بينما تتدفق عائدات النفط إلى خزائن جنوب السودان، يعيش معظم السكان تحت سيف الجوع والفقر، في تناقض صارخ يعكس هشاشة الدولة، وفشلها في تلبية احتياجات المواطنين.
ملايين الأشخاص يفتقرون إلى التعليم والرعاية الصحية، بينما تتركز الموارد في أيدي النخبة السياسية، في ظل استمرار الفساد ونهب الثروات العامة، كما تعاني البلاد من بنية تحتية متهالكة، ويصعب الوصول إلى الغذاء والمياه النظيفة، ما يزيد من معاناة السكان، ويعمّق التوترات الاجتماعية والعرقية، نتيجة غياب الخدمات الأساسية.
وفي الأسبوع قبل الماضي، صدر تقرير جديد لمفوضية الأمم المتحدة لحقوق الإنسان، كشف عن مستويات غير مسبوقة من الفساد في البلاد، موضحاً أن الحكومة صرفت بين 2021 و2024 نحو 2.2 مليار دولار لشركات مرتبطة بنائب الرئيس بنجامين بول ميل، على مشاريع طرق لم تُنجز سوى بشكل جزئي.
وقالت المفوضية في تقريرها: “تُركت قطاعات حيوية مثل التعليم والصحة والأمن الغذائي بلا تمويل كافٍ، ما زاد من معاناة السكان، ويشير الفساد الممنهج واستغلال الموارد العامة إلى أنه لا يهدد المواطنين فحسب، بل يغذي النزاعات المسلحة، ويعمّق معاناة الفئات الأشد ضعفاً، مما يعكس إخفاق الدولة في حماية حقوق الإنسان”.
ويُعتبر النفط المورد الرئيس للاقتصاد في جنوب السودان، إذ يشكل أكثر من 90% من الإيرادات الوطنية، ويُنتج نحو 149 ألف برميل يومياً. ومع ذلك، لم تُترجم هذه الموارد إلى تنمية حقيقية للمواطنين، إذ يعاني نحو 12 مليون نسمة موزعين في عشر ولايات من محدودية الوصول إلى الطرق والمستشفيات والمدارس.
يقول أستاذ الاقتصاد بجامعة جوبا، دينق ماكور، لـ”العربي الجديد”: “الفساد ونهب الثروات يشكلان العامل الأساسي في التردي الشامل، إذ فقد المواطنون الثقة في الدولة التي تحولت من مقدمة للخدمات إلى أداة للنهب، كما أدى اليأس والإحباط إلى تفكك الروابط الاجتماعية”.
ويربط ماكور بين الاقتصاد الريعي المشوه الذي يركز على النفط، مع غياب التنويع الاقتصادي، وإهمال القطاعات الحيوية، مثل الزراعة والصناعة، ما يزيد هشاشة الاقتصاد ومعاناة السكان.
وعلى الرغم من الثروات النفطية الكبيرة، تصدّر جنوب السودان قائمة أفقر دول العالم، وفق تقرير مجلة غلوبال فايننس، استناداً إلى الناتج المحلي الإجمالي للفرد. وأوضح التقرير: “الفقر في البلاد ناتج عن عوامل مترابطة تشمل الفساد المؤسسي، والتاريخ الاستعماري الاستغلالي، وضعف سيادة القانون، والنزاعات المسلحة المستمرة، والظروف المناخية القاسية”.
وكانت السلطات قد أبرمت عقوداً مع شركات صينية لتنفيذ مشاريع طرق في ولايات أعالي النيل وبحر الغزال بتكلفة 711 مليون دولار، إضافة إلى عقود لشركات مرتبطة بنائب الرئيس بتكلفة تجاوزت 1.7 مليار دولار، دون إجازة البرلمان، ما أثار جدلاً واسعاً حول مصير الأموال. ومع ذلك، لم تُنجز معظم المشاريع كما هو مخطط، ما أبرز ضعف الرقابة الحكومية، بينما يظل السكان محرومين من الخدمات الأساسية.
ويقول شان بيتر من مفوضية محاربة الفساد: “التقرير الأخير يشكّل إنذاراً للمؤسسات الحكومية، والفساد ونهب العوائد النفطية لا يقتصران على اختلالات مالية، بل يقوضان قدرة الدولة على تقديم الخدمات الأساسية، ويزيدان معاناة المواطنين”.
وأضاف: “المفوضية لا تمتلك سلطات لمراقبة الأموال المهربة إلى الخارج، إذ تقتصر مهامها على متابعة الأداء العام للحكومة فقط”.
ويشير أستاذ الاقتصاد بجامعة أعالي النيل، مارك كوال، إلى أن الاعتماد شبه الكلي على النفط يجعل الاقتصاد هشاً وغير مستدام، ويزيد من فرص الفساد. ويضيف في حديثه لـ”العربي الجديد”: “تنويع الاقتصاد واستثمار الموارد في قطاعات منتجة، مثل الزراعة يمكن أن يضع الموارد في أيدي المواطنين، ويقلل من فرص الفساد ويعزز الأمن الغذائي، وهو السبيل الوحيد لتحقيق الاستقرار والتنمية المستدامة”.
وبلغت الإيرادات الحكومية غير النفطية للسنة المالية 2024-2025 نحو 984.4 مليار جنيه سوداني (حوالي 164.7 مليون دولار)، فيما كانت 700 مليون جنيه في 2017-2018، لكنها تمثل نحو 6.5% فقط من الناتج المحلي الإجمالي. وكانت الحكومة قد خصصت نحو 642 مليار جنيه لرواتب الموظفين، إلا أن العجز المالي حال دون صرفها في موعدها، ما أثر في آلاف العاملين في الخدمة العامة، وأعضاء القوات النظامية، ما يعكس آثار الفساد ونهب الموارد العامة.
ويقول فليكس دانيال، موظف بوزارة التعليم العالي لـ”العربي الجديد”: “لم أستلم راتبي لقرابة العام، على الرغم من الالتزامات الحكومية المتكررة، وهذا التأخير أثر في استقرار أسرتي وقدرتي على تغطية الاحتياجات الأساسية وتعليم أبنائي. الوضع صعب للغاية، وأصبحنا غير قادرين على تأمين أساسيات الحياة اليومية، ولا أعلم كيف سأكمل تعليم أطفالي في ظل هذا التأخير المستمر”.
هذا ويعاني جنوب السودان، بفعل الفساد ونهب الموارد، من فشل شبه كامل في تحقيق أي تقدم ملموس على صعيد التنمية، إذ تشير الإحصاءات الأممية وتقديرات وزارة المالية إلى أن نحو 67.3% من السكان يعيشون تحت خط الفقر الدولي البالغ 2.15 دولار يومياً، كما يبلغ معدل البطالة بين البالغين حوالي 8.9%، مع ارتفاع ملحوظ بين فئة الشباب.