آخر الأخبار

تحكمها امرأة وسكانها بلا وثائق.. قرية منسية لقرنين بالسودان

شارك

نبيل صالح

تنهدت “س.ع” (نحو 10 عاماً) قبل أن تبدأ حديثها، كأنها تستجمع عمراً كاملاً من الحرمان في زفرة واحدة: “لم نكن نحلم بالذهاب إلى المدرسة حتى العام الماضي. كان أهلي يرسلون إخوتي الذكور إلى مدرسة بعيدة، تارة على ظهور الحمير، وتارة على الأقدام، أما نحن البنات فكنا نعود دائماً بخيبة الانتظار”.

اليوم، تجلس “س” على الأرض، وسط أطفال يصغرونها عمراً، لتتلقى حصة واحدة في اليوم، ثم تعود إلى المنزل قبل الظهيرة، ليست للراحة، بل لرحلة أخرى أكثر قسوة، وهي جلب الماء من البئر.

مصدر الصورة طفلة من السمرات في طريقها لجلب المياه

قالت لـ”دروب”: “أضع الجِرّة على دابتي وأسير، كيلومترين أو أكثر، لا أدري كم بالضبط، لكنني أعود قبل العصر بقليل”.

تقف “س” على عتبة مستقبل لا تعرف كيف يكون، ولا في أي عمر هي، تقول بصوت منخفض: “لا أعرف في أي سنة وُلدت، أهلي لم يستخرجوا لي شهادة ميلاد”.

النساء الحوامل لا يذهبن للمستشفى للظروف المادية ويضطررن للولادة هنا ولهذا أغلب الأطفال بالمنطقة لا يملكون شهادات ميلاد ولا أي مستندات أخرى.

في سمرات لا تُقاس الأعمار بالسنوات، بل بمسافات العطش، ومرات الحرمان، وعدد الأحلام التي سقطت في الطريق إلى المدرسة.

حالة “س” تتشابه مع روايات مئات أو الآلاف في منطقة “السمرات” نحو “80” كيلو متر شمال مدينة حلفا الجديدة .

لا تحتاج “السمرات” إلى عدسة مكبّرة كي تُرى، بل إلى ضمير يقظ كي يُنصت.

المنطقة مثلها ومثل آلاف القرى السودانية المنسية، تعيش على هامش الاهتمام الحكومي والدولة لا خدمات صحية ولا تعليمية ولا كهرباء ولا شبكة انترنت، بيد أنها تختلف عنها في قُربها من المنطقة الحضرية.

تعليم على الرمل

الأطفال يجلسون على الأرض، بلا كتب، بلا تهيئة، بلا مستقبل واضح.

قالت تلميذة صغيرة: “عايزة أقرأ لكن المدرسة بعيدة ومتعبة وقد لا أعود الى هنا في السنة القادمة”.

تقطع هذه التلميذة الصغيرة، نحو “3” كيلومترات سيرا على الاقدام لتتعلم في مدرسة عبارة عن شجرة وظل جدران أحد المنازل.

قرية السمرات تقودها امرأة تدعى الشيخة زينب محمد المجذوب، سيدة في نهاية العقد الرابع، والدها الشيخ محمد المجذوب من قبيلة المجاذيب المشهورة في مناطق البطانة ونهر النيل، وأحد أعيان المنطقة.

تقطن عشيرة المجذوب في هذه البقعة منذ قرنين حسب الشيخة زينب، كان والدها يدير أحوال أهل المنطقة قبل أن تخلفه ابنته في إدارة القرية.

مصدر الصورة الشيخة زينب محمد المجذوب

تقول زينب لـ”دروب” إن المنطقة لا توجد بها أدنى مقومات الحياة العصرية، وهي تكابد من أجل تنميتها وترقيتها بانتزاع رخصة للمدرسة التي هي عبارة عن ظل منزل بالقرب من سكن المعلم الوحيد الذي يتكفل أهل المنطقة بإعاشة وإقامته.

وقالت زينب إن أهل المنطقة يقطعون عشرات الكيلومترات للحصول على العلاج.

وأضافت “حفيت أقدامنا للعثور على من يتبرع لنا بتشييد خلوة أو مسجد، حيث يصلي سكان المنطقة في غرفة طينية آيلة للسقوط”.

وتمضي زينب بقولها “نحو ألفي مواطن يقيمون هنا، بلا ماء، بلا كهرباء، بلا صحة، وبلا تعليم ولا مركز صحي، لا سوق، لا شبكة مياه”.

لا علاج

وتروي زينب معاناة أهل المنطقة برمتها في الحصول على العلاج بقولها “في السابق كنا نقطع نهر عطبرة الى الشرق بحثا عن العلاج والآن هناك مركز صحي صغير في السمرة الشمالية، أصبح يغطي كل السمرات ولكنه لا يستطيع تقديم كل الخدمات العلاجية.

وأشارت إلى أن النساء يقطعن عشرات الكيلومترات الى منطقة تسمى “مسك” لأجل تطعيم أطفالهن الرضع، وأخريات لا يذهبن اما لضيق ذات اليد او لعدم قدرتهن قطع هذه المسافة على اقدامهن. وأردفت “نأمل من الدولة والمنظمات ان تشيد لنا مركز صحي، يقينا رهق البحث عن العلاج في ظل الظروف القاسية والطبيعة الصعبة”.

المنطقة تنتشر فيها الكثبان الرملية ما جع سكانها يعانون من مرض الربو. كما تنتشر الملاريا والحُميات وأمراض المعدة وسوء التغذية وضيق التنفس عند الأطفال.

مواجهة مع الموت

مصدر الصورة واحد من منازل السمرات

داخل غرفة من الطين، جلسَت “ح،أ” تحتضن طفلًا حديث الولادة، لا يزال وجهه غارقًا في شحوبٍ خفيف.

في هذا المكان وضعت طفلها بدون طبيب ولا قابلة، ولا دواء. مجرد دعاء وألم.

قالت وهي تشد على طفلها “في حملي الثالث عانيت كثيرا لو لا جارتي التي ساعدتني، لما كنتُ هنا الآن”.

في السمرات، الأمومة ليست حالة طبيعية، بل مواجهة مفتوحة مع الموت.

رحلة تعب يومية

في ساعة الظهيرة، بدت فتاة في العقد الاول وهي تمتطي حمارا، يحمل جركانة أكبر من جسدها النحيل نحو البئر، تتوقف قليلًا، ثم تُكمل السير، تقول: “نمشي مسافة طويلة في الحر، البنات الصغار يسقطن أحيانًا من اتعب”.

يقول السكان إن المنطقة في السنوات الأخيرة مرت بجدب أثر على الماشية ولم يعد الحليب متوفرا كما السابق، حيث بلغ سعر رطل اللبن “10” آلاف جنيه. ويبلغ رطل السكر 8 آلاف جنيه.

تبعد المنطقة عن أقرب سوق نحو “15” كيلو متر وهو سوق “منطقة مسك” الاسبوعي، بينما تكلفة الترحيل من سوق حلفا الجديدة عالية جدا.

السمرات ليست منطقة نائية فقط، إنها شهادة فشل ممتدة. مطالب أهل المنطقة تنحصر في “مركز صحي عاجل – مياه – كهرباء – مدرسة”

في السمرات، لا يطلب الناس الرفاهية بل الحياة فقط. لا يحلمون بالمدن الذكية، بل بالماء النظيف، لا يسألون عن المستقبل البعيد، بل عن الغد.

درووب

الراكوبة المصدر: الراكوبة
شارك


حمل تطبيق آخر خبر

إقرأ أيضا