عقد مجلس الأمن الدولي التابع للأمم المتحدة، بعد ظهر يوم الاثنين الموافق ٢٢ ديسمبر ٢٠٢٥، جلسة إحاطة مفتوحة رفيعة المستوى لمناقشة التدهور المتسارع والخطير للأوضاع في السودان، وذلك مع اقتراب النزاع المسلح من يومه الألف. 1 جاءت هذه الجلسة، التي حملت الرقم ١٠٠٧٧ في سجلات المجلس، استجابةً لطلب رسمي عاجل تقدمت به حكومة السودان عبر رسالة مؤرخة في ١٣ ديسمبر، أشارت فيها إلى تصعيد غير مسبوق في الهجمات التي تشنها “قوات الدعم السريع” شبه العسكرية ضد المدنيين والبنى التحتية الحيوية. 2
وقد اكتسبت هذه الجلسة أهمية استثنائية نظراً للدعم الدبلوماسي الواسع الذي حظي به طلب الانعقاد من قبل كتلة “A3 Plus” (التي تضم الجزائر، سيراليون، الصومال، وغويانا)، بالإضافة إلى الدعم من القوى الدولية الكبرى المتمثلة في الصين، روسيا، وباكستان. 2 هذا الاصطفاف الدبلوماسي عكس منذ اللحظة الأولى انقساماً جيوسياسياً واضحاً داخل أروقة المجلس حول كيفية التعامل مع ملف السيادة السودانية وتصنيف أطراف النزاع.
شهدت الجلسة مشاركة مباشرة وعالية المستوى من قبل رئيس الوزراء الانتقالي السوداني، كامل الطيب إدريس، الذي طرح مبادرة سلام سيادية شاملة، واضعاً إياها في مواجهة مباشرة مع المبادرات الخارجية، ولا سيما تلك التي تقودها “المجموعة الرباعية” (الولايات المتحدة، المملكة المتحدة، السعودية، والإمارات). 4 وقد تزامن الانعقاد مع تقارير ميدانية تفيد بدخول الحرب “مرحلة أكثر فتكاً”، تميزت بانتقال مركز الثقل العسكري إلى منطقة كردفان الاستراتيجية، وسيطرة قوات الدعم السريع على حقول نفط “هجليج” الحيوية، واستخدام مكثف للطائرات المسيرة (الدرون) التي طالت حتى قواعد حفظ السلام الأممية. 1
يستعرض هذا التقرير المفصل، المكون من تحليلات معمقة لمجريات الجلسة والبيانات الواردة فيها، الأبعاد العسكرية، الإنسانية، والسياسية لهذا المنعطف الخطير في تاريخ السودان، مستنداً إلى الوقائع والشهادات التي طُرحت أمام أعضاء المجلس الخمسة عشر.
قدم السيد محمد خالد خياري، الأمين العام المساعد للشرق الأوسط وآسيا والمحيط الهادئ في إدارتي الشؤون السياسية وبناء السلام وعمليات السلام (DPPA-DPO)، إحاطة شاملة رسمت صورة قاتمة للوضع الميداني. وأكدت الإحاطة أن النزاع لم يعد مجرد اشتباكات متفرقة، بل تحول إلى حرب استنزاف شاملة تستهدف السيطرة على مفاصل الدولة الاقتصادية والاستراتيجية. 2
أحد أهم المحاور التي ركزت عليها الجلسة هو التحول الجذري في جغرافية الصراع نحو إقليم كردفان. يُعد هذا الإقليم “القلب النابض” للاقتصاد السوداني وممر العبور الرئيسي الرابط بين دارفور في الغرب والخرطوم في الوسط، فضلاً عن كونه الحاضنة الرئيسية للبنية التحتية النفطية.
