلفه 2000 شيكل (حوالي 600 دولار) لنقل أسرته الصغيرة فقط دون إخوته. وليدفع أقل من ذلك عليه أن يتخلى عن بعض أغراضه.
"يكفينا ما حدث لنا. لن أخسر خيمتي، سأموت فيها. قد أرسل زوجتي وأولادي لوحدهم وأضل في خيمتي".
إلى هنا وصل حديثنا مع وسام، قبل أن يُقاطعه قصف الجيش الإسرائيلي لبرج الرؤيا على بعد نحو 200 متر من خيمته في الثامن من سبتمبر/أيلول.
وحذر مكتب حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة في مارس/آذار هذا العام من "تقلص المساحة للمدنيين في غزة الذين يجبرهم الجيش الإسرائيلي على النزوح".
وتحدث بيان للمكتب الإعلامي التابع لحماس في 9 سبتمبر/أيلول 2025 عن ما يعرف بـ"النزوح العكسي" من جنوب القطاع نحو غزة وشمالها.
وقال البيان إن "نحو 35 ألف مواطن اضطروا للنزوح جنوباً تحت وطأة القصف، لكن أكثر من 12 ألفاً عادوا إلى مناطقهم الأصلية حتى مساء الأحد الماضي، في ظل انعدام مقومات الحياة في الجنوب".
ونزح محمد غبن مع عائلته من بيت لاهيا شمال القطاع لكنه عاد بعد ليلة قضتها العائلة في العراء. "توجهنا إسرائيل نحو المواصي، نذهب هناك فلا نجد مكاناً يسعنا" يقول محمد.
وإن توفرت الأرض يكون ثمن إيجارها أكثر مما يطيقه أغلب النازحين. فقد بلغ إيجار متر الأرض الواحد الفارغ نحو 3 دولارات في الشهر.
تحتاج عائلة حنين مثلاً، إلى 500 متر لخيمة تكفي كل أفرادها. وبذلك تحتاج العائلة 1500 دولار شهرياً لاستئجار قطعة أرض خاوية.
"عندما نزحنا بداية الحرب إلي الجنوب كان إيجار الأرض 300 دولار شهرياً، وهو الآن 1500 دولار". تقول حنين.
أما ما بقي من الشقق والبيوت الفارغة في جنوب القطاع فيبلغ إيجارها بين 2000 إلى 5000 دولار شهرياً.
"أهلكنا النزوح، تعبنا وهذه الحرب لا تنتهي، كل ما أريده هو النجاة بأطفالي"، تحدثنا نوارة بينما تراقب عيناها الطريق في انتظار سيارة الشحن.
ساهمت في إعداد هذا التقرير من غزة الصحفية حنين حمدونة.