آخر الأخبار

نساء السودان.. الجسارة والقيادة في ثورة ديسمبر

شارك

كتب: حسين سعد

كانت ومازالت حتي يوم الناس هذا جسارة المرأة السودانية هي العمود الفقري الخفيّ لكل هذا الصمود، القوة التي اشتغلت بصمتٍ عميق حين علا ضجيج السلاح، وحين تكسّرت البنى الرسمية وتراجعت الدولة عن واجباتها الأساسية، في القري والفرقان والحلال والمدن وحواشات الجزيرة ورمال كردفان وفيافي دارفور ظلت المراة السودانية في مراكز الإيواء، ومعسكرات النزوح، ومنافي اللجوء القاسية، تقدّمت النساء الصفوف لا بوصفهن ضحايا فحسب، بل كقائداتٍ ومنظِّمات وحامياتٍ للحياة في أكثر لحظاتها هشاشة، حملن العبء مضاعفًا: عبء الفقد، وعبء الإعالة، وعبء حماية الآخرين، ومع ذلك صنعن من الألم قدرةً على التنظيم، ومن الخوف طاقةً للرعاية، في مراكز الإيواء المؤقتة—المدارس والمساجد والقاعات المهجورة—كانت النساء أول من أعاد ترتيب الفوضى، قسّمن المساحات، نظّمن الصفوف، أنشأن جداول للطعام والمياه، وابتكرن آليات بسيطة لكنها فعّالة لتوزيع الموارد الشحيحة بعدل، كنّ يعرفن أن الكرامة تبدأ من التفاصيل: ستارة تفصل الأسر، زاوية آمنة للأطفال، وقت محدد للاستحمام، ووجبة تُقدَّم باحترام. هكذا تحوّلت أماكن اللجوء القسري إلى مساحاتٍ قابلة للحياة، لأن النساء أصررن أن النجاة لا تعني البقاء فقط، بل الحفاظ على الإنسانية، وفي معسكرات النزوح، حيث تتراكم الصدمات وتتقاطع الهشاشات، لعبت التنظيمات النسوية أدوارًا محورية في الحماية المجتمعية، شكّلن لجانًا للرصد والدعم النفسي، قدّمن الإسعافات الأولية، ورفعن الصوت ضد العنف القائم على النوع الاجتماعي. في غياب الخدمات الرسمية، صارت المرأة مرجعيةً ومأوى، تُنصت قبل أن تُسعف، وتحتضن قبل أن تُداوي. كثيرات منهن تعلّمن بالممارسة، وتشاركن المعرفة، وبنين شبكات تضامن تحمي الأضعف، وتعيد الثقة إلى مجتمعٍ جُرح عميقًا.

ذاكرة الدم وثورة الناس: ديسمبر في وجدان السودانيين

أما في مسارات اللجوء خارج الحدود، فقد حملت النساء السودان معهن، لا كذاكرةٍ فقط، بل كمشروع صمود، أسّسن مجموعات دعمٍ ذاتي، رتبن خدمات الترجمة، وجمعن التبرعات، وساعدن في الوصول إلى التعليم والرعاية الصحية، في مدنٍ لا يعرفن لغتها ولا قوانينها، تفاوضن مع الواقع بشجاعة، وحوّلن الهامش إلى مساحة فعل. كنّ يعِدن تعريف القيادة بعيدًا عن المنابر، قيادةٌ تنبع من الخدمة، وتُقاس بقدرتها على حماية الحياة اليومية، وتقاطعت جسارة النساء مع عمل المجتمع المدني، الذي ظلّ واقفًا رغم كل القيود، منظماتٌ صغيرة، ومبادرات قاعدية، وجمعيات طوعية وُلدت من الحاجة المباشرة، لا من خططٍ ممولة، اشتغل المجتمع المدني بموارد محدودة، وواجه تحديات خانقة: ضعف التمويل، تعقيدات إجراءات التسجيل، والاشتباه الدائم في نواياه. ومع ذلك، لم يتوقف. ابتكر حلولًا محلية، اعتمد على المتطوعين، وبنى شراكاتٍ مرنة، لأن الضرورة لا تنتظر الموافقات.

