المحرر المقدسي إسحاق عرفة يلتقي بعائلته وأقاربه في تركيا بعد الإفراج عنه وإبعاده ضمن صفقة طوفان الأحرار، تحرر عقب اعتقال دام 13 عاماً وكان محكوماً بالمؤبد و 60 عاماً pic.twitter.com/Wvg60KfOap
— شبكة العاصمة الإخبارية (@alasimannews) February 9, 2025
إسطنبول- كُتب للأسير المقدسي المحرر إسحاق عرفة، والمقيم الآن في تركيا ، أن يولد مرتين، الأولى عندما رأت عيناه النور في 3 يوليو/تموز 1988 في مدينة القدس ، والثانية في 25 يناير/كانون الثاني المنصرم عندما تحرر في الدفعة الثانية من صفقة " طوفان الأحرار " التي أُبرمت بين حركة المقاومة الإسلامية ( حماس ) و إسرائيل ، وأُبعد خارج فلسطين .
وفي حوار خاص أجرته معه الجزيرة نت، انساب على لسان هذا المحرَر المبعد -الذي قضى 14 عاما خلف قضبان سجون الاحتلال- سيل من قصص الألم والأمل التي عاشها مع رفاقه، ولم يخْبُ حبّه للمسجد الأقصى طيلة مدّة لقائه، وقال إن حبّه هو الثابت الذي لا يتغير.
وتاليا نص الحوار كاملا:
ولدت في القدس، ومن يولد في القدس تولد المدينة فيه أيضا، وتصبح كلّ كيانه وطفولته وشبابه، فيعيش لأجلها، وفقدانها يعني فقدان عضو من الجسد، ولا شك أنني أتمنى أن أموت فيها.
ترعرعت في كنف أسرة متوسطة الدخل، لكنها بفضل الله ملتزمة دينيا، كان والدي يعمل حارسا في المسجد الأقصى وترك ذلك بصمته على شخصيتي، لأنه كان يصطحبني برفقته دائما.
تطلّ نافذة منزلنا على المسجد الأقصى وكنت أطيل النظر لقبة الصخرة الذهبية لعلّي أشبع من النظر إليها، وأفهم معاني هذا الذهب وبريقه.
وترعرعت أيضا في بيت جدتي في البلدة القديمة ، وبالتحديد ما يطلق عليه الاحتلال "حارة اليهود" وأشتاق لعبق تلك الحارة والبلدة القديمة وروائح الخبز والكعك.
الإنسان بطبيعته اجتماعي ولا يمكن أن يتخلى عن محيطه، والأصدقاء أمر أساسي في حياتي، وحرصت دائما أن تكون علاقاتي مع الآخرين مبنية على الوضوح والصراحة.
حملت هذه المبادئ معي إلى السجون، ووجدت هناك أن الفرص أفضل لإنشاء علاقات بحكم أننا نعيش على مسافة "صفر" من بعضنا البعض، وبالمجمل قررت أن تكون علاقاتي طيبة مع الجميع وأن تكون مشاكلي معهم "صفر" وهذه نظرتي للحياة.
هذا السؤال سأجيب عليه بدقائق، لكن الإجابة عليه تحتاج إلى ضعف الـ14 عاما التي قضيتها بالأسر، لأنه عميق جدا، وهناك تفاصيل كثيرة لن أستطيع أن أتطرق لها بسبب ضيق الوقت لكنني سأذهب لمواقف حدثت معي للإجابة عنه.
دخلت الأسر وعمري 23 عاما، وولدت من جديد قبل أشهر بعدما دفنت حيا خلف القيود والسلاسل والقضبان الحديدية، ولو خيروني بأن أقبل عيش قصة أسري من بدايتها حتى خاتمتها التي انتهت على يد المقاومة لقبلتها كما هي.