سقوط حقول الطاقة:
أفاد السيد خياري بأن قوات الدعم السريع حققت اختراقات استراتيجية كبرى في هذا الإقليم، تمثلت في:
أوضحت الإحاطة أن المدن الرئيسية في ولاية جنوب كردفان، وتحديداً “كادقلي” (عاصمة الولاية) و”الدلنج”، تعيش تحت ظروف “شبه حصار” خانقة.2 هذا التكتيك العسكري، الذي يعتمد على عزل المدن عن خطوط الإمداد، يكرر السيناريو الذي طبقته قوات الدعم السريع في دارفور، ويهدف إلى إنهاك الحاميات العسكرية للجيش السوداني وتجويع الحاضنة الاجتماعية الداعمة للدولة. كما أشارت التقارير إلى سقوط مدينة “بارا” الاستراتيجية في شمال كردفان في أواخر أكتوبر، مما أدى إلى قطع طريق الإمداد الحيوي الرابط بين الأبيض (شمال كردفان) والخرطوم.2
شكلت أحداث مدينة الفاشر، عاصمة ولاية شمال دارفور، محوراً مؤلماً في مداولات المجلس. كانت الفاشر تمثل آخر معاقل القوات المسلحة السودانية في إقليم دارفور الشاسع. وأكدت التقارير الواردة في الجلسة أن قوات الدعم السريع شنت هجوماً واسع النطاق أدى إلى سيطرتها على أجزاء واسعة من المدينة، منهية بذلك حصاراً استمر ١٨ شهراً. 2
الآثار المترتبة على هذا التطور تتجاوز البعد العسكري إلى البعد الإنساني الكارثي. استشهدت الإحاطات بتقرير صادر عن مكتب المفوض السامي لحقوق الإنسان (OHCHR) بتاريخ ١٨ ديسمبر، والذي وثق الفظائع التي ارتكبتها قوات الدعم السريع خلال هجومها السابق على مخيم زمزم للنازحين (بين ١١ و١٣ أبريل). أشار التقرير إلى مقتل ١,٠١٣ مدنياً، بينهم ٣١٩ تم إعدامهم ميدانياً (إعدامات بإجراءات موجزة). 2 سقوط الفاشر يفتح الباب أمام تكرار هذه السيناريوهات على نطاق أوسع، وسط مخاوف من عمليات تطهير عرقي ممنهجة.
كشفت جلسة ٢٢ ديسمبر عن تحول نوعي في أدوات الحرب، حيث انتقل الصراع من المواجهات التقليدية إلى استخدام تقنيات متقدمة وشبكات قتال دولية.
حرب الطائرات المسيرة (Drones):
وصف السيد خياري الاستخدام المتزايد للطائرات المسيرة بأنه “سمة مثيرة للقلق بشكل خاص” في المرحلة الحالية من النزاع.3 لم يعد استخدام هذه الطائرات مقتصراً على الاستطلاع، بل تحول إلى أداة للقتل العشوائي وتدمير البنى التحتية.
تدويل القتال والمرتزقة:
في شهادة لافتة ومثيرة للجدل، تحدث المحلل السياسي المستقل كاميرون هدسون أمام المجلس عن تحول الحرب إلى “صراع دولي بالكامل”. وكشف عن وجود أدلة تشير إلى مشاركة “مرتزقة كولومبيين متمرسين في القتال” إلى جانب قوات الدعم السريع.6 هذا التطور يشير إلى أن قوات الدعم السريع تمتلك شبكات تمويل وتجنيد عابرة للقارات، مما يعقد فرص الحل المحلي. وأشار هدسون إلى أن الحرب تستخدم الآن “ذخائر دقيقة التوجيه” وأنظمة تكتيكية تعمل بالألياف الضوئية، مما ينفي صفة “الميليشيا التقليدية” عن القوات المتمردة ويضعها في مصاف الجيوش المجهزة بتمويل خارجي ضخم.6
قدمت السيدة إيديم وسورنو، مديرة قسم الاستجابة للأزمات في مكتب تنسيق الشؤون الإنسانية (OCHA)، سرداً مفصلاً للكارثة الإنسانية التي وصفتها بأنها “تفوق التصور”. لم تكن الأرقام مجرد إحصائيات، بل عكست انهياراً كاملاً لمنظومة الحياة في السودان.
