أسفرت القرون الـ5 الماضية في أوروبا عن تحولات وتفاعلات تاريخية ودينية وفكرية وسياسية واقتصادية واجتماعية، فمنذ سقوط غرناطة (1492)، وبدء عصر محاكم التفتيش الكاثوليكية، وانطلاق الإصلاح الديني البروتستانتي (1517-1648)، وإحياء أسفار العهد القديم والروح العبرية، انطلقت حركة الاكتشافات الجغرافية والاستيطان والاستعمار، خاصة في الأميركتين اللتين شهدتا أكبر موجة استيطان وأبشع أشكال العنف والإبادة الجماعية في التاريخ البشري.
يعرف قاموس أكسفورد الإبادة الجماعية بأنها "القتل المتعمد لعدد كبير من الناس من أمة أو جماعة عرقية معينة بهدف تدمير تلك الأمة أو الجماعة"، وهذا ما جرى تماما منذ وصول الأوروبيين إلى القارتين الأميركيتين وأستراليا ونيوزيلندا وبلاد أخرى في آسيا وأفريقيا، ولا تزال هذه الممارسة متواصلة حتى هذه اللحظة في فلسطين على الأقل، كأهم عمليات وحركيات النظام الدولي الذي أقامته الإمبريالية العالمية، وأذاقت بموجبه البشرية الويلات، وارتبط نجاحه وتضخمه بإبادة جماعات السكان الأصليين حصارا واستغلالا ومسخا وسلبا.
بل وانتقل مركز ثقل المشروع الإمبريالي العالمي لاحقا في القرن الـ20 من قوى أوروبية استعمارية تقليدية تعهدت مشروع الاستيطان والاستعمار والنهب، إلى الولايات المتحدة ، أكبر كيان استيطاني إمبريالي إبادي في التاريخ البشري.
يقول ديفيد سبيرو، الكاتب والناشط الأميركي في الحقوق الفلسطينية: عندما يدان هجوم إسرائيل القاتل على غزة، غالبا ما يرد المدافعون عن إسرائيل بالقول "أوه، صحيح؟ كيف يمكنكم أيها الأميركيون انتقادنا؟ نحن نفعل ما تفعله أميركا فحسب".
من الصعب أحيانا دحض حجة الصهاينة، لأنها صحيحة، لقد ارتكبت أميركا إبادة جماعية ضد أهل البلاد الأصليين منذ ما قبل تأسيس الولايات المتحدة، قتل الملايين ونهبت أراضيهم، وتعرضوا للتجويع، وإطلاق النار والحرب البيولوجية بنشر الجدري بينهم، والنفي في مسيرات طويلة إلى محميات بعيدة، يماثل هذا التاريخ حقا ما يحدث في فلسطين الآن.
يستدل سبيرو ببيانات متحف هيوستن للهولوكوست، فقد انخفض عدد السكان الأصليين للأميركيتين بين عامي 1492 و1900 بنحو 90%، من حوالي 60.5 مليون نسمة إلى 6 ملايين فقط.
وتقول أدبيات المتحف "تعرض السكان الأصليون لأشكال مختلفة من العنف، وكل ذلك بنية تدمير مجتمعاتهم، فمثلا، كان المستوطنون الأوروبيون بولاية ماين يتقاضون أجورا مقابل كل شخص يقتلونه من قبيلة بينوبسكوت"، وكانت هناك مجازر متكررة مثل مذبحة شعب تشيين وأراباهو في ساند كريك عام 1864، حيث قتل الجيش 230 بريئا، معظمهم من النساء والأطفال.
بعد وصولهم بقليل، بدأ المستوطنون الأوروبيون إبادة جماعية ثانية ضد الأفارقة الذين اختطفوا من أوطانهم وجلبوا إلى هنا كعبيد، وتذكر مبادرة العدالة المتساوية أن "تجارة الرقيق عبر المحيط الأطلسي تمثل واحدة من أكثر العصور عنفا وصدمة ورعبا في تاريخ العالم، مات فيها ما يقرب من مليوني شخص خلال الممر الأوسط الوحشي عبر المحيط".
ونتيجة لذلك، بحسب سبيرو، تركت القارة الأفريقية في حالة اضطراب بالغ، عرضة للغزو والعنف لقرون، أصبحت الأميركيتان مكانا حيث أقام العرق واللون نظاما طبقيا يتميز بعدم المساواة والإساءة.