في السجن حققت كثيرا مما لم أكن سأحققه لو أنني خارجه، فحصلت على شهادتَي بكالوريوس، إحداهما في تخصص التاريخ والأخرى في العلوم السياسية، وعلى شهادتَي ماجستير أيضا إحداهما في الاقتصاد الإسلامي والأخرى في الدراسات الإقليمية.
في السجون أصبحت حرّا أكثر بعدما رفضت الاحتلال وقاومته بكامل إرادتي وحريتي وبصوتي المرتفع الذي رددت به أنني لن أعترف بهذا الاحتلال الذي منعني من دخول الأقصى لأنني كنت ممن يصلّون فيه دائما.
وهذا كان سبب ما قمت به من مقاومة، لأنني أُبعدت دون وجه حق، وبالتالي كنت حرّا وأعلنت عشقي للمسجد الأقصى على عكس الآخرين ممن لا يمكنهم قول ذلك صراحة خوفا من خسارة شيء أو من تقييد حريتهم.. دخلت الأسر وأنا أقول: هذا الاحتلال مجرم ويجب مقاومته ومقارعته وخرجت منه وأنا أقول ذات العبارة.
أشياء كثيرة كانت تمخر رأسي، كخشيتي من فقدان والدي ووالدتي بسماع خبر وفاتهما كما حدث مع الكثير من الأسرى، وعندما كان يموت أحد من ذوي الأسرى أقول لنفسي ربما يقف ملك الموت على باب منزل عائلتي وأنا في الأسر، لأن أمي وأبي كبار في السن.
كان هذا الهاجس يرافقني، وكلما تواصلت معهم خشيت أن أسمع كلمة "موت" وهذا سبب لي قلقا كبيرا خلال سنوات اعتقالي، وكان طموحي أن أتحرر وأتزوج وأن يرى أبي وأمي أولادي، وهذه أمنية أمي التي تحقق منها بفضل الله 70% بتحرري، وبقي أن أتزوج وأنجب الأطفال.
أنت تتحدث عن شخص حُكمه مؤبد بالإضافة لـ60 عاما، أي مدى الحياة، ويعني ذلك أنه سيموت داخل السجن، وكثيرون ماتوا قبل انتهاء فترة حكمهم، والآن يقضون ما تبقى منها في ثلاجات الموتى.
كتب الأسير الراحل وليد دقّة مسرحية ملحمية عن هذا الموضوع، ودار في أحداثها حوار بين الأسرى الشهداء القابعين في ثلاجات الموتى، وكانوا يتساءلون من سيزورهم أولا، هل هو الأسير المريض بالسرطان ناصر أبو حميد، أم الأسير المريض بالسرطان أيضا وليد دقّة.. لكن ناصر ذهب قبل وليد ولحقه الأخير، وانتهت هذه المسرحية لأن القلم سقط من يد كاتبها، وبقيت هذه الذكرى في أذهاننا ننقلها لنقول "هذه معاناة الأسير الفلسطيني".
لديّ قناعة أنه يجب أن تحاول فعل شيء، ولا أؤمن بالمثل الفلسطيني القائل "اللي بجرب المجرب عقله مخرّب" وصممت أن أجرب المجربين وأن يكون عقلي مُخَرّبا، وقلت لربما الظروف تتغير وأنجح، فحاولت لملمة شمل الكوادر المقدسية من الأسرى في جميع الفصائل وتواصلت مع العديد منهم، وحاولت الوصول لورقة تفاهم لطي صفحة الانقسام التي طالت، ولا تخدم الشعب الفلسطيني وقضيته.
قلت إنه يجب أن نتجه معا نحو مقارعة هذا الاحتلال وتوجيه البوصلة نحوه فقط، وهذا ما سعيت إليه.. لم أنجح كما يجب، لكنني حاولت واكتسبت معرفة، ومجرد المحاولة نجاح.
اكتشفت من خلال الإضراب عن الطعام أن الإنسان لديه قدرات لا يعرفها، وفي أول إضراب خضته عام 2012 كانت معلوماتي صفر عن هذه التجربة لأنني كنت حديث الأسر، وأضربت حينها 29 يوما كاملة زادتني قوة وهذا أعطاني ثقة بنفسي.
