آخر الأخبار

هندسة الوعي المسموم: كواليس الاجتماع السرّي الذي أعاد تصميم وصناعة  "المناضل المصنوع" وكيف جنّد جهاز الأمن مؤثرين لقيادة الرأي العام من الخلف؟

شارك
من قاعات برج الاتصالات .. إلى مقر الشركات “المدللون”
الحلقة “٤”
هندسة الوعي.. السيطرة الناعمة
عقب هبة سبتمبر ٢٠١٣، والأثر الذي خلفته على نظام الاسلاميين، انعقد اجتماع أمني رفيع المستوى في إحدى مقار العمل الأمني بالعاصمة الخرطوم، ولم يكن الاجتماع مخصصاً لمناقشة تطورات ميدانية أو تهديدات أمنية مباشرة، بل -بحسب مصدر حضر الاجتماع- فقد خُصِّص الاجتماع بالكامل لمراجعة ما وُصف بـ”أداء الدولة في الفضاء الرقمي”، ووضع تصور عملي للتعامل مع تصاعد النشاط المعارض على وسائل التواصل الاجتماعي (الفيسبوك).
حضر الاجتماع عدد من القيادات الإسلامية البارزة، ومجموعة كبيرة من ضباط جهاز الأمن برتب مختلفة، وكان على رأسهم الفريق أول محمد عطا، إلى جانب عدد من الإعلاميين المحسوبين على الحركة الاسلامية، ومن بينهم (حسين خوجلي، إسحاق احمد فضل الله، وحسين ملاسي)، وتقنيين مختصين في (تحليل البيانات، وإدارة المحتوى الرقمي، ورصد التفاعل على المنصات الاجتماعية) ومن بينهم برز (أبو سيقان)، بالاضافة للقيادي في (كتيبة الجهاد الإلكتروني) علاء الدين يوسف صاحب صفحة Basher Yagoub على الفيسبوك، وأمام الحضور، عُرضت على الشاشات خرائط تفاعلية تُظهر شبكات الحسابات، ومسارات انتشار المحتوى، ونقاط التأثير داخل مجموعات فيسبوك.
لم يناقش الحضور كيفية إغلاق هذا الفضاء أو حظره، بل كيفية السيطرة عليه من الداخل، ووفق المصدر، فقد جرى الاتفاق داخل الاجتماع على مبدأ أساسي مفاده أن الرقابة والحجب لم يعودا أدوات فعالة، وأن إدارة النقاش العام، وتوجيهه، وتفكيكه عند الضرورة، باتت الوسيلة الأكثر نجاعة والأقل كلفة سياسية.
من داخل المنظومة
حصل هذا التحقيق على معلوماته من تقني أمني سابق، عمل لسنوات ضمن وحدات مرتبطة بالعمل الرقمي بهيئة الاتصالات، ومتصلة بجهاز الأمن، وكان تخصصه المهني سبباً في ذلك الارتباط، وليس للإنتماء السياسي، وقد طلب المصدر عدم الكشف عن هويته لأسباب أمنية، وقد قدّم تفاصيل متقاطعة مع شهادات أخرى ووثائق داخلية اطلع عليها فريق التحقيق.
يقول المصدر إن دافعه الاول للكشف عن تلك المعلومات ليس سياسياً بقدر ما هو أخلاقي، فبعد هبة سبتمبر -بحسب تعبيره- “تحوّل العمل الرقمي من الرصد إلى الهندسة، ومن المتابعة إلى إعادة التشكيل”، ويضيف أن كثيراً من الأدوات الرقمية التي طُوِّرناها بغرض “حماية الدولة” استُخدمت لاحقاً بشكل يخالف المبادئ التي كنا نعمل وفقا لها، فقد تم توظيف تلك الادوات في تفكيك المجتمع المدني، واستهداف الأفراد، وانتهاك خصوصياتهم، بغرض إعادة توظيفهم قسراً لصالح جهاز الامن، بل وفي بعض الأحيان استُخدمت ضمن صراعات المصالح خارج وداخل المنظومة نفسها.
