منذ اندلاع الحرب على غزة في أكتوبر/تشرين الأول 2023، تصدّر المشهد الدولي والإعلامي تيارات يهودية مناهضة للصهيونية ترفض أن يكون "أمن اليهود" مبررا للعنف ضدّ الفلسطينيين، مطالبين بوقف فوري لإطلاق النار، معلنين في الوقت ذاته وقوفهم الكامل مع حقوق الفلسطينيين.
تسعى هذه التيارات جاهدة إلى التأكيد على الفارق الشاسع بين اليهودية كدين والصهيونية كأيديولوجية سياسية. وهي مسألة شائكة في الشارع العربي والإسلامي، يكتنفها كثير من الغموض والالتباس.
وتكشف حدة تصاعد هذه التيارات داخل المجتمع اليهودي عن انقسامات فكرية وثقافية عميقة تمسّ أحد أكثر ثوابت المشروع الصهيوني خطورة وحساسية، بعدما بات يثار داخل الأوساط اليهودية اليوم نقاش غير مسبوق حول شرعية وجود دولة قومية لليهود في فلسطين، وحول مستقبل اليهودية خارج الأطر الصهيونية.
في مقدمة هذه التيارات، تأتي منظمة "الصوت اليهودي من أجل السلام" التي تأسّست عام 1996 في جامعة بيركلي بولاية كاليفورنيا على يد 3 طالبات يهوديات أميركيات. وهي حركة حقوقية ويسارية نمت مع مرور الأيام حتى أصبح لها اليوم نحو 34 فرعا في ولايات ومدن أميركية.
والتقت الجزيرة نت الناشط اليهودي الأميركي في فرع المنظمة في بوسطن، إليا غيرزون، الذي أكد أنهم لا يرون أنفسهم حركة سياسية فحسب، بل إنهم مشروع ثقافي وأخلاقي متكامل يستند إلى تراث يهودي عريق في مقاومة العنصرية والاستعمار والدعوة إلى العدالة الاجتماعية.
وأضاف أنهم يسعون إلى قراءة جديدة للإرث اليهودي انطلاقا من كونه تراثا إنسانيا منفتحا ومتجذرا في مبادئ العدل، بغية إعادة تعريف الهوية اليهودية بمعزل عن الصهيونية.
وهذا نص الحوار:
اليهودية دين عمره آلاف السنين، بينما الصهيونية أيديولوجية لا يتجاوز عمرها 130 عاما. ومنذ نشوء الصهيونية، كان هناك يهود يعارضونها. "الصوت اليهودي من أجل السلام" يستند إلى هذه التقاليد اليهودية المناهضة للصهيونية.
في الوقت نفسه، نحن نؤمن بأن على كل إنسان أن يعارض العنصرية والاستعمار والإبادة الجماعية، بعضنا مدفوع بمعارضته هذه الجرائم بسبب تاريخه العائلي نتيجة المعاناة من العنصرية والإبادة اليهودية.
جزء من عملنا في "الصوت اليهودي من أجل السلام" هو بناء يهودية خالية من الصهيونية، تقوم على التضامن مع الفلسطينيين والالتزام بالتحرر لجميع الشعوب.
ونرفض تماما فكرة أن اضطهاد الفلسطينيين وقمع حرية التعبير في الولايات المتحدة ضروريان لحماية اليهود. نحن نجد الأمان في العمل مع الآخرين من أجل عالم يقوم على العدالة والكرامة والمساواة للجميع.
عديدون منا يحتفلون بالأعياد والطقوس اليهودية مع دمجها في نضالنا من أجل تحرير فلسطين. على سبيل المثال، أنشأت منظمتنا نصا خاصا بعيد الفصح اليهودي، نقتبس فيه من يهود مناهضين للصهيونية، ومن فلسطينيين، ومن حكماء يهود ونصوص قديمة. هذه الممارسة ليست جديدة، ففي عام 1969، أقام الحاخام آرثر واسكاو "عيد فصح الحرية"، إذ دمج حينها بين الطقوس اليهودية التقليدية والالتزامات السياسية الحديثة مثل مناهضة حرب فيتنام ودعم نضال الأميركيين السود.
الاتهامات الكاذبة بـ"معاداة السامية" ضد من يدافعون عن حرية الفلسطينيين هي محاولات خبيثة لتسليح مفهوم "معاداة السامية" كأداة للقمع السياسي. هذا يشوّه المعنى الحقيقي للمصطلح ولا يساهم في حماية اليهود.
من منظور تاريخي، نحن ملتزمون بإبراز تاريخ اليهود المناهضين للصهيونية. على سبيل المثال، "اتحاد العمال اليهود" (البوند) الذي كان واسع النفوذ في أوروبا في النصف الأول من القرن الـ20، والذي عارض الصهيونية وأكد أن على اليهود نيل حقوقهم وأمانهم أينما كانوا.
لقد لعب "البوند" دورا في مقاومة النازية، وكثير منا يستمد القوة من ذاكرتهم، ونحن نسعى لتفكيك هيمنة "التفوق اليهودي" ومحاربة الفاشية في الولايات المتحدة.
ونرى أن مسؤوليتنا هي حشد آلاف اليهود في الولايات المتحدة للمشاركة في المظاهرات، ومخاطبة النواب، وكتابة المقالات، وإلقاء الخطابات، لإظهار أن هناك معارضة يهودية واضحة لدعم الولايات المتحدة للحكومة والجيش الإسرائيليين.