انتصرنا حينها، واستطعنا إخراج الأسرى المعزولين من الزنازين الانفرادية، بالإضافة لتحقيق زيارات الأهل لأسرى غزة، وكان شعورا لا يوصف، لأنني كنت أحد جنود هذه المعركة.
شاركت أيضا في عدد من الإضرابات الأخرى، ومنها ما خضته مع الأسرى المعتقلين إداريا احتجاجا على هذا الاعتقال التعسفي.
كان حكما ذاتيا بالفعل لأننا أقوياء، وكان الاحتلال يحسب ألف حساب للمقاومة، وعندما اشتبكت معه قرر أن يفعل بنا الأفاعيل، فسقط القناع عن وجه الاحتلال، ومارس سلوكه الطبيعي النازي الذي يمارسه بشكل دائم، ومارس بحقنا كل أساليب التعذيب.
نتحدث عن 73 شهيدا خلال فترة الحرب مقارنة بـ11 شهيدا في سجن غوانتنامو خلال عامين.. وعندما تحررت كنت قد فقدت من وزني 50 كيلوجراما، وظنّ الجميع أنني مريض، لكن الحقيقة أن الطعام الذي كنّا نأكله خلال فترة الحرب هو فقط من أجل أن نتحمل الضرب والإهانات والقمع، وكي لا نموت.. وكان هذا الهدف الوحيد للطعام.
كتبتُ يوما مقالا تحت عنوان "دولة السجون" بعدما مررت على كافة السجون تقريبا، بدءا من مركز تحقيق المسكوبية، مرورا بكل من جلبوع وعسقلان وإيشل، ثم نفحة الصحراوي وهداريم وشطّة، والنقب الذي تحررت منه، وبعض السجون عشتُ فيها على فترتين بسبب التنقلات الدائمة.
بخصوص نشاطي الثقافي، فبالإضافة إلى الشهادات الجامعية، كتبت العديد من المقالات والأوراق البحثية، وألفت كتابا يتحدث عن قرى القدس المهجرة أطلقت عليه اسم "الذاكرة الغربية للقدس" وهو كتاب إلكتروني وأسعى الآن لتطويره ليكون على شكل تطبيق، كما كتبت رواية سأنشرها قريبا وستصدر عن دار الشروق تحت عنوان "حجارة تعشق السور " وهي مخصصة للجيل الناشئ، وتتحدث عن الأقصى، وأننا لسنا وحدنا من نعشقه، بل الحجارة تعشقه أيضا.
كنّا نصلي الفجر، وفُتحت أبواب الزنزانة بوقت مبكر جدا على غير العادة، وبدأت مكبرات الصوت تنادي على أسماء بعض الأسرى، ولم نعلم إن كان الإفراج أم النقل أم الإعدام هو ما ينتظرنا، لكن الأرجح كان الإفراج بسبب توارد بعض الأخبار عن الصفقة إلى مسامعنا.
لم أتوقع بنسبة 1% أن أكون من بين المفرج عنهم بحكم أنني لست من بين القدامى في السجون، فغيري يمكث فيها منذ 30 و40 عاما، ورغم ذلك كانت لدي قناعة أنني سأتحرر، وأن الباب سيفتح لي، وكان السجان يعرف أن هذا اليوم آت، لكن حتى يحين موعده استمر بالفتك بنا وقمعنا قدر الإمكان.
نادوا على الأسير عبد الله الشرباتي وقالوا اخرج الآن ولا تأخذ معك شيئا.. رأيت في عيونه الصدمة والكثير من الأسئلة، فاقتربت منه وقلت له: ليس وقت الأسئلة الآن جهّز نفسك واخرج، ثم جاء دوري وسمعت اسمي فأصابني ما أصابه وقال لي الأسرى ما قلته لمن سبقني وخرجت.