هندسة الوعي الجمعي.. الإطار المؤسسي والزمني
في السياق الزمني لهذه الوقائع، يجدر التذكير بأن رئاسة جهاز الأمن والمخابرات الوطني خلال الفترة الممتدة من عام 2011 إلى 2014 كانت بيد الفريق أول مهندس محمد عطا المولى عباس، الذي تولّى المنصب منذ 2009 واستمر فيه لعدة سنوات، وتُعد تلك المرحلة من أكثر الفترات حساسية في تاريخ الجهاز، إذ تزامنت مع تصاعد الاحتجاجات الشعبية، وهبة سبتمبر 2013، واتساع الاعتماد على الأدوات الرقمية في التعبئة ضد أو مع السلطة، بالإضافة لعمليات الرصد والمتابعة.
وقد أفضى ذلك إلى إعادة هيكلة العمل الأمني بحيث يجمع بين القمع الميداني التقليدي وهندسة الوعي الممنهج للفضاء العام، خاصة على منصات التواصل الاجتماعي (الفيسبوك)، بوصفها ساحة مركزية للصراع على الرأي العام.
الخطة.. من القمع إلى إدارة النقاش العام
خرج الاجتماع الأمني بخطة متعددة المستويات، هدفها النهائي التحكم في الوعي الجمعي دون اللجوء المباشر إلى القمع، وارتكزت على أربع مراحل رئيسية:
• الرصد والتصنيف
• صناعة المحتوى
• تضخيم التأثير
• التدخل الانتقائي عند الضرورة
وأُوكل تنفيذ هذه المهام إلى ما بات يُعرف داخل الجهاز بـ”كتيبة الجهاد الإلكتروني”، التي تضم طيف واسع من الاسلاميين وبتخصصات مختلفة (أمنيين، اعلاميين، وتقنيين، وطلاب جامعيين)، وقد تطورت تلك (الكتيبة) من وحدة كانت تعمل بردة الفعل ضد الأنشطة المعارضة للنظام، إلى وحدة تخطيط وتحليل، معتمدة في ذلك على عناصر مدربة، وبنية رقمية تحتية متطورة، ووفقاً لذلك، لم تكتفِ بمراقبة الحسابات المعارضة، بل أنشأت قواعد بيانات تفصيلية عن الناشطين، تشمل اهتماماتهم، وشبكات علاقاتهم، ونقاط ضعفهم، ومدى قابليتهم للاستقطاب أو الاحتواء.
إحدى أبرز مخرجات ذلك الاجتماع، بحسب إفادة المصدر نفسه، تمثّلت في إصدار تعميم داخلي مُلزم موُجّه لعضوية الحركة الإسلامية وعناصر الأجهزة الأمنية، يقضي بضرورة إنشاء حسابات على فيسبوك لكل عضو، وتم توجيه فئات محددة من العضوية بإنشاء حسابات غير الحسابات الرسمية وبأسماء مستعارة، وذلك كإجراء تنظيمي وليس خياراً فردياً، ووفق التعميم، فقد تم توجيه (كتيبة الجهاد الإلكتروني) بالقيام بدور مركزي في إنشاء وإدارة مجموعات وصفحات على الفيسبوك، تُجمع داخلها هذه الحسابات وتُنسَّق حركتها، بهدف ضمان تماسك العضوية رقمياً، وتوفير أذرع دعم جاهزة للصفحات المساندة للنظام، وتنفيذ الحملات المنظمة، وتوحيد الرسائل والخطاب في اللحظات المفصلية، ويشير المصدر إلى أن هذا التنظيم، صُمّم ليعمل كشبكة متماسكة تتحرك بإيقاع واحد، تُضخِّم الرسائل المطلوبة وتمنحها مظهراً عضوياً واسع الانتشار، بما يعزز فاعليتها ويقلّل كلفتها السياسية.
المحتوى كأداة لصناعة التأثير
بحسب المصدر نفسه، فقد نجح جهاز الأمن خلال تلك المرحلة في صناعة عدد كبير من المؤثرين على منصة فيسبوك من داخل شبكاته المغلقة، عبر عملية ممنهجة جمعت بين الدعم التقني والتضخيم للتفاعل، وجرى تزويد هذه الحسابات برصيد كبير من المتابعين خلال فترات زمنية قصيرة، إلى جانب إمدادها بمحتوى جاهز مُنتَج باحترافية عالية.
