آخر الأخبار

وعود إثيوبية تتبخر وفيضانات تجتاح السودان رغم اكتمال سد النهضة

شارك

في ريف الجزيرة سلانح شمالي أم درمان، لم يكن المزارع أحمد الصافي إبراهيم، يتوقع أن تغمر المياه أرضه الزراعية هذا العام، بعد ثلاث سنوات من استقرار المواسم وغياب الغرق.

يقول الصافي، الذي يزرع البرسيم والخضروات ويمتلك أبقاراً، لـ(التغيير): “اعتمدنا على ما قيل في الإعلام عن انتهاء خطر الغرق، فزرعنا البرسيم و البصل بكميات كبيرة، والآن كله غرق.

حتى شتول الموز التي جلبتها من ولاية نهر النيل بقيمة ملياري جنيه غرقت. الخسائر لا تُحصى.

ولم تقتصر الأزمة على محصول البصل و البرسيم وحدهما ، إذ كان الصافي وغيره من المزارعين يتهيأون لزراعة البطاطس في منتصف أكتوبر، غير أن الأرض المغمورة لن تجف قبل شهر ونصف، ما يعني ضياع الموسم الشتوي بأكمله.

ومع غياب المخزون من القش والعلف – بعدما اعتادوا على سنوات الجفاف الماضية – يواجه مربو الماشية خطر نفوق قطعانهم.

مزارعون شمالي أم درمان يواجهون خسائر فادحة بعد غرق محاصيلهم

ويؤكد الصافي أن السد الإثيوبي أصبح أمراً واقعاً، ما يفرض على المسؤولين السودانيين الدخول في تنسيق مباشر مع أديس أبابا التي باتت المتحكم الأساسي في مياه النيل الأزرق.

ويرى أن آثار السد مثلت “قرصة موجعة” أضرت بالسودان، بينما كانت مصر المستفيد الأكبر، إذ ذهبت إليها كميات المياه المخزنة مجاناً، في حين تُباع الكهرباء المولدة من تلك المياه للسودان بالدولار.

ويشاطره الرأي مزارعون آخرون، اعتبروا أن ما جرى يهدد الأمن الإنساني، وأن غياب التنسيق جعل السودان بين خيارين أحلاهما مر: الغرق أو العطش. واعتبروا أن على حكومة الأمر الواقع التعامل مع ملف المياه باعتباره قضية حياة أو موت، وتأسيس علاقة متوازنة مع إثيوبيا.

خسائر فادحة وموسم ضائع

المزارعون في الجزيرة، الذين نجوا نسبياً من ويلات الحرب مقارنة بمناطق السودان الأخرى، وجدوا أنفسهم اليوم أمام كارثة طبيعية غير متوقعة. إذ رغم استمرار القصف في محيط أم درمان، كانوا يزرعون وينتجون، لكن الأسواق في العاصمة المثلثة غابت، ومع الفيضان الأخير خسروا ما تبقى لهم من مورد رزق.

المفارقة الكبرى أن هذه الفيضانات غير المعتادة جاءت بعد افتتاح سد النهضة، الذي رُوّج له طويلاً كضمانة لحماية السودان من مخاطر الفيضانات الموسمية. لكن ما حدث كان العكس تماماً. فقد اجتاحت المياه 6 ولايات، بعد ارتفاع منسوب النيل الأزرق الناتج عن فتح بوابات سد النهضة.

وامتدت الفيضانات إلى أحياء واسعة جنوب الخرطوم مثل الكلاكلة والشقيلاب، بينما حاول السكان يائسين إقامة متاريس ترابية لصدها. كما اجتاحت المياه محليات قيسان جنوب الدمازين وسنار والمتمة بولاية نهر النيل، فضلاً عن مناطق في النيل الأبيض وجبل أولياء وأبوروف بأم درمان، حيث دمرت المنازل والأراضي الزراعية وأغرقت المواشي.

أصوات سياسية وخبراء مياه

أمام هذه الكارثة، تصاعدت أصوات سياسية وخبراء مياه محذّرين من أن ما جرى لم يكن مجرد حدث طبيعي، بل نتيجة مباشرة لسياسات حكومة آبي أحمد في إدارة السد. فقد أوضح عضو وفد التفاوض السوداني حول سد النهضة أحمد عكود، أن ملء السد لأقصى منسوب في سبتمبر الماضي “بغرض الاحتفال” أجبر إثيوبيا على تصريف كميات ضخمة من المياه في توقيت غير مناسب، وهو ما تسبب بالفيضان.

خبراء: ما جرى لم يكن حدث طبيعي بل نتيجة مباشرة لسياسات حكومة آبي أحمد في إدارة السد.

