يُعد كتاب آدم ليبور، "برج بازل"، الذي صدر عام 2013 دراسة نادرة حول واحدة من أكثر المؤسسات المالية غموضا في العالم، إنه بنك التسويات الدولية الذي تأسس عام 1930 في مدينة بازل في سويسرا، وهو غني بالأحداث والأمثلة والأرقام، لكن في هذا المقال تلخيص مركز لأهم ما ورد فيه.
لعب بنك التسويات الدولية دورا محوريا في تشكيل النظام المالي العالمي والعلاقات الدولية وحتى مسار الحروب، بينما حافظ على سرية شبه مطلقة، ويكشف الكتاب كيف تطورت هذه المؤسسة من جذورها المرتبطة بتعويضات الحرب الألمانية إلى موقعها الحالي باعتبارها (بنك البنوك المركزية)، الذي يملك سلطة هائلة لكنه يعمل خارج نطاق الرقابة الديمقراطية.
نشأ بنك التسويات الدولية في أعقاب الحرب العالمية الأولى ، فبموجب خطة يونغ لعام 1929، كان من المفترض أن يتولى إدارة التعويضات الألمانية إلا أن الهدف الحقيقي كان أوسع من ذلك؛ إذ مثّل الحلم القديم لحكام البنوك المركزية إنشاء نادٍ للتكنوقراط مستقل عن السياسيين، ولعب محافظ بنك إنجلترا آنذاك مونتاغو نورمان ورئيس بنك الرايخ هيالمار شاخت الدور الرئيسي في تأسيسه.
وضمنت المواد التأسيسية للبنك استقلالية مطلقة عن الحكومات الوطنية، وإعفاء من الضرائب، وحماية من المصادرة القانونية، ويشير ليبور إلى أن البنك كان تتويجا لحلم المصرفيين المركزيين الممتد لعقود، وقد سمح هذا الإطار القانوني له بأن يعمل ككيان سيادي يخدم في الوقت نفسه المصالح الخاصة والدولية.
منذ بداياته، رسخ بنك التسويات الدولية ثقافة مغلقة، فقد كان المديرون والمصرفيون يجتمعون في بازل، تحت حماية الحياد السويسري، لاتخاذ قرارات تؤثر في الاقتصاد العالمي، ولم تُسجل محاضر رسمية للاجتماعات؛ بل كانت الاتفاقات تتم بناءً على الثقة والالتزامات الشفهية، كما أن الحصانات القانونية التي أقرها ميثاق لاهاي ضمنت أن أصول البنك لا يمكن مصادرتها في السلم أو الحرب.
وأرست هذه السرية نمطا من الانتقادات امتد لعقود، إذ اتُّخذت قرارات ذات تبعات سياسية واقتصادية هائلة خلف أبواب مغلقة من قبل تكنوقراط غير منتخبين.
يعتبر اليبور أن أكثر الفصول إثارة للجدل في تاريخ البنك تلك المرحلة خلال الحرب العالمية الثانية، حين قَبِل البنك ذهبا منهوبا من ألمانيا النازية ، بما في ذلك الذهب المصادر من البنك المركزي البلجيكي وحتى الأصول المسروقة من ضحايا معسكرات الاعتقال.
وكان رئيس البنك آنذاك، الأميركي توماس ماكيتريك، يحافظ على علاقات ودية مع ممثلين من الحلفاء والمحور على حد سواء، ورغم الحرب، استمرت اجتماعات المصرفيين المركزيين من الدول المتحاربة في بازل، إذ أعطوا الأولوية للتعاون المالي على حساب السياسة.
أثار هذا الواقع تساؤلات أخلاقية عميقة، هل كان البنك يسهّل جرائم النازية، أم أنه كان يحافظ ببراغماتية على قنوات التمويل العالمية؟
بعد عام 1945، وُجهت تهم جرائم حرب لـ5 من مديري البنك، من بينهم شاخت ومع ذلك، ونجا بنك التسويات الدولية نفسه، ففي مؤتمر بريتون وودز 1944، صوّت الوفدان الأميركي والبريطاني في البداية على حله بسبب تعاونه مع النازيين، لكن الضغط الذي مارسه المصرفيون أنقذه، وسرعان ما أُعيد دمج مصرفيين وصناعيين على صلة بالنازيين في النظام المالي لألمانيا الغربية، ويصف ليبور هذه الظاهرة بـ"صعود قتلة المكاتب"، وهكذا أصبح البنك جسرا بين التمويل الفاشي زمن الحرب والتعافي الاقتصادي الأوروبي بعد الحرب، ضامنا استمرار هيمنة النخب المالية.