وقد تنوع هذا المحتوى بين العاطفي والفكاهي، وأحياناً التحليلي والعلمي والسياسي، وفي بعض الأحيان بأخبار حصرية، وذلك لضمان زيادة التفاعل من خارج الشبكات، ولم يكن حينها الهدف من ذلك الترويج المباشر لخطاب أمني أو سياسي، بل لدس رسائل محددة داخل سياقات تبدو طبيعية وغير مسيّسة، مثل:
• إعادة تعريف الأولويات.
• تطبيع الخوف من التغيير.
•التشكيك في الفعل الجماعي.
• إعادة إنتاج سرديات بعينها بصيغ خفيفة وقابلة للانتشار.
وبهذه الطريقة، تحوّل المحتوى نفسه إلى أداة هندسة للوعي وتعمل ببطء وتراكم، دون أن تترك أثراً مباشراً يشير إلى مصدرها الحقيقي.
صناعة المؤثرين من داخل الشبكة
في المرحلة الأولى من التنفيذ، ركزت الخطة على (صناعة مؤثرين) من داخل الشبكة نفسها (كتيبة الجهاد الإلكتروني) وما حولها، وجرى اختيار أفراد من مجموعات فيسبوك المغلقة بناءاً على قدرتهم على التعبير، وقبولهم الاجتماعي، واستعدادهم للتعاون، وخضع هؤلاء لتدريب مباشر شمل:
•إدارة المحتوى
•فهم الخوارزميات
•أساليب التأثير العاطفي.
وفي بداية الامر، كان المحتوى يُعدّ في الغالب بواسطة خبراء، ثم يُمرَّر للمؤثرين في صورة أفكار عامة، ليبدو وكأنه إنتاج شخصي، ولم يُطلب منهم الدفاع المباشر عن السلطة أو مهاجمة الخصوم، بل التركيز على قضايا عامة مثل التخويف من الفوضى، والتشكيك في العمل الجماعي، وإعادة ترتيب الأولويات الوطنية بما يضمن صرف الانتباه عن القضايا التي تعبيء الجماهير ضد النظام.
كما استُخدمت المبادرات الإنسانية كغطاء فعّال، فقد أكسبت المشاركة في حملات الدعم والمساعدات هذه الحسابات رصيداً أخلاقياً جرى استثماره لاحقاً في تمرير رسائل سياسية خلال لحظات حساسة.
الاختراقات وشراء التأثير
وفي مرحلة لاحقة، انتقلت المنظومة إلى استهداف مؤثرين من خارج الشبكة، غالباً من الناشطين السياسيين، أو الشخصيات المستقلة التي تحظى بقدر من المصداقية، وتم ذلك بشكل مباشر، او عبر وسطاء، أو أفراد قُدِّموا كمستشارين إعلاميين.
ولم يُفرض ذلك تغيير فجائي على محتوى تلك الحسابات (المؤثرين)، بل جرى “ضبطه” تدريجياً عبر:
•تخفيف حدة النقد
•إعادة ترتيب القضايا والأولويات
•اعتماد (الصمت المدروس) في توقيتات بعينها
وبهذا ظلت الصورة العامة للمؤثر محفوظة، بينما تغيّر الدور الوظيفي للحساب دون إعلان، ليبدو التحول وكأنه تطور طبيعي في المواقف وليس نتيجة اختراق ممنهج.
الاعتقالات.. من القمع إلى وسيلة للتجنيد
خلال العام ٢٠١٤، اكتمل هذا العمل الرقمي بحملة اعتقالات ممنهجة استهدفت عناصر نشطة واستمرت لفترة طويلة، وبحسب مصادر متعددة، لم تُدار هذه الحملة بشكل عشوائي، فقد استندت إلى قوائم أُعدّت مسبقاً داخل الفضاء الرقمي بواسطة كتيبة الجهاد الإلكتروني، وفي كثير من الحالات، لم يكن الهدف من الاعتقال العقاب، بل كان وسيلة لفتح قنوات للتواصل والتفاوض، وعُرضت على بعض المعتقلين صفقات مقابل التعاون، شملت أموالاً، فرص عمل، وسفر، وتسهيلات، أو حتى وقف الملاحقة الأمنية، وبالتوازي، فقد جرى اختراق الهواتف وأجهزة اللابتوب خلال فترة الاعتقال بواسطة برامج التجسس (RCS)، بحثاً عن محتوى خاص أو وثائق يمكن استخدامها في الابتزاز والضغط لإجبار أصحابها على القبول بالعروض المقدمة إليهم.