أكدت الجلسة أن السودان يواجه الآن أكبر أزمة نزوح في العالم، حيث تجاوز عدد النازحين ١١ مليون شخص. 7 وفي ظل هذا النزوح الهائل، يعاني التمويل الإنساني من عجز فادح. أوضحت البيانات أن خطة الاستجابة الإنسانية لعام ٢٠٢٥، التي تتطلب ٤.١٦ مليار دولار، لم يتم تمويلها إلا بنسبة ٣٦٪ فقط حتى وقت انعقاد الجلسة. 2
جدول رقم (١): مؤشرات الوضع الإنساني والتمويلي (كما ورد في الجلسة)
المؤشرالقيمة / التفاصيلالمصدرعدد النازحين أكثر من ١١ مليون نازح (أكبر أزمة نزوح عالمياً) 7التمويل المطلوب (٢٠٢٥) ٤.١٦ مليار دولار أمريكي 2نسبة التمويل الحالية ٣٦ ٪ فقط 2المنشآت الصحية المستهدفة ٢٠١ هجوم تم التحقق منه من قبل منظمة الصحة العالمية 2مخصصات صندوق السودان الإنساني ٣٣ مليون دولار فقط لمنطقة كردفان خلال العام 2لم يكن النقص في التمويل هو العائق الوحيد؛ بل كان الاستهداف المنهجي لعمال الإغاثة وممرات التوصيل هو الأخطر. أدانت المملكة المتحدة بشدة الهجوم المبلغ عنه بطائرة مسيرة على معبر “أدري” الحدودي مع تشاد. 5 يُعد هذا المعبر “الرئة” التي تتنفس منها مناطق غرب السودان ودارفور لتلقي المساعدات. قصف هذا المعبر يُفسر على أنه محاولة متعمدة لفرض المجاعة كسلاح حرب، وقطع شريان الحياة عن ملايين المدنيين المحاصرين في مناطق سيطرة الدعم السريع أو مناطق القتال.
وأشارت وسورنو إلى أن النظام الصحي ينهار تحت وطأة الهجمات المباشرة وانتشار الأوبئة، محذرة من أن خطر المجاعة بات وشيكاً وينتشر بسرعة في المناطق التي يتعذر الوصول إليها بسبب الحصار والقصف. 5 وطالبت المجلس بإرسال رسالة “قوية ولا لبس فيها” بأن الهجمات على العاملين في المجال الإنساني لن تمر دون حساب، إلا أن الواقع الميداني الذي وصفته يشير إلى سيادة ثقافة الإفلات من العقاب. 1
شكلت المشاركة المباشرة لرئيس الوزراء الانتقالي السوداني، الدكتور كامل الطيب إدريس، نقطة تحول في مسار الجلسة. عكست كلمته ومبادراته الهوة الشاسعة بين رؤية الحكومة الوطنية للحل ورؤى بعض القوى الدولية والإقليمية.
طرح رئيس الوزراء إدريس مبادرة سلام وصفها بأنها “صناعة منزلية – لم تفرض علينا”، في إشارة واضحة لرفض الإملاءات الخارجية. 4 استندت المبادرة إلى مبدأ استعادة هيبة الدولة واحتكار العنف الشرعي.
الركائز الأربعة لمبادرة الحكومة السودانية:
رسم إدريس في خطابه “خطوطاً حمراء” لا يمكن تجاوزها، مؤكداً: “سيادتنا وسلامة أراضينا خطوط حمراء.. لن نستسلم أبداً”. 10 كما انتقد بشدة ما وصفه بـ “الصمت الدولي” تجاه جرائم الميليشيا، معتبراً إياه بمثابة تشجيع لها. 11
في المقابل، برز الموقف الأمريكي والغربي الذي يميل نحو “الواقعية السياسية” على حساب “الشرعية الدستورية” الكاملة التي يطالب بها الجيش. حثت الولايات المتحدة الطرفين على القبول بـ “دعوة إدارة ترامب لهدنة إنسانية فورية”. 4 (يشير ذكر “إدارة ترامب” في سياق ديسمبر ٢٠٢٥ إلى السياق السياسي في واشنطن وتأثيره على الملف).
التباين الجوهري يكمن في الأولويات:
كشفت المداولات عن انقسام حاد داخل المجلس، يعكس التوترات الجيوسياسية العالمية.
لعبت كتلة الدول الإفريقية (الجزائر، سيراليون، الصومال) ومعها غويانا، دوراً محورياً في دعم الموقف السيادي للسودان. تحدث ممثل الجزائر (نيابة عن الكتلة) بلهجة حازمة، رابطاً بين استقرار السودان والأمن الإقليمي.
اصطف العملاقان الشرقيان إلى جانب الرؤية السودانية الرسمية، مع التركيز على مبادئ السيادة وعدم التدخل الخارجي.
