في زمن الحركات الاحتجاجية والثورات السياسية يختلط الفعل الشعبي بالتغيرات الكبرى في بنية السلطة، فما مدى حدود فهمنا التقليدي للثورات؟ وما مدى جدواه وكفايته؟ وهل ثمة إمكانية فتح نوافذ جديدة لرؤية هذا الحدث الكبير بعيدا عن عدسة المؤرخ أو السياسي وحده؟
من هذا المنطلق، يقدم كتاب "عندما يثور البسطاء: مقاربات أنثروبولوجية للثورات السياسية" لمؤلفه بيورن توماسون الصادر عن مركز نهوض للدراسات والبحوث بترجمة خالد عثمان الفيل، يقدم طرحا معرفيا جريئا يعيد التقدير للأنثروبولوجيا بوصفها علما قادرا على الإسهام العميق في تفسير الظاهرة الثورية، لا سيما من زاوية ما يهمل عادة في التحليلات السياسية والاجتماعية التقليدية.
لطالما حظيت الثورات السياسية باهتمام مكثف في ميادين العلوم الاجتماعية التقليدية كعلم التاريخ وعلم الاجتماع والعلوم السياسية، وقد شكلت هذه الحقول خلال عقود الإطار التحليلي الغالب لفهم الثورات من حيث دوافعها وشروطها وسياقاتها.
إذ ينشغل التاريخ بوقائع الثورة وتجلياتها، ويسعى علم الاجتماع لفهم بنيتها الطبقية أو الاجتماعية، بينما يعنى علم السياسة بتحليل أسبابها وبواعثها ونتائجها واستجلاء مآلاتها، غير أن علم الأنثروبولوجيا، وهو المعني في جوهره بدراسة الإنسان في تفاعله الثقافي واليومي، ظل لفترة طويلة غائبا عن هذا الحقل، وكأنما الثورة ليست ظاهرة بشرية معيشة لتقع في مجال اهتمامه.
هذا الغياب لم يكن اعتباطيا، بل فسر -كما يشير توماسون- بأنه نابع من تعارض منهجي بين طبيعة الثورة بوصفها حدثا مفاجئا مضطربا وغير قابل للتنبؤ، وبين طبيعة الأنثروبولوجيا التي تقوم على ملاحظة الظواهر الثقافية الممتدة، والتفاعل العميق مع السياقات المحلية في ظروف مستقرة نسبيا.
لكن المؤلف، في مرافعته النقدية، يتصدى لهذا التبرير بالنقد والتفنيد، مؤكدا أن التحولات الكبرى في العقود الأخيرة، والانفتاح المنهجي للأنثروبولوجيا على موضوعات جديدة، جعلا من هذا التبرير عقبة متجاوزة.
يحاول توماسون في كتابه تتبع الأسباب التي حالت دون انخراط الأنثروبولوجيين المبكر في تحليل الثورات السياسية، ويقترح 3 أسباب رئيسة:
في المقابل، يقدم توماسون سردية جديدة تنبع من إرث أنثروبولوجي بدأ بالتشكل منذ تسعينيات القرن العشرين، حين أعادت التحولات السياسية الكبرى -كنهاية الحرب الباردة ، وسقوط الأنظمة الشيوعية، وانتهاء التمييز العنصري في جنوب أفريقيا- ترتيب أولويات البحث الثقافي.
ظهرت حينها أعمال إثنوغرافية تركز على المقاومة من القاع الاجتماعي، من خلال الملاحظة المباشرة والتفاعل المباشر مع المجتمع المدروس، كدراسة شيري أورتنر عن الرفض الإثنوغرافي، وجيمس سكوت في "أسلحة الضعيف"، حيث صار المهمشون والمقهورون وممارساتهم اليومية مركز التحليل الأنثروبولوجي.
هكذا، لم تعد الثورة تقرأ فقط من خطاب الزعماء أو بيان الحركات، بل من الهتاف الشعبي، والنكتة السياسية، والأغنية الساخرة، ثم فيما بعد؛ تفاعل الناس على وسائل التواصل الاجتماعي، هذه "الثورة الصامتة"، أو "الثورة من الأسفل"، صارت مدخلا لفهم ما يغفله المؤرخ وعالم السياسة؛ كيف تصاغ الرموز؟ وكيف تولد السلطة المضادة؟ وكيف يصاغ الوعي الجمعي داخل الحراك الشعبي؟
يستعين توماسون بجملة من الأدوات التحليلية المستمدة من كبار منظري الثقافة والأنثروبولوجيا الرمزية، أمثال مارسيل ماوس في دراساته عن الثورة البلشفية، وفيكتور تورنر الذي ركزت دراساته على الدراما الاجتماعية والأزمة ووضعية المجاز للثورات السياسية، ودراسات الباحثين التي جعلت الجماهير والحشود موضوع الأنثروبولوجيا.