وبهذا، تحوّل الاعتقال إلى حلقة ضمن منظومة متكاملة تبدأ بالرصد الرقمي، وتمر بالإكراه الميداني، وتنتهي بإعادة التوظيف داخل الفضاء نفسه.
ويؤكد المصدر أن الخطة شملت استمالة أسماء معروفة وفاعلة في الفضاء الرقمي، بعضهم محسوب على التيار المعارض أو المستقل، ووفق إفادته، جرى استقطاب بعضهم عبر صفقات مباشرة بعد الاعتقال أو الاستدعاء، أو بالابتزاز باستخدام محتوى خاص تم جمعه خلال التفتيش الرقمي، وفي حالات أخرى بالجمع بين الأداتين معاً لفرض التعاون بشكل قسري، ولم يُطلب منهم تبني خطاب أمني أو سياسي مباشر، بل جرى توظيف حضورهم للتأثير غير المباشر، بتخفيف حدة النقد، إعادة ترتيب القضايا والأولويات، أو الصمت المدروس في لحظات مفصلية، بما يخدم هندسة الوعي الجمعي دون المساس بصورتهم العامة كناشطين سياسيين و(مناضلين).
ويكشف هذا التحقيق جانباً أكثر حساسية من عمل المنظومة الأمنية الرقمية، يتمثل في أسماء يقول المصدر: إنها خضعت لمسارات الاستمالة أو الاحتواء ضمن الخطة التي وُضعت عقب هبة سبتمبر.
ووفق إفادته، شملت هذه المسارات ناشطين سياسيين معروفين في الفضاء العام، من بينهم من يُشار إليهم باعتبارهم معارضين أو أصواتاً مستقلة، مثل الناشط السياسي (تأبط شراً)، وكنت مسؤولاً بشكل مباشر عن متابعة نشاطه على الفيسبوك ضمن مجموعة صغيرة تمت استمالتها، وذلك للتأكد من تنفيذ ما تم الاتفاق عليه، إلى جانب أسماء أخرى يرد ذكرها بوصفها قادمة من داخل الشبكات المرتبطة بالمنظومة الامنية نفسها أو المحيطة بها، مثل (هباني) و(أرجنتيني) و(الضي).
ويؤكد المصدر أن التعامل مع الذين تم احتواءهم من خارج المنظومة لم يكن موحداً، بل تنوّع بين صفقات مباشرة، وضغوط غير معلنة، واستخدام أدوات الابتزاز أو الجمع بين “الجزرة والعصا”، بهدف إعادة توجيه أدوارهم داخل الفضاء الرقمي بما يخدم الخط العام لهندسة الوعي، مع الحفاظ -في معظم الحالات- على صورتهم العامة دون تغيير فجائي في مواقفهم يلفت الانتباه.
ويضيف المصدر، برغم نجاح عملية الاستمالة والاحتواء مع البعض، إلا أنها فشلت مع الكثيرين بسبب رفضهم للعروض المقدمة إليهم، أو لعدم وجود ما يمكن يكون سببا للضغط عليهم او لإبتزازهم، أو لعدم إستجابتهم للضغوط.
من الطاعون إلى المنصات الرقمية
ما يكشفه هذا التحقيق يجد جذوره في ما وثّقه كتاب “الطاعون” للكاتب فتحي الضو، الذي تناول اختراق جهاز الأمن لمؤسسات الدولة والفضاء المدني في حقبة سابقة، والفارق هو أن المنهج ذاته أُعيد إنتاجه داخل المنصات الرقمية، وما كان يُمارَس عبر النقابات والاتحادات والواجهات التنظيمية، يُمارَس اليوم عبر الحسابات والخوارزميات والمؤثرين.
تغيّرت الأدوات، لكن العقل الأمني بقي ثابتاً، الاختراق بدل المواجهة، والإدارة من الخلف بدل القمع العلني.
ويرصد هذا التحقيق تحولاً كبيراً في طريقة إدارة السلطة للمجال العام، حيث تُدار المعركة على الوعي قبل أن تُدار على الأرض، ويُعاد تشكيل وعي المجتمع عبر شاشات تبدو للوهلة الأولى بعيدة عن السياسة، لكنها في الواقع في قلبها.

الراكوبة المصدر: الراكوبة
شارك


حمل تطبيق آخر خبر

إقرأ أيضا