آخر الأخبار

"أعيدوا النظر في تلك المقبرة".. رحلة شعرية بين سراديب الموت والحياة

شارك

معتصم الشاعر*

في ديوانه "أعيدوا النظر في تلك المقبرة"، وباختياره مفردات مثيرة للحنين والتأمل، يأخذنا الشاعر الكويتي دخيل الخليفة في رحلة شعورية عميقة وثرية، على صهوة نص يمشي على رمال كثيفة من العلامات والرموز، تكون العناوين فيه أشبه بالأطلال التي يدعونا الشعراء للوقوف عليها لبكاء الذكريات.

اقرأ أيضا

list of 2 items
* list 1 of 2 رواية "مقعد أخير في الحافلة" لأسامة زيد: هشاشة الإنسان أمام مآسي الواقع
* list 2 of 2 أرشفة غزة في الحاضر: توثيق مشهد وهو يختفي end of list

وتبدأ الرحلة من عنوانه الرئيس المفعم بطاقته الإيحائية المكثّفة، بتشكله من 3 طبقات دلالية: الموت (المقبرة)، والدعوة (أعيدوا)، والمسافة (اسم الإشارة تلك).

تمثل المقبرة مركز الصورة، فهي رمز للغياب، وللذكريات، وللعادات الميتة، وللفقد، وللحرب، وللزمن الذي طُمِس. وتؤدي هذه الطبقات الثلاث إلى توليد حقل دلالي يتألف من 4 نوى: الموت، والذاكرة، والمراجعة/النظر، والنداء الجماعي.

ستظهر هذه الحقول متفرّعة داخل الأقسام الثلاثة التي تحمل عناوين فرعية: "ظلال في مقبرة الذاكرة"، و"وعل في دائرة عروضية"، و"أصدقاء"، على التوالي. ثم تتشعب رحلتنا عبر عشرات العناوين القصيرة التي تشكل عتبات للقصائد، فقد برع الشاعر في نظام العنونة، كاشفا لنا عن رؤيته للعالم وطريقة تمثيله للموضوعات.

سنستكشف ذلك في هذا المقال بتطبيق مفهوم الحقل الدلالي (Semantic Field)، وهو أحد أهم المفاهيم الأساسية في اللسانيات والدلالة، ويقصد به المجموعة من الكلمات التي ترتبط فيما بينها بموضوع واحد أو مجال معنوي واحد، بحيث تشترك في جزء من معناها أو تستعمل في سياق دلالي واحد، وتكشف عن علاقات تضاد وترادف وتقاطع واقتراب وانزياح.

تمثل المقبرة مركز الصورة، فهي رمز للغياب، وللذكريات، وللعادات الميتة، وللفقد، وللحرب، وللزمن الذي طُمِس. وتؤدي هذه الطبقات الثلاث إلى توليد حقل دلالي يتألف من 4 نوى: الموت، والذاكرة، والمراجعة/النظر، والنداء الجماعي

ظلال في مقبرة الذاكرة

يعد القسم الأول من "أعيدوا النظر في تلك المقبرة" بمثابة مدخل وجودي ونفسي له، وهو الأكثر كثافة وعمقا من حيث الحقول الدلالية التي يشتغل عليها الشاعر.

إعلان

ويكشف لنا التحليل الدلالي لعنوان القسم عن علاقة تضاد عميقة بين دلالة الذاكرة (الحياة، البقاء، والوعي) ودلالة المقبرة (الموت والنهاية والاندثار).

أما وظيفة الظلال فالربط بين الحقلين، فهي تنتمي في وقت واحد لحقل الفناء (لأنها ليست شيئا ماديا تماما) وحقل البقاء (لأن لها أثرا محسوسا).

وهنالك حقل دلالي ثالث، وهو العلاقة والاحتواء (التأزم) ويضم العناصر التي تحدد العلاقة بين الحقلين المتناقضين، مما ينتج حالة التأزم، فحرف الجر "في" الذي يحيل دلاليا إلى الاحتواء والظرفية المكانية، والتركيب الإضافي الذي يجمع بين النقيضين (مقبرة الذاكرة) يشكلان العلاقة المتأزمة بين الحقلين اللذين يجتمعان في مكان واحد (الوعي).

وبتحليل عناوين القصائد، نجد أنها تعمل كوحدات دلالية صغيرة تشكل شبكة مترابطة داخل القسم، سنكتشف 5 حقول دلالية، تقدم للقارئ تجربة شعورية مظلمة وغنية بالصور الرمزية، وهذه الحقول هي:

حقل الموت والفقد: تتمحور حوله العديد من العناوين مثل: "صديق الجنائز"، و"أمنيات موتى"، و"نصف حياة"، و"عصفور قتيل"، و"دم أزرق". تشير هذه العناوين إلى حضور الموت كرمز للفقد النفسي، للذكريات الميتة، ولتداعي الهوية الإنسانية. كما تظهر الألوان والدلالات الرمزية، مثل "دم أزرق"، لتؤكد التوتر النفسي الداخلي للشاعر، حيث تتحول عناصر الحياة اليومية إلى رموز للموت والغياب.

