منذ انفلات الجنوب الليبي من قبضة الدولة عقب سقوط نظام معمر القذافي عام 2011، ظلّ المثلث الحدودي الذي تلتقي فيه ليبيا بتشاد والسودان، مساحة مترامية خالية من أي حضور مؤسسي حقيقي، وتحولت تدريجياً إلى مسرح لتهريب السلاح والمهاجرين والذهب، وملاذٍ لجماعات عابرة للحدود تتغذى على هشاشة الدول الثلاث، حتى تفاقم هذا الوضع خلال السنوات الأخيرة الماضية، ليصبح هذا المثلث بؤرة توتر إقليمي تغذي الحرب في السودان، وتزيد الاحتقان في تشاد، وتعمق الفوضى في جنوب ليبيا.
وبعدما عانت هذه المنطقة من فراغ أمني لسنوات، تغير الوضع منذ العام 2018، مع توسع مشروع اللواء المتقاعد خليفة حفتر العسكري نحو الجنوب الليبي. قبل ذلك، كانت المنطقة تعتمد لإدارة أوضاعها على شبكة من التحالفات القبلية والمجموعات المسّلحة المسيطرة على الكفرة ومحيطها، خصوصاً كتيبة “سبل السلام”، التي تشكّلت من قبائل الزوية، والمتقاطعة عقائدياً مع التيار المدخلي الموالي لحفتر، فضمّها الأخير في ذلك العام رسمياً إلى بنيته العسكرية، وجعلها ذراعه الأبرز في المنطقة، الأمر الذي سمح له بمدّ نفوذه (من شرق ليبيا) إلى تخوم الحدود مع السودان وتشاد من دون صدامات واسعة، مستفيداً من قدرة الكتيبة على الحركة في تضاريس تعرفها جيداً.
ومع ترسيخ السيطرة على الكفرة، توجه حفتر إلى إعادة رسم خريطة الجنوب الليبي بأكمله بالسيطرة على مراكز الثقل في القطاع الحيوي لهذه المنطقة، وأبرزها سبها، كبرى مدن الجنوب الأوسط، والقطرون وغات، في أقصى الجنوب الغربي، وهي مناطق تتحكم في ممرات الحركة وطرق العبور نحو النيجر وتشاد والسودان. وفي السنوات الأخيرة، أوكل حفتر مهمة تعزيز السيطرة الكاملة على الجنوب إلى نجله صدام، فبعد تعيينه رئيساً لأركان القوات البرّية في مايو/أيار 2024، بدأ صدام بتعيين ضباط شباب من الموالين له، وعلى رأسهم أحمد الشامخ الذي صعد من قيادة سرية استطلاع بين نهاية 2023 وبداية 2024 إلى قيادة الكتيبة 101 برتبة عميد، لتصبح هذه الكتيبة خلال أشهر قليلة فقط، قوة ضاربة من سبها إلى القطرون وغات، ما فرض واقعاً جديداً في الجنوب الليبي الأوسط والغربي.
موسى امجار: الجنوب الشرقي الليبي موقع حسّاس تتوازن فيه 3 أضلاع: روسي وإماراتي ومصري
وضمن استراتيجية السيطرة على الجنوب، بدّل حفتر طبيعة القيادة القبلية، فبعدما كانت المليشيات المشكّلة من مسلحي التبو تسيطر على القطرون وتتحالف معه ولكن من دون ولاء كامل، خاضت قوات الشامخ معارك عدة ضد هذه المليشيات تحت غطاء “عمليات مكافحة التهريب”، كانت أكبرها في فبراير/شباط الماضي، وانتهت بسيطرة كاملة على المنطقة وإجلاء هذه التشكيلات. هذه الاستراتيجية امتدت إلى القطاع الحدودي مع تشاد الذي كان يخضع لسيطرة اللواء 128 بقيادة حسن الزادمة، الذي شعر حفتر أنه سيكون عقبة أمام بسط سيطرته الكاملة، خصوصاً وأن الزادمة مرتبط بعلاقات مع جماعات تمرد تشادية، وقوته تتشكل من قوام قبيلته، أولاد سليمان، فأصدر حفتر قراراً في يناير/كانون الثاني 2025 بإقالته وحلّ اللواء، وإعادة ضمّ القطاع الحدودي لقيادة نجله صدام الذي كان وقتها يكثف من زياراته إلى تشاد والنيجر لتنسيق ترتيبات أمنية مشتركة للسيطرة المشتركة على الحدود مع هاتين الدولتين.