كان التمويل—أو غيابه—معركةً يومية. مشاريع تبدأ ثم تتعثّر، فرق تعمل بلا رواتب، واحتياجات تتضاعف فيما الموارد تتناقص. ومع هذا الشحّ، حافظت المبادرات على شفافيتها، ووسّعت دائرة الثقة مع المجتمعات المستفيدة. لم تكن البسالة هنا في حجم الميزانيات، بل في الاستمرارية، وفي القدرة على العمل الأخلاقي تحت الضغط. وحين أعاقت إجراءات التسجيل الوصول إلى الدعم الرسمي، لجأ الفاعلون إلى الشبكات، وإلى التضامن الأهلي، وإلى دعم السودانيين في الخارج، فاستمر العمل، وفي قلب هذا المشهد، برزت النساء كحلقة وصلٍ بين المجتمع المدني والقاعدة الشعبية. قدن المبادرات، أدرن الملفات الحساسة، وتفاوضن مع السلطات المحلية والمنظمات الدولية. قدّمْنَ مقترحاتٍ واقعية تنطلق من احتياجات الناس لا من نماذج جاهزة. وبهذا، ساهمن في إعادة تعريف العمل الإنساني بوصفه شراكة مع المجتمع، لا خدمة تُسقَط من أعلى ، إن الحديث عن جسارة النساء وتنظيماتهن ليس إضافةً تجميلية إلى سرد الثورة والصمود، بل هو اعترافٌ بدورٍ تأسيسي. فحيثما انهارت المؤسسات، أقمن مؤسساتٍ بديلة من الرعاية والتنظيم. وحيثما ضاق التمويل، وسّعن التضامن. وحيثما حاول القمع كسر الإرادة، واجهنه بالاستمرارية. بهذا المعنى، كانت النساء والمجتمع المدني معًا خط الدفاع الأخير عن الإنسانية في السودان—خطًا صمد، وسيظل صامدًا، ما دام الإيمان بالحياة أقوى من كل العوائق.

ذاكرة ثائرة معلّقة بين فاجعتين

في معسكرات النزوح واللجوء ومراكز الايواء تشتت الأسر من الفاشر الي الجنينة والي الجزيرة والدلنج وسنجة، وبارا والكومة وغيرها من المدن والقري التي شهدت إنتهاكات دامية لحقوق الانسان ، أهل دارفور عاشوا ويلات الحرب منذ العام 2003م حيث إستبقهم إنسان جبال النوبة الذي عاني ويلات الحرب منذ العام 1983م وكذلك شرق السودان ، تروي قصص نساء حملن أطفالهن فوق ظهورهن وهربن بين النيران، نساء فقدن أزواجهن وإخوتهن، وأخريات يقفن في طوابير الخبز والماء كأنهن يعتذرن للحياة عن صبرها الطويل، صحيح اليوم لم تعود الثورة بضجيج مواكبها ، ولا زحمة الاعتصام، بل أصبحت ذكرى مشتركة بين ملايين السودانيين الذين يحاولون النجاة، رغم الخراب ، مازال ديسمبر رمزاً لايموت ، رمزًا للناس الذين واجهوا الرصاص بصدورٍ عارية، ولأحلامٍ حاولت بناء وطنٍ يليق بأطفاله، اليوم نحن نقف على أطلال مدنٍ مدمرة وقلوبٍ مثقلة، يبقى سؤال واحد يطارد الجميع، فالثورة لم تموت لانها ببساطة هي قدرة الناس على النهوض بعد كل سقوط، وعلى الاحتفاظ بالضوء حتى في أشد العتمات، وفي السودان ما زال الضوء موجودًا، مهما طال الليل؟

مدنية نيوز

الراكوبة المصدر: الراكوبة
شارك


حمل تطبيق آخر خبر

إقرأ أيضا