في مدينة سان دييه دي فوج الفرنسية، حيث قُرر قبل 5 قرون إطلاق اسم "أميركا" على العالم الجديد، اجتمع الأيام الماضية علماء الجغرافيا لينظروا بدهشة وقلق إلى رئيس تلك القارة البعيدة، دونالد ترامب، بوصفه حالة تستحق الدراسة، ظاهرة "مذهلة" و"مروعة" في آن واحد.
يتردد اسم الرئيس الأميركي بانتظام في أروقة مهرجان الجغرافيا الدولي، الذي خُصص هذا العام لموضوع "السلطة". ففي شخصية ترامب وسياساته، يجد هؤلاء الخبراء تجسيدًا حيًا لتحولات السلطة في عصرنا، وكيف يمكن لرجل واحد أن يعيد رسم الخرائط، ليس بالحبر، بل بالكلمات والإرادة السياسية المحضة.
تقول كاميي إسكوديه، الباحثة في معهد العلوم السياسية بباريس، إن "ما يظهره لنا دونالد ترامب هو العودة إلى سلطة وطنية قوية متفلتة من أي ضوابط، في شكلها كما في تجلياتها الجغرافية". وتشير الخبيرة المتخصصة في المنطقة القطبية الشمالية إلى أن مطامع ترامب المعلنة بضم كندا وغرينلاند "تبعث لديها تساؤلات" عميقة. وتضيف: "أعتبره شخصيا مادة سياسية ذات تبعات جغرافية، أحاول دراسته على هذا الأساس، ويعبر عن مسائل تمت إلى السلطة والقوة والأراضي"، مع إقرارها بشعورها ببعض "القلق" حياله.
هذا القلق يتحول إلى فزع صريح لدى خبراء آخرين. تصف آن لور أميلان شاري، خبيرة الجغرافيا في جامعة غرونوبل-الألب، ترامب بأنه "يتقن الديستوبيا. يحقق كل ما كنا نعتبره من باب الخيال". وتضيف: "لديه الجرأة والقوة على إحداث انقلاب جذري في عالم القانون والإثبات بأن الأمر الواقع وحده بات واقعنا".
وتوضح خبيرة الحدود أن ترامب ليس وحيدا في هذا النهج، فـ"بوتين فعله بالسلاح، والصينيون يفعلونه باستثماراتهم، لكن ما يجعل ترامب متفلتًا تمامًا من أي اعتبارات، هو أنه يقوله. وهذا هو المذهل". بالنسبة لها، أصبحت "الحدود في كل مكان، إنها تكمن حيث تريد القوة رسمها"، وهو ما يظهر جليًا في العمليات التي تقوم بها إدارة الهجرة والجمارك الأميركية (آيس) لتنفيذ برنامج الترحيل الجماعي للمهاجرين.
يكشف فريديريك جيرو، الخبير في علم أسماء الأماكن بجامعة جنيف، أنه تلقى سيلا من طلبات التوضيح حين عمد ترامب منذ عودته إلى البيت الأبيض إلى تبديل أسماء مواقع جغرافية بقرارات رئاسية.
فبقرار منه، عاد جبل "دينالي"، أعلى قمة في الولايات المتحدة كانت تستمد اسمها من لغة محلية في ألاسكا، ليحمل اسم "جبل ماكينلي"، تيمنا برئيس من القرن الـ19 يحظى بإعجاب ترامب. كما أمر بإعادة تسمية خليج المكسيك، الذي يعود اسمه إلى لغة من حقبة ما قبل الاستعمار، ليصبح "خليج أميركا"، متوعدا بفرض عقوبات على من يمتنع عن استخدام التسمية الجديدة.
يعلق جيرو على هذا النهج قائلا: "هذا مروع، لأن فيه ذلك البعد المرتبط بعقيدة تفوق العرق الأبيض، الذي يتعارض مع التعهدات الدولية، ولا سيما أهداف التنمية المستدامة، التي تروج لدمج لغات الأقليات والمعارف الأصلية".
وفي مثال آخر، يلفت جيرو إلى أن حديث ترامب عن تحويل قطاع غزة المدمر بفعل الحرب إلى "ريفييرا الشرق الأوسط"، هو في جوهره محاولة لتبديل اسم كنعاني يعود لآلاف السنين باسم أوروبي، في عملية محو ثقافي وتاريخي.
ترى لورانس ناردون، التي تدرس الولايات المتحدة في المعهد الفرنسي للعلاقات الدولية، أن ما نشهده هو أبعد من مجرد سياسات فردية. تقول: "ما نشهده، وهو ما يبعث على الذهول، هو نهاية حقبة، نهاية حقبة التعددية" القائمة على التعاون والقانون الدولي والمؤسسات كالأمم المتحدة.
وتضيف أن المشهد "من وجهة نظر العلم السياسي، مشوق تماما"، لكنها لا تخفي قلقها الشديد، قائلة: "بقيت في غاية التفاؤل بشأن قدرة النظام الأميركي على الصمود، لكنني أرى شخصيا أن ما يجري فظيع"، مشيرة إلى هجمات الإدارة على الجامعات ودولة القانون ووسائل الإعلام.
رغم هذه الصورة القاتمة، لا تزال هناك جيوب للمقاومة. يوضح فريديريك جيرو أنه خلافا لعمالقة التكنولوجيا مثل "غوغل مابس" و"آبل بلانز" اللتين امتثلتا لأوامر ترامب، "هناك منصات تعاونية تقوم بدور المقاومة، وتتعرض لهجمات بصفتها تلك". ويذكر منها "ويكيبيديا بالطبع، وعلى صعيد الخرائط، أوبن ستريت ماب"، في إشارة إلى أن المعركة على رسم الواقع وتسميته لا تزال مستمرة، حتى في وجه أقوى رجال العالم.