عمّان- في قلب جبل اللويبدة، حي العاصمة الأردنية، حيث تختلط الحكايات بالمقاهي والذكريات بدرج الحارة، اجتمع أدباء ومصورون ومترجمون ليحتفوا ب عمان عبر الكلمة والصورة، في فعالية ثقافية خاصة لإطلاق ملف أدبي فوتوغرافي في مجلة "ذي كومون" الأدبية الأميركية، هو الأول من نوعه، يعكس هذه المدينة نصا وصورة.
وشهدت الفعالية معرضا فوتوغرافيا، وقراءات أدبية ثنائية اللغة بالعربية والإنجليزية، بمشاركة كوكبة من الكتاب والمصورين والمترجمين الذين أسهموا في هذا المشروع الذي يسعى إلى إعادة رسم ملامح المدينة، ليس فقط كما تبدو، بل كما تعاش ويحلم بها وتروى.
لم تكن هذه الفعالية مجرد عرض أدبي، بل تأتي تتويجا لمسار طويل بدأ بورشة كتابة عن عمّان، وقد عقدت عام 2023 بعنوان "أن تكتب المدينة بعد أن تسأل: ما هي المدينة؟" لتصدر بعدها بعام النصوص المنجزة ضمن الورشة في كتاب جماعي عنوانه "أن تكتب المدينة: عمّان من المسافة صفر" وبعدها ترجمت مختارات من هذه النصوص الأدبية لتعبر اللغة والحدود، وتصل إلى مجلة "ذي كومون" التي تصدر عن جامعة آمهيرست في ماساتشوستس، ومن هناك عادت إلى عمّان، بصيغتها المترجمة، ليحتفى بها في مدينتها الأصل.
يقول الكاتب هشام البستاني، المشرف على الملف ومنسق الفعالية، للجزيرة نت "هذا المشروع لا يقدم عمّان كديكور بصري أو حنين سطحي، بل ككائن حي يتحول باستمرار، يختزن التناقض، ويكشف هشاشتنا تجاه المكان، وارتباكنا في تعريفه. لقد طمست التحديثات السريعة كثيرا من معالم المدينة، وهذا الملف محاولة لإحياء هذه الملامح، عبر الكتابة والصورة، وإعادة وضع المدينة في مركز التجربة الجمالية والمعرفية".
ويشير البستاني إلى أن العواصم العربية الكبرى مثل بغداد والقاهرة ودمشق لطالما احتلت مكانة مركزية في النصوص الأدبية والثقافية، بينما ظلت عمّان تظهر كخلفية صامتة أو عبور سريع "لكنها في هذا المشروع تقدم بوصفها بطلة النص، لا مجرد مشهد جانبي".
وقد ضم الملف نصوصا أدبية لكل من "آلاء جانبك"، و"إسلام أبو حيدر"، و"أيمي الخليفي"، و"خالد سامح"، و"رنيم أبو رميلة"، و"مريم الدجاني"، و"مريم عيتاني"، و"هيفاء أبو النادي"، و"يارا غنيم". وتنوعت الأشكال والموضوعات، من السرد الشخصي والذاكرة، إلى التأمل الفلسفي ونقد التحولات الحضرية.
وفي نصها "جبل النظيف" كتبت آلاء "عليك أن تقع في الحب، حتى تعبر هذه المدينة. عمّان لا تعطى بسهولة، ولا تسترد بسهولة. هي التي تهرب من بين يديك كلما اقتربت، لكنها لا تنساك".
بينما تكتب يارا في "مدينة لا مدينة" قائلة إن المدينة تخفي المدينة و"لا شيء هنا كما يبدو. إن أردت أن تفهم المكان، عليك أن تغلق عينيك أولا".
وفي نصها "حضرة صوفية" تقول مريم "كل مدينة تسكنك، لكن عمّان تفعل أكثر. إنها تلبسك صمتها، وتتركك لتتعلم الكلام من جديد".
لم تكتمل ملامح عمّان دون العدسة، إذ قدم المعرض الفوتوغرافي المصاحب للفعالية مشاهد بصرية عميقة، تنقلت بين الوجدان والذاكرة، من خلال 27 صورة التقطت بعدسات 5 مصورين: "ليندا الخوري"، و"مجد حجاوي"، و"رفيق مجذوب"، و"حسام مناصرة"، و"مؤمن ملكاوي"، وهي الصور ذاتها التي نشرت في الملف العالمي للمجلة.
وتقول المصورة ليندا، إحدى المشاركات في المعرض، للجزيرة نت إن المصورين "يرون المدينة من خلال أفكارهم وذكرياتهم وتوجهاتهم، ويعبرون عن هذه المشاعر بصريا عبر العدسة. لهذا، فإن كل صورة في المعرض هي ترجمة شخصية لما يراه كل مصور في عمّان التي يعرفها هو، لا كما تقدم خارجيا".
وتضيف "الجوانب التي تم اختيارها متنوعة، منها ما يرتبط بالحياة اليومية، بشخصيات ومحال وأزقة، ومنها ما يظهر مشاهدات من الشارع تعكس حالات خاصة من المدينة. وهناك صور لمنازل من تراثها المعماري، وأخرى توثق التغير السريع الذي طرأ على ملامحها خلال السنوات الأخيرة".
أما عن تجربة النشر في مجلة عالمية، فتصفها ليندا بأنها "تجربة مميزة ومهمة من أكثر من زاوية. فهي أولا وسيلة للحديث عن المدينة بصيغة بصرية أدبية معاصرة، وثانيا رسالة للمشاهد والقارئ ليتعرف على عمّان من خلال عيون مصوريها، وثالثا فرصة قيمة للفنانين المشاركين لعرض أعمالهم في واحدة من أبرز المنصات العالمية".
ويأتي الملف الجديد تتويجا لمسار أشرف عليه البستاني في المجلة ذاتها، وقد سبق له تنسيق ملفات أدبية عن سوريا، السودان، فلسطين، الكويت، المغرب. إلا أن هذا الإصدار يحمل خصوصية خاصة، كونه يبدأ من المدينة التي ينتمي إليها، ويعود إليها بعد أن يعبر القارات.
وكأنما عمّان أعادت كتابة نفسها عبر نصوص وصور ومشاعر، تروي ما لا تقوله نشرات الأخبار، بل تسرده الأرواح حين تلتفت فجأة إلى المكان الذي تمشي فيه كل صباح، وتكتشف أن فيه ذاكرة كاملة تنتظر أن تكتب.