في زمن تتقاطع فيه الخوارزميات مع السلطة، لم يعد فضاء التواصل الاجتماعي امتدادا حرّا للتعبير والتلاقي، بل تحول إلى ساحة تخضع لعدد محدود من شركات التقنية الكبرى، وعلى رأسها شركة "ميتا".
لم تعد هذه الشركات تكتفي بإدارة البنية التحتية الرقمية للتواصل، بل باتت تمارس سلطة ناعمة تحدّد من خلالها ما يجوز قوله وما ينبغي إسكاته، حتى حين يتعلق الأمر بقضايا إنسانية وعدالة تاريخية. ويظهر ذلك جليّا في تعاملها المنهجي مع المحتوى المؤيد للقضية الفلسطينية، حيث يُقيّد ويُحذف تحت ذرائع مثل "المعايير المجتمعية" أو "مكافحة خطاب الكراهية"، بينما يُسمح في المقابل بنشر روايات مُنحازة ومضللة تخدم سرديّات معيّنة.
في هذا المناخ الرقمي الخاضع للرقابة والاحتكار، تبرز مبادرات بديلة تسعى إلى كسر هذا النموذج المركزي واستعادة التوازن. من بين هذه المبادرات، تبرز منصة "بلوسكاي" (Bluesky) كمشروع طموح يعيد تصور بنية شبكات التواصل، عبر إرساء نموذج لامركزي يمنح الأفراد القدرة على صياغة قواعدهم الخاصة والتحكم في تجاربهم الرقمية باستقلالية، بعيدا عن سطوة الخوارزميات الخفية والمصالح التجارية الكبرى.
هذا التحول لا يقتصر على الجانب التقني، بل يفتح الباب أمام سؤال أعمق: من يملك الحق في تنظيم الخطاب العام؟ ومن يقرر ما يسمع وما يُسكت؟ "بلوسكاي"، وإن كانت تجربة في طور التبلور، تحاول إعادة طرح هذه الأسئلة ومنح المستخدمين أنفسهم فرصة للإجابة عنها.
في مارس/آذار الماضي، اعتلت الرئيسة التنفيذية لشركة "بلوسكاي"، جاي غريبر، منصة مهرجان "إس إكس إس دبليو" (SXSW) لإلقاء كلمتها الرئيسية، وهي ترتدي قميصا أسود فضفاضا بدا وكأنه يحمل انتقادا مبطّنا لمارك زوكربيرغ، حيث طُبعت على القميص حروف لاتينية مشابهة لتلك التي استخدمها زوكربيرغ في قميصه خلال العام السابق، والذي كُتب عليه: "زوك أو لا شيء" (Aut Zuck aut nihil)، في اقتباس مستوحى من مقولة شهيرة ليوليوس قيصر تعبّر عن شغفه بالسلطة المطلقة.
في المقابل، حمل قميص غريبر عبارة: "عالم بلا قياصرة" (Mundus sine Caesaribus)، في تعبير رمزي عن رؤيتها المضادة للنموذج السلطوي.
بهذا القميص، وجهت غريبر رسالة نقدية مباشرة إلى زوكربيرغ ومن يمثلهم من "أباطرة" التكنولوجيا. فهي تسعى، كما أوضحت في حوار مع مجلة تايم (Time)، إلى بناء وإدارة تطبيق "بلوسكاي"، الذي أُطلق لعامة الجمهور في مطلع عام 2024، وفق نهج مغاير تماما للطريقة المركزية التي تقوم عليها شركة "ميتا".
تقول إن "شركات التقنية هذه بنت ممالك رقمية، حيث يتصرف الرؤساء التنفيذيون كأنهم ملوك صنعوا أنفسهم.. لقد جعلناهم كذلك بمنحهم وقتنا وانتباهنا.. أريد من الناس أن يتذكروا أنهم قادرون على استعادة ذلك".
تكتسب رسالة جاي غريبر صدى متزايدا في عصر تتفاقم فيه مركزية وسائل التواصل الاجتماعي، إذ يحتكر عمالقة التكنولوجيا، مثل مارك زوكربيرغ وإيلون ماسك، اتخاذ قرارات أحادية تتعلق بالرقابة والخصوصية واستغلال البيانات لأغراض الذكاء الاصطناعي.
وفي اليوم التالي للانتخابات، وبينما كان المستخدمون يبحثون عن ملاذ من التنمر اليميني، والمشاركات المدفوعة، وروبوتات التضليل، خسر تطبيق "إكس" (تويتر سابقا) نحو 115 ألف مستخدم. في المقابل، ارتفع استخدام "بلوسكاي" بنسبة 500% خلال اليوم نفسه، ليبلغ عدد مستخدميه 35 مليونا، من بينهم شخصيات بارزة مثل ستيفن كينغ، وجورج تاكي، وألكسندريا أوكاسيو-كورتيز، مما يجعله أكبر شبكة اجتماعية لامركزية حتى الآن.
ومع ذلك، لا يزال عدد المستخدمين النشطين يوميا في الولايات المتحدة على منصة "إكس" أكبر بنحو 10 مرات من مستخدمي "بلوسكاي"، ما يعكس استمرار الفجوة في الانتشار الجماهيري.
غير أن "بلوسكاي" لا تسعى إلى أن تكون بديلا عن زوكربيرغ أو ماسك فحسب، بل عن الفكرة ذاتها. فرغم التحديات التي لا تزال تواجهها على صعيد تحقيق الربحية والتوسع خارج قاعدتها الليبرالية الكبيرة، تؤكد غريبر أن طموحها لا يتمثل في اعتلاء قمة الهرم الرقمي بدلا من الآخرين، بل في تفكيك هذا الهرم بالكامل.
وتقول: "إننا نرفض السلطة المركزية التي تُملي القواعد على الجميع.. لا نريد إنشاء عالم أكون فيه الإمبراطورة الجديدة بلطف أكبر.. نريد عالما لا نحتاج فيه إلى أباطرة أصلا".
من حيث الشكل، تتشابه واجهة "بلوسكاي" مع واجهة منصة "إكس"، حيث يظهر تدفق لانهائي من المشاركات النصية المحددة بـ300 حرف أو أقل. ويمكن للمستخدمين الجدد الاندماج بسرعة في المحادثات من خلال "حزم البداية" (Starter packs)، وهي قوائم حسابات أعدها المستخدمون بناء على الاهتمامات المشتركة، وتغطي مواضيع متنوعة مثل السياسة، والثقافة الشعبية، والرياضة، والنكات.
لكن الفرق الجوهري بين "بلوسكاي" و"إكس" يكمن في أن الأول يعتمد على بروتوكول مفتوح المصدر، مما يتيح للمستخدمين تخصيص الخوارزميات وتغذيات المحتوى حسب تفضيلاتهم. وعلى غرار منصة "ريديت" (Reddit)، نشأت على "بلوسكاي" مجتمعات مترابطة طورت أساليبها الخاصة في التواصل والرقابة.
ويمنح هيكل المنصة المستخدمين القدرة على اصطحاب مُتابعيهم ومشاركاتهم إلى منصات أخرى تعتمد على نفس البروتوكول، مما يعزز من حرية التنقل والانفتاح بين الشبكات.
فكرة "بلوسكاي" لم تكن من ابتكار جاي غريبر، فالمشروع يعود إلى عام 2019 حين أعلنه جاك دورسي، الشريك المؤسس لمنصة "تويتر"، كمبادرة تهدف إلى إنشاء نسخة لامركزية من "تويتر"، وموّل فريقا صغيرا من الباحثين لتطويرها.
وفي عام 2021، تولت غريبر قيادة المشروع، مدفوعة بشغفها القديم بالتقنيات اللامركزية، بما فيها مشروع العملات الرقمية. وفي تلك الفترة، كانت سان فرانسيسكو تخضع لإغلاق شامل بسبب جائحة كورونا، وكانت غريبر تقيم في منزل جماعي مع عدد من روّاد الأعمال.
وتوضح روز وانغ، زميلتها آنذاك ومديرة العمليات الحالية في "بلوسكاي"، أن الظروف الفريدة للجائحة ساعدت في بلورة رؤية المنصة، قائلة: "واجهنا تحديات مجتمعية كبيرة، مثل: كيف نجعل الناس يشعرون بالأمان معا في هذا الوقت؟ أعتقد أن تجربتنا في بناء المجتمع في العالم الواقعي أثرت كثيرا على طريقتنا في بناء المجتمع الرقمي".
ولعلّ ما يميز "بلوسكاي" أيضا هو أن من تقف على رأسه امرأتان، في بيئة قلّما تجد فيها شركات ناشئة بقيادة نسائية، خاصة في وادي السيليكون، إذ تشير بيانات شركة "بيتش بوك" (Pitchbook) إلى أن هذه الشركات لا تحظى إلا بنسبة 6% فقط من إجمالي الصفقات الاستثمارية.
وتقول غريبر إن هويتها وهوية وانغ أثرتا بوضوح في النهج الذي اتّبعتاه في بناء الشركة، و"تجربتنا كامرأتين على الإنترنت جعلتنا نضع الاعتدال والمراقبة كأولوية أولى فيما نعتقد أنه ضروري لمنصة اجتماعية صحية".
في عام 2022، استحوذ إيلون ماسك على "تويتر" مقابل 44 مليار دولار. ورغم أنه أشار في البداية إلى رغبته في جعل خوارزمية المنصة مفتوحة المصدر، على غرار ما تقدمه "بلوسكاي"، فإنه سرعان ما قطع التمويل عن المشروع.
ونتيجة لهذا، توجهت جاي غريبر وفريقها إلى البحث عن مصادر تمويل بديلة، حيث نجحوا في جمع 8 ملايين دولار، ثم 15 مليونا في جولات لاحقة. وفي خطوة استراتيجية تعكس التزامهم بالمبدأ، قرروا تحويل "بلوسكاي" إلى شركة نفع عام، وهو ما يفرض عليهم السعي لتحقيق منافع اجتماعية إلى جانب الأهداف الربحية.
ومع اقتراب إطلاق النظام بالدعوات فقط في عام 2023، ارتفع الطلب بشكل حاد، إلا أن أدوات اللامركزية لم تكن قد اكتملت بعد. وعلى ضوء ذلك، اختارت غريبر الإبقاء على حجم الشبكة محدودا حتى تجهز البنية التحتية بالكامل. وتصف روز وانغ هذا القرار قائلة: "ربما هذا أحد أصعب القرارات التي يمكن أن تتخذها شركة: كبح النمو والبقاء مبدئيّين لبناء الأساس السليم".
تشرف غريبر اليوم على فريق يضم 24 موظفا وأكثر من 100 متعاقد لمراقبة المحتوى، حيث يتولى هؤلاء إزالة المنشورات الخطيرة مثل مواد استغلال الأطفال والتهديدات العنيفة.
وقد أثارت هذه السياسات استياء جاك دورسي، الذي استقال من مجلس الإدارة في ربيع العام الماضي، معتبرا أن المنصة باتت مركزية بشكل مفرط، وأن أدواتها الرقابية تتجاوز الحدود. لكن غريبر ترد على ذلك بالتأكيد أن المسؤولية يجب أن تنتقل إلى المستخدمين أنفسهم لبناء أنظمتهم الخاصة، وتقول: "لديك الحق المفتوح في المغادرة، إذا لم تعجبك الخدمات أو الرقابة أو التصميم، يمكنك بناء منصتك الخاصة".
تضم التغذيات الشعبية على "بلوسكاي" قنوات متنوعة، مثل "ساينس" (Science) و"بلاك سكاي" (Blacksky) المخصصة للمجتمع الأسود، والتي يبلغ عدد مستخدميها النشطين شهريا نحو 370 ألفا، بحسب التقني رودي فريزر الذي أطلقها.
وتوضح غريبر: "بعض التغذيات تدور حول أناس يجدون نقاط تقاطع في الهويات والنوع الاجتماعي.. هدفي من بناء شبكة مفتوحة هو تمكين الناس والمجتمعات التي تشعر بالتهميش من بناء مساحاتها الخاصة".
رغم هذا التنوع، لا يزال الطيف السياسي لمستخدمي "بلوسكاي" يميل بشدة إلى اليسار، ما يدفع بعض المحافظين إلى الشكوى من الرقابة أو المضايقات.
كما تباطأ نمو المستخدمين بشكل ملحوظ بعد الطفرة التي أعقبت الانتخابات، فبرغم أن عدد المستخدمين بلغ 35 مليونا، فإن هذا الرقم لا يزال متواضعا مقارنة بمئات الملايين على "إكس" و"ثريدز"، أو بمليارات المستخدمين على "إنستغرام" و"تيك توك".
ومع ذلك، تؤكد غريبر أنها غير قلقة من هذا التباطؤ، مشيرة إلى أن المنصة تمر بموجات متكررة من النمو والانحسار، وأنها مرتاحة للعمل بوتيرة أبطأ لتجنب أخطاء الشبكات السابقة التي ركزت على التوسع السريع على حساب جودة التجربة.
وتضيف: "الشبكات الاجتماعية أصبحت معتادة على فكرة أن المستخدمين عالقون بسبب تأثير الشبكة، لذا يقومون بإضعاف تجربة الخلاصات. هذا النموذج الربحي ربما لا يدوم طويلا، لأنه يصل إلى حدود طبيعية عندما يشعر الناس بالملل".
وفي ظل هذا النهج المختلف، تبحث غريبر وزميلتها وانغ عن نموذج ربحي بديل عن الإعلانات التقليدية أو استخدام بيانات المستخدمين لتدريب نماذج الذكاء الاصطناعي. ومن بين الخيارات المطروحة: نظام اشتراكات، أو تحقيق الدخل من سوق أدوات مخصصة داخل "بلوسكاي"، غير أنه لم تتبلور أي خطة واضحة حتى الآن.
وفي الوقت نفسه، تشجع المنصة رواد الأعمال المستقلين على بناء مشاريعهم الخاصة باستخدام بروتوكول "أي تي" (AT) المفتوح، كما هو الحال مع البريد الإلكتروني الذي يستند إلى بُنى موحّدة. ومن هذه المشاريع الناشئة: مشروع "فلاشز" (Flashes)، بديل "إنستغرام" الذي تجاوزت تحميلاته 100 ألف مرة، و"سكاي لايت" (Skylight)، وهي منصة شبيهة بمنصة "تيك توك"، بدعمٍ من المستثمر مارك كوبان.
وتجسّد هذه الفلسفة اللامركزية في قول وانغ: "إذا توقف خادم بلوسكاي الليلة، يمكن أن يظهر غرين سكاي (Greensky) في الصباح التالي". وتضيف: "يسألنا الناس دائما: كيف يمكننا الوثوق بكم؟ وإجابتنا: لا تثقوا بنا.. ثقوا بالبنية التحتية".
في ظل صعود شعارات إعلامية كبرى تروّج لحرية التعبير، والانفتاح، وتمكين الأفراد، تبدو الحقيقة الرقمية ضبابيّة أكثر من أي وقت مضى، وتتضح التناقضات حين تصطدم هذه الشعارات بالواقع: حذف ممنهج للمحتوى، تجميد للحسابات، كتم رقميّ لأصوات تنقل حقيقة أبشع إبادة للإنسان في العالم المعاصر.
لقد رأينا ذلك جليا في العدوان الإسرائيلي على غزة، حيث لم تُمسح فقط صور جرائم الحرب، بل مُسحت معها حسابات صحفيين وشهود عيان بالكامل، في عمليّة رقمية مركّبة لكتم الأصوات وتوجيه الإدراك العام.
إنها ليست مجرد رقابة، بل إعادة هندسة كاملة للوعي، تُمارس عبر خوارزميات تبدو محايدة، لكنّها مصممة لخدمة مصالح من يمتلك البنية التحتية الرقمية، والسلطة خلف الشاشة.
مبادرات مثل "بلوسكاي" لا تعِدنا بجنّة رقمية، لكنها تحمل نافذة لاحتمال آخر: أن نستعيد السيطرة، لا من خلال تغيير المنصة فقط، بل من خلال تغيير علاقتنا بها.. أن ننتقل من موقع "المستهلك الرقمي" إلى موقع "المشارك الواعي"، ومن التبعية الهادئة إلى بناء نظم رقمية تعكس أولوياتنا كبشر، لا كبيانات أو أرقام.
لربّما آن الأوان أن نستفيق من غفلتنا الرقميّة، ونكفّ عن الوثوق بمن يحتكر الحقيقة ويصوغها وفق مصالحه، وأن نعيد التفكير في أدواتنا، وعلاقتنا بها، وفي من يمتلك مفاتيح الوعي المجتمعي.
فهل يمكن أن نبني نحن العالم الرقمي ليخدم إنسانيتنا، أم أننا سنسمحُ له بإعادة تشكيلها في صورة لا تشبهنا شيئا فشيئا، حتى لا نعود نعرف أنفسنا؟