نحن خرجنا بقدرة الله، ثم بإرادة أهلنا في غزة، وهؤلاء سبب حريتنا وسيكونون سبب حرية هذه الأمة، بل وحرية هذا الكون من الصهيونية
إذا سُئلتُ عن شعوري في تلك اللحظة سأقول إنه شعور من أوتي كتابه بيمينه، وشعور من كان في بحر يتكئ على قطعة خشبية وينتظر من ينقذه من أسماك القرش التي تحوم حوله، وشعور من أُلقي من طائرة وفُتحت مظلته للهبوط الآمن في آخر لحظة، ومهما كتبت وقلت فلن أصف هذا الشعور، لكن الفرحة كانت منقوصة لأن خلفي إخوة لا أحد يعرف مدى معاناتهم.
أولا وآخرا نحن خرجنا بقدرة الله، ثم بإرادة أهلنا في غزة ، والله لو حفرت نفقا من غزة إلى رأس الناقورة لن أوفيهم الدين الذي في رقابنا تجاههم، وهؤلاء سبب حريتنا وسيكونون سبب حرية هذه الأمة، بل وحرية هذا الكون من الصهيونية.
تأثر والداي كثيرا عند رؤيتي، ووثقت العدسات هجومي على قدم أمي عندما رأيتها.. لم أفكر بتقبيل جبينها أو كفها بل قدمها فقط، ونذرت أن أفعل ذلك بمجرد رؤيتها.
هاتان القدمان تعبتا كثيرا معي، فسارتا من سجن إلى آخر، ومن سوق إلى آخر لشراء ملابسي واحتياجاتي، وتعذبتا على أعتاب السجون من أجل التفتيش، وكل ذلك حاضر في ذهني.
أمي هي التي أرضعتني حب هذه البلاد وحب المسجد الأقصى، وكأن في تركيبة الحليب شيء يربطنا بالمسجد، وبالمناسبة من يشرب من مياه المسجد الأقصى يعشق هذا المقدس، ومياهه بالنسبة لنا مقدسة كماء زمزم.
لحظة الانتقال من بين أيدي الاحتلال إلى أيدي المخابرات المصرية قد أُصدر في المستقبل عنها كُتيّبا.
فجأة أصبحت حرّاً بلا قيود ولا تعليمات، وفجأة انتقلت من حافلة مقاعدها حديدية إلى أخرى مقاعدها إسفنجية، ومن أشخاص كانوا طوال الرحلة يشتمونني إلى أشخاص قالوا لي بمجرد رؤيتي أهلا وسهلا شرفت ونوّرت.
من رفح انتقلت إلى القاهرة ، وبعد فترة انتقلت إلى هذا البلد الحبيب "تركيا" الذي لنا فيه نحن أهل القدس الكثير من الذكريات، لأن بصمات الدولة العثمانية حاضرة في أزقة القدس حتى يومنا هذا.
تركيا محطة احتضنتنا، وأشكر رئيسها رجب طيب أردوغان الذي استقبلنا، على عكس الكثيرين ممن خافوا من استقبالنا، وبإذن الله فإن السفن التي فُتحت فيها القسطنطينية التي كانت لمدة 800 عام عصية على الفتح، ستفتح فيها مدينة القدس أيضا.. وكما تحررت وكان ذلك مستحيلا ستكون حرية هذه المدينة قريبة إن شاء الله.
إجابتي عن هذا السؤال ستكون سريعة وبدون أي تفكير: المسجد الأقصى، وأول شيء سأفعله عندما أصل القدس هو الذهاب إليه والسجود على ترابه سجدة طويلة جدا أذرف بها الدموع حتى يتبلل التراب، ثم أزرع زهرة حنون صغيرة وأسقيها بدموعي، لأن هذا المقدس هو محور الكون بالنسبة لي، ولا مثيل لوجوده على هذه الأرض فهو نسخة واحدة فقط.
ولو قالوا إن الحياة ممكنة على أي كوكب آخر فستكون تعيسة لأن الأقصى غير موجود هناك.