ركزت الدول الغربية على الأزمة الإنسانية وحماية المدنيين، مع توجيه انتقادات ضمنية لطرفي النزاع.
شهدت الجلسة لحظات توتر عالية عندما وجه الخبير المستقل كاميرون هدسون اتهامات مباشرة لدولة الإمارات العربية المتحدة.
شكل الهجوم على قاعدة “اليونيسفا” في كادقلي منعطفاً خطيراً في علاقة أطراف النزاع مع الأمم المتحدة. مقتل ٦ من حفظة السلام البنغاليين في هجوم موجه بطائرة مسيرة 3 يحمل دلالات خطيرة:
بناءً على المعطيات الواردة في جلسة ٢٢ ديسمبر ٢٠٢٥، يمكن استشراف مسارات معقدة ومقلقة لمستقبل الصراع.
يحذر المحللون، وعلى رأسهم هدسون، من أن السودان يقف على “شفا انهيار الدولة” والتقسيم. 6 السيناريو الأقرب للواقع الحالي هو تكرار النموذج الليبي:
السيطرة على حقول “هجليج” والتحركات عبر حدود جنوب السودان 1 قد تجر جوبا إلى أتون الحرب. جنوب السودان، الذي يعاني اقتصادياً، لن يقف مكتوف الأيدي إذا تم خنق شريانه النفطي. قد نرى تدخلاً عسكرياً مباشراً من دول الجوار لحماية مصالحها القومية، مما يحول الحرب الأهلية إلى حرب إقليمية واسعة النطاق.
يبدو أن الطريق مسدود بين “مبادرة إدريس” (التي تشترط الاستسلام العسكري للدعم السريع كشرط مسبق) و”المبادرات الدولية” (التي تسعى لتجميد الصراع). في ظل غياب قوة ردع دولية أو رغبة حقيقية من الأطراف الداعمة في وقف التمويل والتسليح، فإن استمرار الحرب بوتيرتها “الأكثر فتكاً” هو السيناريو المرجح للمدى القريب.
خلصت جلسة مجلس الأمن في ٢٢ ديسمبر ٢٠٢٥ إلى حقيقة مفزعة: المجتمع الدولي يقف عاجزاً ومنقسماً أمام واحدة من أسوأ الكوارث الإنسانية والجيوسياسية في القرن الحادي والعشرين. بينما يتمسك رئيس الوزراء السوداني بـ “خطوط حمراء” للسيادة، وتتمسك قوات الدعم السريع بالأرض والسلاح عبر التكنولوجيا المتطورة والمرتزقة، يدفع الشعب السوداني ثمناً باهظاً من دمه ومستقبله.
إن التحول نحو استخدام المسيرات الانتحارية، واستهداف قوات حفظ السلام، وتوسيع رقعة الحرب لتشمل حقول النفط، يؤكد أن استراتيجية الاحتواء قد فشلت، وأن السودان ينزلق بسرعة نحو سيناريو “الدولة الفاشلة” الذي سيشكل بؤرة توتر دائمة تهدد السلم والأمن الدوليين لسنوات قادمة.
جدول رقم (٢): مصفوفة المواقف الدولية في جلسة ٢٢ ديسمبر ٢٠٢٥
الطرف / الدولةالموقف الرئيسيالمطالب الأساسيةالسودان (الحكومة) التمسك بالسيادة ورفض المساواة مع الميليشيا وقف نار بمراقبة دولية + تجميع ونزع سلاح الدعم السريعكتلة A3 Plus دعم السيادة السودانية والحلول الإفريقية وقف التدخل الخارجي (ليبيا/الساحل) + محاسبة المعتدينالولايات المتحدة براغماتية لإنهاء العنف هدنة إنسانية فورية (بدعم إدارة ترامب)روسيا والصين عدم التدخل في الشؤون الداخلية دعم الحكومة الشرعية + حل سياسي بقيادة سودانيةالإمارات النفي القاطع للتورط العسكري انتقال مدني يستبعد الطرفين + دعم إنسانيالمملكة المتحدة التركيز الإنساني وحماية المدنيين فتح المعابر (أدري) + وقف استهداف الإغاثةتم إعداد هذا التقرير بناءً على الوثائق والمداولات العلنية لجلسة مجلس الأمن رقم ١٠٠٧٧.
المصدر:
الراكوبة