ويضيف إلى ذلك دراسات أخرى حول سياسة الشارع والديناميات المكانية لتحريك الحشود وتعبئتهم، ووضعية المجاز العامة ودور الميادين والساحات، ليقدم قراءة تتجاوز الحدث السياسي الظاهر إلى بنيته الرمزية العميقة، إذ يقارب الثورة بوصفها طورا انتقاليا تتعطل فيه البنى الاجتماعية الراسخة، وتتفكك المنظومات السائدة، لتتاح فرصة إعادة تشكيل النظام الرمزي والاجتماعي على نحو جذري، بما يوضح الإضافة التي تقدمها الأنثروبولوجيا لدراسة الثورات السياسية.
هنا تكمن المفارقة الأبرز التي يشتغل عليها المؤلف؛ فالثورات غالبا ما يصنعها البسطاء، أولئك الذين تهمش أصواتهم في السرديات الكبرى، رغم أنهم المحرك الحقيقي لها، وهؤلاء البسطاء هم مادة خصبة للدراسة بعين الأنثروبولوجيا، بما يحملونه من رموز ومعتقدات وشبكات اجتماعية وقيم مقاومة، فكيف إذا كانوا هم فاعل الثورة؟
هذه المفارقة تظهر كيف أن علما ينحاز تقليديا للمهمشين، ظل غائبا عن دراسة الحدث العظيم الذي يصنعه هؤلاء أنفسهم، ولعل هذا ما يجعل مساهمة الأنثروبولوجيا اليوم جوهرية؛ إذ تركز الأضواء على الثوار البسطاء ولغتهم الرمزية والمشحونة، وتقدم سرديتهم لا سردية النخب، بعيدا عن التحليلات الكلية المجردة، فتحفظها من الضياع في ضجيج هذا الحدث الضخم، وتعيد قراءتها من داخل الأنساق الثقافية التي تحركها، وتفسر أبعادها غير المرئية.
ويتضح هذا الإسهام عند دراسة نماذج معاصرة كثورات " الربيع العربي "، حيث لا تحلل أنماط التعبئة أو تكتيكات الحشود فحسب، بل تتجه إلى رمزية الفعل الثوري في الشعارات والأغاني والطقوس واستدعاء الرموز الوطنية والدينية، وحتى في إعادة تشكيل صورة القائد بوصفه حاملا للمعنى، لا مجرد فاعل سياسي.
تكمن قيمة هذا المنظور في كونه لا ينظر إلى الثورة على أنها سلسلة من الوقائع السياسية أو التحولات المؤسسية، بل يراها فعلا ثقافيا شاملا، يتخلله الأداء الرمزي والتعبير الجمعي وإعادة إنتاج المعاني والهوية، وبهذا، تنتقل الثورة من كونها لحظة عنف أو مواجهة إلى كونها أداء اجتماعيا معقدا يعيد صياغة الذات الجمعية في علاقتها بالسلطة والمعنى.
ولا يقتصر دور الأنثروبولوجيا -وفقا لتوماسون- على تفسير ما جرى، بل يمتد إلى محاولة استشراف ما يمكن أن يحدث، فهي قادرة بأدواتها على قراءة التغيرات العاطفية والمعرفية والإدارية التي تطرأ على الجماهير في لحظات التحول، وعلى فهم نوعية القيادة التي تظهر بعد الاحتجاج، والرموز التي تشكل الوجدان الجمعي، والانفعالات التي تحدد مسار الحراك. إنها تسهم في فهم البعد الرمزي للثورة، أي "الحرب المعنوية" التي لا تقل خطورة عن المواجهة الميدانية.
وبهذا، لا تقدم الأنثروبولوجيا سردا تاريخيا فحسب، بل تعمق فهمنا للكيفية التي تتخلق فيها الثورة من تفاصيل الحياة اليومية، وتشرح كيف يمكن لفعل صغير -كصورة أو كلمة أو تصرف عابر- أن يشعل موجة احتجاج تنتهي بإسقاط نظام.
في خاتمة كتابه، يوجه بيورن توماسون رسالة واضحة، أن الأنثروبولوجيا لم تعد ترفا تحليليا في دراسة الثورات السياسية، بل ضرورة منهجية لفهم ما يهمل، وتحليل ما لم يقل، فالثورة ظاهرة معقدة لا يمكن احتواؤها في قوالب السياسة أو التاريخ فقط، بل تتطلب قراءة ثقافية معمقة تنبش في الرموز والمخيال والتمثلات الاجتماعية.
لقد آن للأنثروبولوجيا أن تستعيد موقعها في دراسة المهمشين بوصفهم الأداة التي تعين على فهم المركز حين ينهار، والبسطاء حين يثورون.