حقل الذاكرة الجريحة: "شرفة تجرح الذاكرة"، "مد وجزر"، "نكران"، "رحلة قصيرة"، "مفاتيح يربطها حبل سري".

حقل الغربة والانفصال: يتضح من عناوين مثل: "عوالم"، "غربة"، "طرق معلقة"، "شجرة"، "عزلة كائن الجمر"، "ريح"، "ليل فارغ اليدين".

حقل الحرب والاضطراب: "ضجيج"، "حرب أيضا"، "بحث"، "اتجاهان"، "رائحة الدوي".

حقل الجسد والضعف الإنساني: "كرسي أعرج يحتضن الدخان"، "خطوات على عكاز"، "يهرب من ثوبه الضيق". وهي تجسد حالة الجسد المتعب، والهش، والمحدود في مواجهة الموت والغربة.

وعل في دائرة عروضية

تحيلنا مفردات هذا العنوان الفرعي إلى الآتي: وعل (طبيعة/ جبال/ شراسة/ حرية)، ودائرة (انغلاق/ دوران)، وعروضية (بحور/ وزن/ إيقاع/ قيد). ينشأ عنها حقل دلالي مركب يجمع بين: الحيوان/ الطبيعة والشعر/ البناء العروضي. ويشي هذا بتوتر بين حرية الشاعر وحلمه بفضاءات أوسع والقيود المكانية أو قيود التعبير.

لذا يختلف القسم الثاني عن الأول من حيث التركيز الدلالي والأسلوبي، فهو يمثل مرحلة التحول الداخلي للشاعر من مواجهة الموت والغربة إلى الانغماس في الشعر ذاته، واللغة، والإيقاع.

يختلف القسم الثاني عن الأول من حيث التركيز الدلالي والأسلوبي، فهو يمثل مرحلة التحول الداخلي للشاعر من مواجهة الموت والغربة إلى الانغماس في الشعر ذاته، واللغة، والإيقاع

وتظهر لنا عناوين تميل إلى التأمل الداخلي، والهموم الوجودية، والاشتغال على الإيقاع، حيث يتحول التركيز من موضوعات الموت والفقد إلى العمق النفسي والفني للقصيدة، وتتوزع في الحقول الآتية:

حقل الاكتئاب والانعزال الشعوري: ونجد فيه تصوير العزلة النفسية والانغماس الداخلي. وتختلف العزلة هنا عن التي في القسم الأول بأنها ليست مرتبطة مباشرة بالموت أو الحرب، بل بالتأمل في الذات، والقصيدة، وأسرار الشاعر. وتمثل هذا الحقل العناوين التالية: "مات مكتئبا مثل كل الطيور"، "ظل"، "سر مدفون في تنهيدتين"، "غرفة خافتة"، "صمت"، "عشر دقائق تكفي".

إعلان

حقل السر والرمز: تظهر العناوين اهتماما بالسر والخفاء، مثل: "سر مدفون في تنهيدتين"، "غرفة خافتة". وتدل على اشتغال الشاعر بالعالم الداخلي والخفي، وتصبح القصيدة أداة لاستكشاف الذات المجهولة.

حقل الزمان والإيقاع الشعري: "عشر دقائق تكفي"، و"صمت"، و"مات مكتئبا مثل كل الطيور"، و"سر مدفون في تنهيدتين"، و"ذاكرة الليل المملح". كلها تعكس الاهتمام بالوقت، والإيقاع، والوقفات الشعرية، وهي عناصر مرتبطة مباشرة بالعروض والإيقاع الداخلي للقصيدة.

ويبدو أن عنوان القسم: "وعل في دائرة عروضية" يرمز إلى الحركة الدائرية للإيقاع والتكرار الشعوري، تماما كما يتحرك الوعل في دائرة.

ونلاحظ حركة بعض العناوين في أكثر من حقل دلالي، مما يعكس تكرار التجربة الشعورية والوجودية بشكل دوري، لكنه أقل حدة من الموت والغربة في القسم الأول.

أصدقاء

يمثل القسم الثالث من ديوان "أعيدوا النظر إلى تلك المقبرة" مرحلة الانفتاح على الآخر، وتأكيد العلاقات الإنسانية والذاكرة الحية، بعد المرور بالظلام الوجودي للقسم الأول والتأمل الداخلي للقسم الثاني.

ويتميز هذا القسم بعناوين تأخذ بعدا اجتماعيا وإنسانيا واضحا، يختلف عن الحقول الدلالية السابقة التي ارتكزت على الموت، والغربة، والاكتئاب.

فالصداقة تحيلنا إلى حقل مختلف يحمل دلالات الألفة، والرفقة، والهم المشترك، والعزاء، والحضور، والغياب، والذكريات والمواقف وطعم الحياة.