في مرحلة ما بعد الحرب، لعب البنك دورا محوريا في بناء بنية التكامل الاقتصادي الأوروبي فقد أدار اتحاد المدفوعات الأوروبي في خمسينيات القرن الماضي، ما سهّل التجارة عبر الحدود من خلال إنشاء نظام مقاصة متعدد الأطراف، كما استضاف لجنة محافظي بنوك المجموعة الاقتصادية الأوروبية عام 1964 التي أرست الأساس لتنسيق السياسات النقدية.
وفي وقت لاحق، لعب دورا في إعداد تقرير ديلور 1988الذي مهد الطريق لليورو، وهكذا، بينما كان السياسيون يتجادلون، كان البنك يضع بهدوء الأسس التقنية والمالية للوحدة الأوروبية.
لم يكن بنك التسويات الدولية مجرد بنك، بل صار منظما عالميا عبر لجنة بازل للإشراف المصرفي التي أنشئت عام 1974، والتي وضعت اتفاقية بازل الأولى عام 1988 نسبة كفاية رأس المال عند 8%. وتوسعت اتفاقيات بازل الثانية والثالثة لتشمل الأصول المرجحة بالمخاطر ومعايير السيولة وإدارة المخاطر النظامية.
ورغم أن البنك لا يملك سلطة تنفيذية، إلا أن توصياته مؤثرة إلى حد أن العديد من الدول دمجتها في قوانينها الوطنية، مما يبرز قوته الناعمة في صياغة القواعد من دون رقابة ديمقراطية مباشرة.
في عام 1977، انتقل البنك إلى مقره الجديد الدائري في بازل، الذي أصبح رمزا للدوام والانفراد وصار الرمزية للمصرفية المركزية العالمية، وتوسعت العضوية لتشمل اقتصادات ناشئة مثل الصين والهند والبرازيل، لكنها بقيت انتقائية، وبحلول أوائل القرن الـ21، أصبح البنك يحتل المرتبة الـ30 عالميا في احتياطي الذهب 119 طنا متريا، ما يعكس قوته المالية المستمرة.
خلال الأزمة المالية العالمية عام 2008، لعب البنك دورًا محوريًا فقد وفرت لجانه منصات لتنسيق إجراءات السيولة الطارئة بين البنوك المركزية، ووفقًا لمحافظ بنك إنجلترا آنذاك، ميرفن كينغ، كان البنك مكانا بالغ الأهمية خلال الأزمة، غير أن وصفاته مالت نحو التقشف والمحافظة المالية ما ساهم في أزمة منطقة اليورو، حيث تبين أهمية دور البنك في إدارة الأزمات.
يثير ليبور تساؤلات أساسية حول البنك الغامض، إذ ينشر تقارير علنية، لكن محتوى اجتماعاته يبقى سريا، ومن حيث المساألة، فالأصل أن المصرفيين المركزيين هم موظفون عموميون، لكنهم في هذا البنك يعملون كأعضاء في نادٍ نخبوي خارج نطاق الرقابة، كما يشكل البنك، إلى جانب صندوق النقد الدولي و البنك المركزي الأوروبي ، مثلثا تكنوقراطيا لتركيز السلطة، ويتخذ قرارات تمس مليارات البشر من دون إشراف ديمقراطي.
ويشكل هذا التوتر بين الكفاءة التكنوقراطية والشرعية الديمقراطية محور النقد المركزي للكتاب.
في خاتمته، يشير ليبور إلى أن البنك يواجه تحديات فرضتها العولمة والمطالب الشعبية بالشفافية وصعود الشعبوية التي تناهض ثقافة السرية المتجذرة في تأسيسه، وهذه السرية قد لا تكون قابلة للاستمرار.
ويكشف كتاب برج بازل كيف أن مؤسسة لم يسمع بها معظم الناس، متمركزة في سويسرا، قد أسهمت في تشكيل مسار التاريخ العالمي، فمن إدارة التعويضات الألمانية إلى التعامل مع الذهب النازي، ومن تمهيد التكامل الأوروبي إلى قيادة إدارة الأزمات المالية، كان البنك حاضرا في قلب الأحداث رغم كونه غير مرئي للعامة.
وفي النهاية، يطرح آدم ليبور سؤالا جوهريا: "هل ينبغي أن تظل هذه القوة المالية الهائلة مركزة في مؤسسة سرية وغير منتخبة في قلب بازل؟".