ورغم السيطرة الميّسرة لحفتر على القطاع الجنوبي الشرقي للبلاد دون مقاومة تذكر بسبب الولاء القبلي في المنطقة والولاء السلفي لكتيبة “سبل السلام”، إلا أن الجنوب الليبي ظلّ المنطقة الأكثر تعقيداً جغرافياًَ واستراتيجياً، فهو يمتد على مساحة صحراوية هائلة، تتقاطع فيها طرق تاريخية تربط الكفرة بجبل العوينات بين ليبيا والسودان ومصر، وتتداخل عبره مسارات قادمة من إقليم دارفور في السودان، وتشاد، ما جعل منه نقطة لوجستية مثالية لحركة الجماعات المسلحة والمهربين، كما يجعل قربه من مناجم ذهب دارفور وكوري بوغودي مركزاً اقتصادياً موازياً يمول نشاط جماعات سودانية وتشادية، ويمنح من يسيطر عليه قدرة على التحكم في خطوط الإمداد بين الشرق الليبي وعمق دارفور، وهي نقطة شديدة الارتباط بمشهد الحرب السودانية.
وجاءت إعادة حفتر تشكيل مشهد السيطرة في الجنوب الليبي، بالتزامن مع تحول نوعي في الوجود الروسي في ليبيا، بعد انتقال موسكو منذ أواخر 2023 من الاعتماد على مجموعات مرتزقة شركة فاغنر إلى وجود عسكري أكثر تنظيماً عبر الفيلق الروسي الأفريقي، وتشغيل قاعدة السارة الجوية في أقصى الجنوب الليبي المحاذية للحدود التشادية السودانية، ما جعل هذا التحول الجنوب شرقي، فضاء يتقاطع فيه نفوذ حفتر مع الاستراتيجية الروسية نحو الساحل الأفريقي.
وزاد تعاظم أهمية المنطقة مع اشتداد الصراع في السودان بين الجيش وقوات الدعم السريع، إذ تحول القطاع الممتد بين الكفرة ودارفور إلى محور اتهامات متكررة من الجيش السوداني لحفتر، آخرها في يونيو/حزيران الماضي عندما اتهمه الجيش السوداني بمساندة “الدعم السريع” في هجوم على منطقة حدودية واقعة قرب الحدود مع ليبيا، بغرض الاستيلاء عليها، وعدّ الخطوة “عدواناً سافراً على السودان وأرضه وشعبه”، فيما نفى حفتر من جهته الاتهام واعتبره “مزاعم باطلة”. لكن تقارير منظمات دولية وأممية أكدت مساندة حفتر لقوات الدعم السريع، آخرها تقرير منظمة ذا سنتري (ومقرها واشنطن) الخميس الماضي (13 نوفمبر/تشرين الثاني 2025)، الذي كشف أن حفتر بات “المزود الرئيسي” لـ”الدعم السريع” بالوقود، وهو الأمر الذي أدى دوراً مباشراً في “تنقلات الدعم السريع وعملياتها في دارفور”.
وبحسب المنظمة المتخصصة في رصد مصادر أموال الفساد، فإن إمدادات البنزين والديزل التي تأتي في الغالب من عمليات تهريب غير قانونية، ساعدت في “تنقلات وعمليات الدعم السريع التكتيكية في دارفور” بغرب السودان الذي باتت تسيطر عليه “الدعم السريع” منذ سقوط مدينة الفاشر، عامصة شمال دارفور، والتي كانت آخر معقل للجيش في الإقليم، وذلك في أواخر أكتوبر/تشرين الأول الماضي. وتعكس إمدادات الوقود، وفق المنظمة، “وفاء حفتر العميق لحكومة الإمارات” التي تعدّ “داعماً حاسماً” له. وذكر التقرير أنه “بسبب الدعم الأيديولوجي والدبلوماسي والمالي والسياسي الذي قدمته الإمارات لعائلة حفتر منذ 2014، فإن الحكومة الإماراتية تحتل موقعاً مميزاً لدى قوات حفتر، ما يجعل الأخيرة مدينة لأبوظبي”. فضلاً عن ذلك، فإن إيصال “الوقود ومساعدات أخرى” إلى قوات الدعم السريع سمح لعائلة حفتر بتعزيز “سيطرتها على جنوب شرق ليبيا”، بحسب المنظمة غير الحكومية.