يمثل القسم الثالث من ديوان "أعيدوا النظر إلى تلك المقبرة" مرحلة الانفتاح على الآخر، وتأكيد العلاقات الإنسانية والذاكرة الحية، بعد المرور بالظلام الوجودي للقسم الأول والتأمل الداخلي للقسم الثاني

حقل الصداقة والروابط الإنسانية: حيث جاءت عناوين القصائد بأسماء أصدقاء الشاعر: عبد الله الفلاح، فهد الرديني، كريم الهزاع، محمد السالم، سعد فرحان، حسن المسعودي، حسين الجفال، سعد كريم، هاشم الياسري.

هذا الاستخدام المباشر لأسماء الأصدقاء يظهر تأكيدا على حضور الآخر في حياة الشاعر، ويحوّل النص إلى شبكة تواصل اجتماعي وشخصي داخل البنية الشعرية. كما أن ذكر الأسماء يجعل القارئ يشعر بالارتباط الواقعي للشاعر بالأصدقاء والذاكرة المشتركة.

حقل الحركة والحرية والاحتفاء بالحياة: تشير إلى حرية الحركة والانسياب الإيقاعي للحياة الإنسانية، مقابل الجمود والانعزال في الأقسام السابقة. هنا تتحول التجربة من الموت والغربة والاكتئاب إلى الانفتاح والتفاعل مع العالم الخارجي. نجد ذلك في العنوانين: "يمشي الحرف مزهوا" و"ساحوا في الريح"، ويمكن قراءتهما أيضا على أنهما تأكيد على قدرة الشعر والإبداع على تحويل المعاناة إلى تجربة جمالية، واستعادة الحياة بعد المرور بمراحل الظلام والتأمل.

في هذا القسم الأخير يتحول التركيز من الموت والغربة والكآبة إلى العلاقات الإنسانية والتجربة المشتركة. الحقول الدلالية هنا أقل رمزية، وأكثر وضوحا في المعنى الاجتماعي والوجداني، ويمثل الخاتمة الدلالية للديوان، حيث تتكامل الحقول لتقدم رسالة شعرية شاملة عن الحياة، الذاكرة، والإنسانية.

على الرغم من كثافة الحقول وتفاوتها، فإن هنالك وحدة بينها تؤسس لرؤية شعرية متماسكة: تستعيد المنسي، وتحول الفقد إلى سؤال، عبر صناعة لغوية تهتك أسرار الوجود وعبر هندسة دلالية تنبض بالتوتر والتحول لتُبقي القارئ في حالة إنصات وعيناه تحملقان في تلك المقبرة

تداخل الحقول وشعريتها

يمكن تصور الحقول كشبكة مترابطة، حيث تفتح الحقول المرتبطة بالموت والغربة المجال للتأمل الداخلي، وتكون الحقول التأملية والرمزية جسرا نحو الحقول الإنسانية والاجتماعية.

وتمثل الحقول الإنسانية والروابط نهاية المسار الدلالي، حيث يتحقق التوازن بين الذات والآخر، بين الوجود واللغة، وتكون الكتابة هي سلاح الشاعر في مقاومة الموت، "فما من كاتب إلا سيفنى.. ويُبقي الدهر ما كتبت يداه".

إعلان

هذه العلاقة تُبرز هيكلية متناغمة للديوان، فكل قسم يعمل على تهيئة القارئ للقسم التالي، لتتشكل تجربة شعرية متدرجة ومعقدة في الوقت نفسه.

وتتكئ شعرية الحقول الدلالية على:

التوتر الناتج عن الصراع بين الحقول: (الموت/ الحياة، الهروب/ العودة، السرّ/ الكشف).

التحول: يتحوّل الهروب إلى مشي، والمشي إلى موت، والموت إلى سؤال. هذا التحول الدلالي ينتج "دراما صامتة" داخل كل قصيدة.

الانزياح المتراكم: تتراكم الانزياحات اللغوية والدلالية لتخلق نبرة خاصة: نبرة بين الطلل والتأمل، بين الفقد والرغبة في الخلاص.

وحدة الرؤية: فعلى الرغم من كثافة الحقول وتفاوتها، فإن هنالك وحدة بينها تؤسس لرؤية شعرية متماسكة: تستعيد المنسي، وتحول الفقد إلى سؤال، عبر صناعة لغوية تهتك أسرار الوجود وعبر هندسة دلالية تنبض بالتوتر والتحول لتُبقي القارئ في حالة إنصات وعيناه تحملقان في تلك المقبرة.

لقد قدّم لنا دخيل الخليفة في ديوان "أعيدوا النظر إلى تلك المقبرة" نموذجا رفيعا للشعر الذي يُشيد بنيانه الدلالي ورؤيته الوجودية بعناية، حيث تعمل فيه الحقول كمحرّكات للمعنى وبنى تحكم إيقاع النصوص ومسارها.

ومن خلالها ينجح الشاعر في بناء عالم شعري فريد، يتأرجح بين الموت والحياة، بين العزلة والانفتاح، وبين الواقع الجامد والحرف الذي يمشي مزهوا في أزقة الزمان.

*كاتب وروائي سوداني

الجزيرة المصدر: الجزيرة
شارك

إقرأ أيضا


حمل تطبيق آخر خبر

آخر الأخبار