في حين انتهت العبودية رسميا بعد الحرب الأهلية، استمرت الإبادة الجماعية مع الفصل العنصري ، والسجن الجماعي، والمذابح الدموية كما حدث في تولسا وغرينوود، وعمليات الإعدام المتكررة شنقا من دون محاكمة، والتمييز في التوظيف والسكن، وقتل الشرطة للمدنيين السود، كل هذا تاريخ أساسي يجب أن يعرفه الجميع، رغم أنه لا يزال غالبا موضع إنكار، ويثبط أو يحظر تدريسه.
لم تتوقف أو حتى تتباطأ موجات الإبادة الجماعية للسكان الأصليين أحيانا كما في فلسطين، تزود أميركا إسرائيل أو غيرها بالأسلحة والغطاء السياسي، وتترك لإسرائيل أو غيرها مسؤولية القتل الفعلي، ويتساءل سبيرو "عندما تسمم شركة نفط غابة مطيرة بآبارها، أو تدمر شركة تعدين جبلا بموادها الكيميائية، أو تقطع شركة أخشاب غابة بأسرها، ماذا يحدث لمن يعيشون هناك ويعتمدون على هذه الأرض؟ يغادرون أو يموتون.
كما في مثال إزالة الغابات، عادة ما تتضمن إبادة السكان الأصليين تدمير بيئتهم. تتداخل الإبادة الجماعية بشكل كبير مع إبادة البيئة. يمكننا أن نرى هذا في أنقاض غزة الآن، وتدمير آبار المياه بها، وتجريف المزارع والمقابر، وقصف منشآت البنية التحتية الضرورية، و85% من المساكن والأحياء، لكن إبادة البيئة الجماعية عادة ما تكون أقل إثارة.
فقد كان رش مبيدات الأعشاب والنباتات واسع النطاق، باستخدام "العامل البرتقالي" على أدغال فيتنام ، بهدف حرمان المقاتلين الفيتناميين من أي غطاء، بحد ذاته إبادة جماعية للسكان، لا يزال الناس والغابات والأسماك يموتون هناك من تلك السموم حتى اليوم.
بدوره، يذهب سبيرو أبعد من ذلك، فيرى أن الإبادة البيئية والإبادة الجماعية هما العملية نفسها، هناك صفة إبادة جماعية في طريقة تعامل أميركا مع العالم الطبيعي، بما في ذلك الحيوانات، فبينما يجرد السكان الأصليون والعبيد من إنسانيتهم، ويحولون إلى كائنات أدنى منزلة يمكن العمل بها حتى الموت أو ذبحها، يعامل غير البشر كجمادات، الشركات تزيل الغابات من الوجود، ويستخدم الخشب بلا قلق بشأن الأشجار أو الطيور التي يضحى بها، بل وتحتجز الحيوانات في المزارع داخل حظائر صغيرة طوال حياتها، ثم تؤكل دون تفكير في معاناتها.
هذا ما يفعله العيش في ثقافة الإبادة الجماعية بالقلوب والأرواح، لا يمكنك قضاء أزمان وأجيال تلقن المجتمع أن بعض الناس أدنى منزلة ويستحقون الموت، ثم يتوقع ألا تتشوه نظرته للناس والعالم، في ضوء ذلك، ليس صعبا إدراك من أين جاء هتلر أو نتنياهو.
هنا يتناول سبيرو كيف تتغلغل الإبادة الجماعية في لغة أميركا واقتصادها وثقافتها بأسرها، إذا تم إدراك هذا، فقد يغدو تجاوزها ممكنا.
فلا يتم الحديث عن البشر المستهدفين بالإبادة الجماعية كبشر، فأعضاء المقاومة الفلسطينية أو سكان غزة ليسوا بشرا أو حتى مقاتلين أبدا، إنهم دائما إرهابيون أو جهاديون، لم يكن الأميركيون من أصل أفريقي بشرا بقدر ما كانوا يطلق عليهم "زنوج" أو "رعاع" أو "غزلان" أو "أمهات" أو أي نعوت أخرى وظيفية لا إنسانية، وكان يطلق على العرب في العراق عقب احتلاله اسم "زنوج الرمال"، كما كان يطلق على الكوريين والفيتناميين "بلطجية".