زاد تعاظم أهمية المنطقة مع اشتداد الصراع في السودان
ويرى أستاذ العلوم السياسية والاستراتيجية، موسى امجار، في حديث لـ”العربي الجديد”، أن التحولات في الجنوب الشرقي من ليبيا، “لم تعد مجرد توسع نفوذ لحفتر أو انعكاس لتشابكات الحدود”، بل أصبحت جزءاً من “مشروع سياسي وعسكري أوسع يقوم على بناء تفاهمات مع النيجر وتشاد، وتعزيز الهيمنة على مسارات الحرب السودانية”، الأمر الذي جعل المنطقة تتحول برأيه “من فضاء محلي إلى مركز قرار إقليمي يربط مدينة بنغازي (شرق ليبيا) بكل المتأثرين بحالة التوتر في الإقليم”. ويشير إلى أن الجنوب الشرقي الليبي صار يمثل “موقعاً حسّاساً تتوازن فيه ثلاثة أضلاع كبرى: ضلع روسي يرى في حفتر بوابة إلى العمق الأفريقي، وضلع إماراتي يوظف شبكات الوقود والمال في صراع السودان، وضلع مصري يعتبر الجيش السوداني حائط صدّ”، مؤكداً أن حفتر صار يمسك في قلب هذه الأضلاع بـ”ممر حدودي يمكّنه من إبقاء الحرب مشتعلة أو تعطيل خطوط الإمداد”.
ويلفت امجار إلى أن هذا التوازن لا ينفصل عن متابعة دولية حثيثة، فالولايات المتحدة عبر القيادة العسكرية الأميركية في أفريقيا “أفريكوم” وفرنسا بحكم وجودها في تشاد، والدول الأوروبية المرتبطة بملف الهجرة، كلها “تراقب تمدد روسيا في السارة، ولن تقبل بتحويل الجنوب الليبي إلى منصة نفوذ روسي دائم”، لكنه يرى في الوقت ذاته أن هذه الجهود “لا تزال دبلوماسية، ولا تملك أدوات منع حفتر من تعميق علاقته بالروس”.
إلا أن أستاذ العلوم السياسية والاستراتيجية، يتوقف عند جانب آخر يتعلق بما يصفه بـ”طبيعة السيطرة الهشة” لحفتر في الجنوب، موضحاً أن بعض القبائل “لا تزال أقرب وجدانياً وسياسياً إلى النظام السابق، وترى في سيف الإسلام القذافي رمزاً محتملاً للقيادة، وهو ولاء يمكن أن يعود إلى الواجهة في أي لحظة”، خصوصاً إذا شعرت أن مشروع حفتر يهدد نفوذها التقليدي. ويلفت في هذا السياق، إلى “مسألة أخرى أيضاً، تتعلق بامتدادات القبائل داخل تشاد والنيجر والسودان والتي تمنحها القدرة على إعادة ترتيب التحالفات، بل واستضافة مجموعات متمردة من الدول ذاتها”، وهو ما يجعل الجنوب الشرقي “ساحة صراع بالوكالة إذا استمرت سياسة حفتر في إقصاء هذه القبائل”.
ويحذر امجار من أن تداخل هشاشة سيطرة حفتر وعلاقته المتوترة بالقبائل مع تعاظم الوجود الروسي، واحتمالات ذهاب السودان نحو “تسوية جزئية أو تقسيم فعلي”، يجعل الجنوب الشرقي من ليبيا مرشحاً لانفجار أوس. وفيما يؤكد أن حفتر بات “عنصر استقرار نسبي وعنصر تفجير محتمل”، لأن موقعه بين الروس وحلفائه التقليديين ومعسكرات السودان المتصارعة “يمنحه دور العقدة، لكنه يجعل العقدة قابلة للانفجار”، يوضح أن مستقبل الجنوب الليبي سيعتمد على “مآل الحرب السودانية، وحدود التمدد الروسي، وقدرة حفتر على الحفاظ على توازن دقيق مع القبائل”، معتبراً أن “التغير الديموغرافي الناتج من الهجرة والاقتراب الروسي من مصادر النفط قد يدفع المنطقة إلى توتر أشد”.