ويعزز هذا الرأي وزير الري والموارد المائية الأسبق، عثمان التوم، الذي كشف في مقابلة مع (التغيير) أن إثيوبيا بدأت تصريف كميات كبيرة من مياه سد النهضة منذ 9 سبتمبر، تجاوزت 600 مليون متر مكعب يومياً، في حين كان الوارد لها أقل من 450 مليون، مشيراً إلى أن الهدف من ذلك كان خفض منسوب البحيرة حفاظاً على سد السرج.

وأضاف أن واردات المياه من نهري الدندر والرهد الموسميين تجاوزت 50 مليون متر مكعب، والخارج من سد جبل أولياء على النيل الأبيض أكثر من 100 مليون، بينما قل سحب الجزيرة، مما أسفر عن ارتفاع منسوب المياه شمال الخرطوم، ودعا إلى مراقبة الوضع عن كثب حتى نهاية الشهر، مؤكداً أن التحديات كبيرة.

وأشار التوم إلى أن إثيوبيا أنهت ملء سد النهضة مبكراً لتصادف يوم افتتاح المشروع، ومن ثم بدأت تمرير كميات مياه كبيرة، ربما لضمان سلامة السد الركامي، وشدد على ضرورة التنسيق اليومي والشهري بين السودان وإثيوبيا لتبادل المعلومات وتشغيل السدود.

تحذيرات حقوقية وصحية

صور الأقمار الصناعية من (كوكورينوكس) في الفترة من (18–28 سبتمبر) وثقت غمر مساحات واسعة من الكلاكلة القلعة جنوبي الخرطوم، مع استمرار تدفق مياه الفيضان وتهديدها المباشر لآلاف السكان.

ولم تقتصر تداعيات الفيضانات على الجانب الزراعي فقط، إذ أصدر مرصد “كادن” لحقوق الإنسان بياناً اعتبر فيه ما حدث نتيجة “إهمال جسيم وغياب الشفافية”، مؤكداً أن ذلك يمثل انتهاكاً لحقوق المواطنين في الحياة والأمان والمعرفة.

وحذّر المرصد من تفاقم الوضع الصحي مع انتشار أوبئة مثل حمى الضنك والكوليرا، داعياً السلطات للتحرك العاجل والمجتمع الدولي لتقديم المساعدات.

وفي السياق ذاته، أوضحت وزارة الزراعة والري في بيان أمس الثلاثاء، أن التغيرات المناخية أسهمت في تفاقم الأزمة، إذ تأخر موسم الخريف وامتد حتى نهاية أكتوبر مع أمطار غزيرة على الهضبة الإثيوبية، ترافقت مع ارتفاع غير مسبوق في إيراد النيل الأبيض منذ 2020، إلى جانب زيادة كبيرة في نهر عطبرة.

وتزامنت هذه العوامل مع بدء تصريف بحيرة السد في 10 سبتمبر، ما أدى إلى وصول كميات هائلة من المياه إلى مجرى النيل.

وأكدت الوزارة أنها شكلت غرفة عمليات طارئة لمتابعة الوضع، مشيرة إلى أن الوارد من النيل الأزرق بدأ في الانخفاض مؤخراً، ومن المتوقع أن تتراجع المناسيب تباعاً.

خبير في قضايا المياه وحقوق الإنسان: السودان خسر حقوقه المائية وصدق وعوداً إثيوبية لم تتحقق

البشير والسيسي وديسالين بعد التوقيع على الاتفاق الإطاري حول سد النهضة في الخرطوم

انتقادات واتهامات

غير أن هذه التطمينات لم تُقنع الخبراء؛ فقد انتقد الخبير في قضايا المياه وحقوق الإنسان أحمد المفتي، طريقة تشييد السد مع غياب الاتفاق الملزم، معتبراً أن السودان خسر حقوقه المائية وصدّق وعوداً لم تتحقق.

وتساءل المفتي في حديثه مع (التغيير): أين هي الكهرباء الرخيصة التي وُعد بها السودان؟”، لافتاً إلى أن إثيوبيا أطلقت كميات مياه تجاوزت منسوب فيضان 1988 بمتر ونصف، وهو ما اعترفت به الوزارة نفسها.

وطالب بفتح تحقيق شفاف لمحاسبة المسؤولين، مشيراً إلى أن بعضهم حصل على جوائز تقديرية رغم فشلهم في حماية البلاد من الكارثة. كما شدّد على ضرورة تعويض المتضررين بشكل عاجل، متهماً المفاوضين السودانيين بإضاعة حقوق البلاد المائية منذ بداية المفاوضات عام 2011.

جدير بالذكر أن نحو نصف مليون شخص تضرروا من الفيضانات في السودان العام الماضي، فيما حذرت الأمم المتحدة، من أن تكرار حدوث الفيضانات هذا العام يعمق الاحتياجات الإنسانية وإن آلاف الأسر تحتاج إلى الدعم والمأوى بشكل عاجل.

التغيير

الراكوبة المصدر: الراكوبة
شارك


حمل تطبيق آخر خبر

إقرأ أيضا