كل هؤلاء تعرضوا لعنف الإبادة الجماعية في حروب الإبادة الأميركية، ولا تزال معظم هذه الإهانات مستخدمة، ولطالما وصف السكان الأصليون الأميركيون "بالمتوحشين" و"الأوباش"، والآن نادرا ما يذكرون كأفراد على الإطلاق.
الحيوانات والنباتات ليست كائنات مجردة فقط من البشرية، بل هي مجردة من الحياة، وليست حتى حية، هل لاحظنا كيف أن البشر فقط هم من يصنفون ككائنات حية في اللغة الإنجليزية؟ البشر هم: هو أو هي، وكل كائن آخر هو "شيء"، من الأسهل بكثير اضطهاد وقتل كائن بلا حياة من قتل شخص.
في كتابها "ضفائر العشب الحلو"، تشرح عالمة نبات من سكان أميركا الأصليين، روبن وول كيميرر، كيف تصنف معظم ما يطلق عليه المتحدثون بالإنجليزية "أشياء" كأشكال حياة في لغتها الأم، بوتاواتومي، إذ تستخدم صيغ مختلفة من الأفعال والصفات للكائنات الحية مقارنة بالجمادات، التي عادة ما تكون من صنع الإنسان فيستخدم لوصف الجبال والأشجار والسناجب والصخور والأنهار وغيرها صيغ حية.
هكذا يتضاءل إدراك الأميركيين للعالم في ظل ثقافة الإبادة، ويتضرر بوصف كثير من الناس بأنهم دون البشر، والكثير من الكائنات الحية بجمادات"، كان يمكن العيش في عالم أغنى وأجمل بكثير لو لم تكن لغة الإبادة تستحضر دائما لقتله.
يستطرد سبيرو في وصف هيمنة ثقافة الإبادة الجماعية بأميركا على كل ما يقرأ ويشاهد ويسمع ،في خمسينيات وستينيات القرن الماضي، كانت دراما التلفزة السائدة مسلسلات وأفلام الغرب (الويسترن) الأميركي.
في مسلسل مثل Wagon Train "قطار العربة"، ظهر المستوطنون البيض وهم يطردون الهنود الحمر من أرضهم، وتعاطف المشاهدون مع المستوطنين، كانت أفلام ذلك الوقت تصور أبطالا من المستوطنين مثل الممثل جون وين، متفوقا بكثافة نيرانه على أعداء متوحشين، الذين نادرا ما كان الجمهور يصادفهم، وباستخدام لعب من البنادق، كان الأولاد يلعبون معارك "رعاة البقر ضد الهنود الحمر" لساعات متواصلة، دون أن يفكروا في أصل تلك اللعبة المرعب، فنشأوا وهم يشجعون الإبادة الجماعية.
لاحقا، تحول اهتمام أميركا إلى قمع السود، وأصبحت المسلسلات البوليسية إنتاجا تلفزيونيا ضخما، أما برنامج تلفزيون الواقع COPS، الذي يعرض الآن موسمه الـ37، فيظهر الشرطة وهي تطارد أشرارا، معظمهم أميركيون من أصل أفريقي، في بداية ظهور السينما، احتفى فيلم ولادة أمة الشهير بالإرهابيين من منظمة " كو كلوكس كلان ".
لم تعد الأفلام سيئة للغاية الآن، لكن عددا كبيرا من الأفلام الأميركية يمجد الجيش الذي خاض حروب إبادة جماعية بكوريا وفيتنام والعراق، تشجع أفلام مثل إنقاذ الجندي رايان الشباب على التطوع في جيش الإبادة، ويستشار البنتاغون (وزارة الدفاع) في معظم هذه الأفلام.
كما تشبع الأدب الأميركي بالإبادة الجماعية، بوعي أو بغير وعي، فرواية الخيال العلمي الأشهر سجلات المريخ (The Martian Chronicles) لمؤلفها راي برادبري تصف إبادة جماعية في الفضاء، لدى وصول الأميركيين إلى المريخ، وقتلهم سكان المريخ الأصليين، وتأسيس حضارة تشبه أميركا.
لو لم تكن الإبادة الجماعية مربحة، لما وقعت، ستنقلب الرأسمالية إلى إبادة جماعية في لحظة إفلاتها من السيطرة.