في المقابل، يقدم أستاذ العلاقات الدولية رمضان النفاتي، قراءة مختلفة ترى أن تورط حفتر في مسارات الحرب السودانية “لا يمكن اختزاله في دعم طرف ضد آخر”، بل يشكل، بحسب تعبيره، انعكاسا لـ”مستويات ضغط متداخلة”، وجد اللواء المتقاعد نفسه داخلها “بعدما تورط في تحالفه مع موسكو التي فرضت نفسها عليه وتمددت في مناطق نفوذه”، ما حوّل الجنوب الليبي بسببها “إلى نقطة ارتكاز في صراع النفوذ بالمنطقة”.
رمضان النفاتي: حفتر وجد نفسه داخل محور تقوده موسكو ويتجاوز قدرته الفعلية
ويشير النفاتي في حديث لـ”العربي الجديد”، إلى أن حفتر “لم يعد فاعلاً يتحرك داخل حدود مشروعه الطامح فيه إلى الانفراد بالسلطة، بل أصبح جزءاً من شبكة حسابات أوسع تحركها موسكو من تشاد والنيجر إلى السودان وتتواجد داخلها أطراف أخرى كالإمارات وفرنسا وغيرهما، بل وجود قاعدة السارة بحد ذاته أدخل حفتر في معادلة لا يستطيع التحكم في إيقاعها ولا الخروج منها بسهولة”، وفق رأيه.
ويذهب النفاتي إلى أن قراءة تحركات حفتر بمعزل عن محيطه الإقليمي والدولي “تجعله يبدو كأنه صاحب قرار كامل”، بينما الواقع، كما يقول، أن حفتر “وجد نفسه داخل محور تقوده موسكو ويتجاوز قدرته الفعلية، في مواجهة أطراف دولية كبرى معروفة بخصومتها لموسكو، كما أنه يدرك أن القاهرة التي تعتبر أي دعم يصل للدعم السريع خطراً مباشراً على أمنها، لم تعد تراه دائماً شريكاً يمكن الركون إليه”، وهو ما وضعه، في تقدير النفاتي، داخل “مساحة رمادية لا يستطيع فيها إرضاء أي طرف بشكل كامل”.
أما عن سيطرة حفتر على الجنوب، فيرفض النفاتي المقاربة التي تصور القبائل كتلةً موالية أو متمردة، ويرى أنها “بنى اجتماعية مرنة ومتغيرة تتحرك وفق مصالحها وعلاقاتها التاريخية”، موضحاً أن بعضها موال للنظام السابق، وبعضها ينظر إلى حفتر بوصفه “خيارا اضطراريا فرضته لحظة الانهيار العام”، وبعضها “يرتبط به ضمن إطار تبادل المصالح في تسهيله لعمليات التهريب وشبكات العبور”. ويؤكد النفاتي أن حفتر “لا يملك سيطرةً مطلقة على الجنوب كما يشاع، لكنه أيضاً ليس معزولاً عنه، فهو يدرك خصوصياته ولذا يستخدم مجموعة أدوات مختلفة كالردع بالقوة والتحالفات المرحلية للحفاظ على توازن”.
ويخلص النفاتي إلى أن حفتر “ليس لاعباً منفصلاً عن محيطه، بل حلقة في شبكة أكبر منه، فهو مضطر للإبقاء على تحالفاته مع الإمارات وروسيا لضمان دعمه العسكري، وفي الوقت ذاته لا يستطيع خسارة شركائه التقليديين في القاهرة، كما يعتمد على القبائل لكنه لا يستطيع فرض إرادته عليها كاملة”. ويرى النفاتي أن استمرار هذه التشابكات يجعل الجنوب الشرقي “ساحة قد يعاد رسمها وفقاً للمصالح لا لدفعها نحو الاستقرار، فخروجها من حالة السيولة الأمنية أمر مستبعد وفقاً للمعطيات، وليس أمام حفتر إلا التعاطي مع المتغيرات والمصالح ومحاولة إدارتها بالقدر الذي يسمح له بالبقاء بهدف الحفاظ على موقعه ومشروعه العسكري”.
العربي الجديد
المصدر:
الراكوبة