الصهيونية غالبا ما تطمس تنوع التاريخ والثقافة اليهودية. نرى من واجبنا أن نعيد إحياء هذه التواريخ وأن نعيد وصل صلتنا بتقاليدنا. ونفعل ذلك عبر التثقيف السياسي في مجتمعاتنا وعلى وسائل التواصل الاجتماعي.
كثير من أعضاء منظمتنا أحفاد لأشخاص نجوا أو قتلوا في الإبادة النازية، لذلك ندرك بعمق معنى الإبادة وآثارها الممتدة عبر الأجيال، وهذا التاريخ يعزز رفضنا لإبادة غزة.
كما أن بيننا يهودا عربا، ويهودا فلسطينيين عاشوا في فلسطين قبل قيام الدولة الصهيونية. الصهيونية تسعى لخلق انقسام مصطنع بين "اليهود" و"العرب"، لكن الحقيقة أن هناك كثيرين ينتمون إلى الهويتين معا.
نحن نؤكد أن هذا الصراع ليس بين اليهود والعرب، ولا بين اليهود والفلسطينيين، بل بين من يريدون الحفاظ على دولة تقوم على "التفوق اليهودي" ومن يسعون -من خلفيات متعددة- إلى الحرية والعدالة للفلسطينيين.
الدعاية الصهيونية (الهاسبارا) أصبحت أقل فاعلية، خصوصا بين الأجيال الشابة. إنتاجهم الفني ضعيف وغير مقنع. بينما تراجع الإجماع المؤيد لإسرائيل في الولايات المتحدة، بفضل العمل الثقافي المذهل للفلسطينيين وداعميهم، من أفلام ووثائقيات وأشكال متنوعة من السرد الفني.
اليهودية تقليد غني ومتنوع، له تفسيرات متعددة، وتاريخ طويل في ربط العدالة الاجتماعية بالنصوص الدينية. من القيم اليهودية "تيكون عولام" أي "إصلاح العالم"، وهي دعوة لتحسين العالم ككل، لا المجتمع اليهودي فقط.
إحدى طرق تجسيدنا لهذه القيمة هي دعم التحرير الفلسطيني. الاتهامات بـ"كراهية الذات" سخيفة ومهينة وبعيدة عن الحقيقة. حركتنا تضم يهودا مناهضين للصهيونية يحبون تقاليدهم ويكرّمون أجدادهم ويتمسكون بحرية الفلسطينيين، وأنا فخور بانتمائي لهذه الحركة وهذا النضال.
بوصفنا معارضين للصهيونية، قلوبنا تنكسر كل يوم بسبب ما يتعرض له الفلسطينيون من عنف، لكننا نقف متحدين ونقول: "ليس باسمنا!".
نرفض الطريقة التي اختطفت بها الصهيونية اليهودية، ونعمل على استعادتها كتقليد روحي إنساني منفتح ومتجذّر في العدالة.
اليهودية دين يقوم على العمل والتجسيد، وطقوسها كانت دائما وسيلة للتأمل الأخلاقي والمساءلة الجماعية. لذلك نحن لا نقلل من شأن الطقوس، بل نعيد تأويلها وتجسيدها بما يتماشى مع جوهر رسالتنا: "العدلَ.. العدلَ تتبع"، كما جاء في سفر التثنية 16:20.
نرى في الطقوس وسيلة للتجدد والإلهام لمواصلة التزامنا بالتحرير الفلسطيني. في "يوم الغفران"، نمارس اعترافا جماعيا يشمل مسؤوليتنا عن السكوت على العنف أو الاستفادة منه، سواء في فلسطين أو في وطننا. في "عيد المظال"، نستضيف في خيامنا الرمزية أرواح المناضلين الفلسطينيين والسود والسكان الأصليين واليهود المناهضين للصهيونية. في "عيد الشجرة اليهودي" (طو بشفاط)، نربط بين حماية البيئة والنضال ضد الاستعمار، ونؤكد على حق الأرض في الازدهار دون استغلال.
كل هذه الممارسات تجسد مبدأ "الوجود هنا" الذي يعني أن اليهود يمكنهم أن يعيشوا في أي مكان بانسجام وتضامن مع جيرانهم، دون تميّز أو تفوق.
في "الصوت اليهودي من أجل السلام- بوسطن" نبني بيتا روحيا لليهود المناهضين للصهيونية الباحثين عن ارتباط صادق باليهودية بعيدا عن القومية. نغنّي الصلوات والأناشيد الثورية لتغذية الأمل والشجاعة. طقوسنا هي التربة التي نعالج فيها حزننا على الإبادة والتطهير العرقي في غزة والضفة، ونستمد منها طاقتنا لمواصلة العمل.
هدفنا هو إنهاء التحالف الأميركي الإسرائيلي، وإنهاء دعم الولايات المتحدة لسياسات الفصل العنصري والاحتلال والإبادة التي يمارسها النظام الإسرائيلي.
كما نطمح إلى بناء تقاليد يهودية مزدهرة في الشتات، خالية من الصهيونية، يعيش فيها اليهود بأمان وتضامن مع جيرانهم.
وجوهر نضالنا هو العمل مع الفلسطينيين من أجل مستقبل يقوم على تقرير المصير والحرية وحق العودة الكامل.
نسعى إلى تحرير جماعي، إلى عالم خالٍ من التفوق الأبيض والاستعمار والرأسمالية، وإلى عالم يستطيع فيه كل البشر أن يزدهروا بحرية وأمان.
المصدر:
الجزيرة
مصدر الصورة
مصدر الصورة
مصدر الصورة
مصدر الصورة