كيف ذلك؟ تحول الرأسمالية كل شيء إلى مال، فتصبح الطبيعة منتجات، ويصبح الناس عمالا وأدوات، وقد أشار الكاتب آدم أيدك هيستي إلى أنه "في ظل الرأسمالية، لا قيمة للغابة إلا بقطع أشجارها"، ووصف إريك ويليامز، الذي قاد استقلال ترينيداد وتوباغو، في كتابه الرأسمالية والعبودية كيف مولت تجارة الرقيق الثورة الصناعية والتوسع الهائل للاستعمار الذي كان بمعظمه إبادة جماعية.
قد يعيش السكان الأصليون في إحدى الغابات المطيرة، ولكن إذا استطاعت شركة جني ملايين بتحويلها إلى مراعي تنتج لحوم البرغر البقري، فالأرجح أن ينتهي بهم المطاف أمواتا أو يحاولون البقاء أحياء بمنطقة عشوائية.
للفلسطينيين ثقافة غنية يسعون للدفاع عنها، لكن "ريفييرا حمام الدم" التي يروج لها ترامب ستجني المزيد من المال، لذا يهجر أهل غزة، قد يستغرق الأمر سنوات أو أجيالا، لكن الإبادة الجماعية هي النتيجة الطبيعية للرأسمالية المنفلتة، قد لا يقتل الجميع، لكن يجب تدمير الأمة التي يريد الرأسماليون أرضها.
لوحة التعذيب تصور المستكشف الإسباني هيرناندو دي سوتو يعذب الأميركين الأصليين، من القرن الـ19 (شترستوك)في سياق ذلك، يتساءل سبيرو وغيره، ما تأثير ثقافة أساسها الإبادة الجماعية على الناس في أميركا؟
تظهر النتائج المتراكمة في المجتمع الأميركي، قسوة السجن الجماعي والتشرد، وحروب لا تنتهي، وأمراض نفسية متفشية، وعنف وحوادث إطلاق نار بالمدارس والأسواق، وعنصرية واسعة النطاق ضد الفئات المستهدفة.
إبادة البيئة والإبادة الجماعية تشوه الحياة وتعرض المستقبل لخطر جسيم، هل يجب أن يعيش الناس في عالم من الأشياء الجامدة، غير قادرين على التعلم من الذكاء غير البشري أو التواصل معه أو مع بشر آخرين من أعراق وثقافات وديانات مختلفة؟ هذا الخيار يجعل الحياة أكثر قسوة مما ينبغي.
في عام 2025، يبدو جليا أن الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي وإسرائيل والعالم الأبيض الأنكلوسكسوني الناطق بالإنجليزية سيواصلون أساليب الإبادة الجماعية، ورغما عن إرادة شعوبهم، يصعدون من وتيرة جرائمهم إلى مستويات أكثر عدمية وجنونا، وإذا تركوا لرغباتهم وتفكيرهم، فإن الإبادة الجماعية وإبادة البيئة هي ما يفعله قادتنا، إنها هويتهم إنها مصدر المال وطريقة عمل النظام.
يتساءل سبيرو مرة أخرى "هل يمكن إيقافهم؟ لقد قرأنا لأشخاص لديهم بعض الأفكار، يجب نبذ ومحو أساليب الإبادة مطلقا".
وبما أن الإبادة الجماعية مدفوعة بالعسكرة والرأسمالية والعنصرية، كما وصفها في الستينيات مارتن لوثر كينغ، زعيم حركة الحقوق المدنية ، وكلها تفيد أصحاب النفوذ، فقد يبدو هذا الهدف مستحيلا، لكن ليس هناك طفل يولد مؤمنا بالإبادة الجماعية، الأطفال يحبون الحياة ويختبرون كل شيء حيا وواعيا، وإذا أمكن التوقف عن تعليمهم الإبادة الجماعية، فإن الجيل القادم سيقودنا في اتجاه أفضل، يمكننا البدء بتعليمهم كتاب ضفائر العشب الحلو، أو كتب حكمة الشعوب الأصلية الأخرى.
ينبغي الكف عن اعتبار الفئة أو الهوية التي ينتمي إليها البشر، أيا كانت، متفوقة على الآخرين، فجميع الخلق يستحق الحياة والحرية والاحترام (شترستوك)في سياق نزع الحمض النووي للإبادة الجماعية من الثقافة الأميركية، يقترح سبيرو أمورا أخرى يجب القيام بها: