ليست اللغة في تجربة المحبوب عبد السلام مجرد أداة للتعبير، بل كائن حي يتنفس داخل النص، ويتشكل بقدر ما يشكل، ويتذكر بقدر ما يكتب ويختبر ويعيش من تجربة انسانية ومعرفية.
فهي ليست وسيطًا محايدًا للمعنى، بل ذاكرة كاملة تختزن ما قرئ، وما عاش، وما حلم به، ثم تعيده في هيئة جملة مشحونة بالحس، ومفتوحة على التأمل.
هذه القراءة لا تقوم على دافع عاطفي تجاه الرجل، بل على دراسة دقيقة لاستبيان قدراته الكتابية والفكرية، بما يبرز أن مستوى الفهم عند المحبوب عبد السلام يرتكز على التحليل المتأني، وحس وطني وثقافي عالٍ، قبل أي انفعال شخصي أو انحياز عابر.
يثير خطاب المحبوب عبد السلام سؤالًا ملتبسًا حول موقعه بين الأدب والسياسة، بين السرد والتحليل، وبين اللغة بوصفها جمالًا واللغة بوصفها موقفًا.
فالنبرة التي تطبع كتاباته لا تستقر كليًا في خانة الخطاب السياسي التداولي، ولا تنصاع تمامًا لجنس ادبي محدد.
ولذلك، يصبح الاشتغال على ما يمكن تسميته بذاكرة اللغة مدخلًا ضروريًا لفهم هذا الالتباس الخلاق، الذي جعل من نصوصه مساحات عبور، لا مناطق استقرار.
تتسم لغة المحبوب عبد السلام بادبية واضحة لا تخفي جذورها الجمالية، ولا تعتذر عنها.
مفرداته منتقاة بعناية، وتراكيبه تميل إلى إيقاع داخلي، حيث تتقدم الجملة بوصفها وحدة شعورية قبل أن تكون وحدة دلالية.
غير أن هذه الخصوصية لا يمكن ردها إلى وفرة القراءة وحدها، على أهميتها، بل إلى مصادر أعمق في تشكل ذاكرته اللغوية.
ومن بين هذه المصادر كسب آخر موصول بروح المثال القرآني، الذي تشبع به في كثير من مفرداته وتراكيبه.
وهو ما منح لغته بعدًا تأمليًا خاصًا، يزاوج بين صفاء البيان وعمق الدلالة، ويجعل النص عنده مشبعًا بروح ثقافية ترى في اللغة أفقًا للمعنى، لا مجرد وسيلة له.
الكتاب القارئون كثيرون، أما من يعيد ما قرأه وما تشربه تشكيل صوته الداخلي، ويصوغ به شخصيته الكتابية وحسه الشعري، فهؤلاء قلة.
وحس شعري بارز يظهر جليًا في رثائه للراحل دكتور الترابي، في نص شعري مختلف، حيث تتبلور المفردة والجملة في انسجام تام مع العمق العاطفي والفكري.
هذا التراكم لم يتشكل في فراغ، بل عبر مسار صحفي وثقافي واسع، بدأ حين عمل محررًا في مجلة اليوم السابع الباريسية، وهي ساحة كبرى للاحتكاك بالكتابة العالمية، والتعرف على كتاب كبار، ومناهج مختلفة في التفكير والكتابة.
ويبلغ هذا التماس بين اللغة والتجربة ذروته في مقاله المعنون: “قررت اغتيالك بالرحيل يا وطن”، وهو نص كتبه على اعتاب مغادرته للدراسة في باريس.
العنوان هنا لا يعلن قرار سفر، بل يبوح بجرح وجودي عميق، حيث يتحول الرحيل إلى فعل عنف رمزي، ويتحول الوطن إلى كيان حميم يمكن اغتياله بالغياب.
هذه لغة لا تصدر عن عقل سياسي يبرر، بل عن وجدان أديب يكتب ليخفف وطأة الفقد، ويحول الألم إلى معنى.
وفي هذا السياق المعرفي أيضًا، تبرز تجربته في الترجمة بوصفها عالمًا آخر من عوالم الجمال، لا يقل دلالة عن كتابته الأصلية.
فقد ترجم كتاب “الحج: المعنى والمنسك” للمفكر علي شريعتي من اللغة الانجليزية إلى العربية، وهي ترجمة لا تنهض بها المهارة اللغوية وحدها، بل يتطلبها حس ادبي قادر على نقل الإحساس، واستحضار النبرة الفكرية، والحفاظ على توتر الفكرة وهي تعبر بين لغتين.
لم تكن الترجمة هنا نقلًا حرفيًا، بل إعادة خلق، ظهر فيها تمكنه من اللغة، وقدرته على الإمساك بروح النص، واستعادة حرارة الأطروحة، وهو يعبر بها إلى العربية دون أن يفقدها عمقها أو شفافيتها.
هذه التنقلات لم تكن انتقالًا مهنيًا فحسب، بل عبورًا معرفيًا بين سياقات تحريرية مختلفة، ومدارس لغوية متباينة، واهتمامات فكرية متعددة.
وهو ما ثقل موهبته، ووسع ذاكرته الثقافية، بحيث لم تعد اللغة عنده انعكاسًا لبيئة واحدة، بل حصيلة حوار مستمر بين أماكن وتجارب ورؤى.
ويتكامل هذا المسار مع تجربته المؤسسية، حين شغل منصب مدير إدارة الإعلام الخارجي بوزارة الثقافة والإعلام، وعمل في هيئة الاعمال الفكرية، وهي مؤسسة تعنى بتشجيع الكتابة والترجمة والنشر لدى السودانيين المهتمين بقضايا الفكر والتأصيل الاسلامي.
كلا الموقعين أتاحا له تماسًا مباشرًا مع ثقافات شعوب أخرى، وفتحا أمامه مداخل متعددة لفهم كيفية تشكل الخطاب الثقافي في سياقات مختلفة، وهو ما يعكس حسًا ثقافيًا عاليًا، ووعيًا عميقًا بدور المعرفة في بناء المجتمع، خارج منطق الضجيج والبحث عن الاضواء.
كما أسس المحبوب عبد السلام حركة تضامن، مسارًا آخر سلمته بعد مغادرته الجماعة الاسلامية، سكب فيه خلاصة تجربته السياسية، ورؤيته للتعافي، ومخاطبة الآخرين في الشأن العام عبر جسم سياسي فكري جامع، يحمل هم الحلول، ويستند إلى الحوار والتضامن لمستقبل السودان.
ولا تقتصر ذاكرة اللغة عنده على النص المكتوب، بل تمتد بوضوح إلى حضوره الشفهي في اللقاءات الحوارية، والندوات، والمحاضرات.
فقد ألقى محاضرات في جامعات أوروبية وامريكية، كان يدرس فيها مادة “مقدمة في دراسة الاسلام”.
نبرته في الكلام هادئة، تأملية، بعيدة عن الخطاب الشعاري، والجملة عنده، حتى وهي منطوقة، تبدو وكأنها تفكر قبل أن تصل، وتتريث قبل أن تحسم.
لا يسعى إلى إغلاق المعنى، بل يتركه مفتوحًا، كما لو كان راويا أكثر منه خطيبًا.
ويبرز حسه الوطني والفكري أيضًا في خطابه إلى دكتور عبد الله حمدوك، إبان التوتر الذي سبق الانقلاب على حكومة الثورة، حيث بيّن نظرته العميقة للأحداث، وحرصه على تلطيف الجو للعبور، في تعبير واضح عن قدرة فائقة على تطويع المفردات والجمل بما يخدم العقل والوطن، لا الانقسام والضجيج.
المحبوب عبد السلام كاتب تشكلت تجربته في منطقة التداخل الخصب بين الأدب والفكر والسياسة، حيث تتحول اللغة عنده إلى ذاكرة واحدة، تحمل الموقف والجمال والفكر، وتظل نصوصه مساحات عبور بين الانسان والوطن والفكرة.
ويظل الحس الشعري هو الفيصل الذي يمنح كتاباته عمقًا لا يزول.
الكتابة عنده وطن لا يغادر، وحس الادب درب لا يختزل، ووجوده نص لا ينتهي.
السودان اليوم يحتاج إلى صوت العقلاء، ولذلك ينبغي على الراشدين فيه التقرب من هؤلاء، والاستماع إليهم، والاستفادة من خبراتهم وحلولهم المشربة بالتجربة.
ودكتور المحبوب عبد السلام واحد منهم، تجتمع عنده الخبرة الواسعة والرؤية الثاقبة، بما يجعل مساهماته فكرية وعملية في آن واحد، وقادرة على خدمة العقل والوطن.
الي حين عودة مع قامة أخرى.
“لغة الواثق كمير: كتابة تقيم في منطقة الوعي وعلى تخوم الفكر”.
المصدر:
الراكوبة