يرفض آلاف المعلمين السودانيين العودة إلى ممارسة مهنة التدريس في ظل تدهور البنية التحتية المدرسية وتدني الأجور وانتشار مخلفات الحرب.
يسعى عدد من الولايات السودانية، بما فيها العاصمة الخرطوم، لإعادة فتح المدارس واستئناف العملية التعليمية بعد تراجع وتيرة المعارك فيها، في حين تحول عشرات آلاف المعلمين إلى مزاولة مهن بديلة بسبب توقف عمل المدارس منذ بداية الحرب في منتصف عام 2023، وعدم حصولهم على أجورهم طوال أكثر من عامين، فضلاً عن مغادرة آلاف أخرين إلى دول الجوار، ما أدى إلى نقص كبير في أعداد المعلمين.
ويؤكد المتحدث باسم لجنة المعلمين بالسودان (نقابة)، سامي الباقر، لـ”العربي الجديد”، أن “نسبة المعلمين غير الراغبين في مواصلة المهنة قد تتجاوز 60%، وجميع المؤشرات تدل على رفضهم العودة للتدريس في ظل إحجام الحكومة عن دفع المرتبات المتأخرة، وتآكل قيمة الجنيه السوداني بالقدر الذي يجعل قيمة المرتبات، حال صرفها، لا تغطي سوى نحو 10% من احتياجات أسرهم”.
ويضيف الباقر: “هذا الواقع يحتم على الحكومة، إن كانت جادة في استعادة العملية التعليمية، أن تتخذ خطوتين، أولهما صرف كل المتأخرات فوراً، بما فيها المرتبات والبدلات والعلاوات والمنح، والثانية هي تعديل المرتبات بصورة تتماشى مع الواقع المعيشي الجديد. من دون هذا سيظل موضوع انتظام العملية التعليمية عبارة عن بالونة سياسية. كشفت دراسة أعدتها لجنة المعلمين عن تدهور كبير في أجور العاملين في قطاع التعليم، وجميع المعلمين يعيشون حالياً تحت خط الفقر لأن أجورهم لا تكفي مصروفات أسرهم”.
قيمة راتب المعلم من الدرجة الأولى يعادل أقل من 30 دولاراً، والآلاف لم يتقاضوا رواتبهم منذ عامين كاملين
ويشهد قطاع التعليم بولاية الخرطوم نقصاً لافتاً في أعداد المعلمين، وبعد إعلان فتح مدارس الولاية في أغسطس/آب الماضي، انتظرت وزارة التربية والتعليم لأكثر من ثلاثة أسابيع من أجل انتظام المعلمين، لتكتشف أن الآلاف منهم تقدموا بإجازات مفتوحة. ويؤكد مصدر بوزارة التربية والتعليم في الخرطوم أن المعلمين الذين تقدموا بطلب إجازات تتجاوزت نسبتهم 65%، موضحاً لـ”العربي الجديد”، أن “المعلمين وجدوا أنفسهم في ضائقة معيشية غير مسبوقة، ما دفع كثيرين لمغادرة القطاع، ما انعكس سلباً على العملية التعليمية المُتعثرة أصلاً منذ اندلاع الحرب”.
واعترف مصدر في وزارة التربية والتعليم الاتحادية بالنقص الحاد في أعداد المعلمين، ويقول لـ”العربي الجديد”: “وزعت الوزارة الاتحادية مهامها على الوزارات الولائية، بحيث يتولى وزير التعليم في كل ولاية معالجة جميع القضايا، بما فيها أجور المعلمين، وسد النقص في الوظائف، وتأهيل الكوادر، لكن هذا تسبب في تراجع كبير لأن الوزير الولائي يواجه مصاعب كبيرة في إدارة الشأن التعليمي، إذ لا يحق له المطالبة بحقوق المعلمين التي تأتي من وزارة المالية الاتحادية”.
تحوّل السوداني إسماعيل الطاهر من معلم في المدارس الإبتدائية إلى بائع متجول في سوق صابرين بمدينة أم درمان، كي يوفر قوت أطفاله بعد انقطاع راتبه لاكثر من 14 شهراً، ويقول لـ”العربي الجديد”: “الأزمة لا تقتصر على متأخرات الأجور أو ضعفها، فهناك تدهور مريع في أحوال التعليم، وأعداد التلاميذ خارج المدارس مرعبة. نتحدث عن جيل فقد فرصته في التعليم، وستتفاقم الأزمة في حال استمر الوضع الراهن من تدهور البيئة المدرسية، ونقص الكتب، وتخلي المعلمين عن وظائفهم التي أصبح عائدها أقل من أن يوفر لهم قوت يوم واحد”.
ويؤكد الطاهر عدم التفات الحكومة إلى أوضاع المعلمين، ويضيف: “لا يمكنك أن توقف راتب المعلم لعامين متتاليين وكأنه لا يحتاج إلى الطعام والشراب، أو ليس لديه مسؤوليات تجاه أسرته، ولا يمكنك بعد ذلك أن تطلب منه فجأة أن يمارس عمله مجدداً. ترك آلاف المعلمين المهنة، وبعضهم تقدموا بإجازات مفتوحة، ولو استمر هذا الوضع سوف تخلو المدارس من المعلمين”.
وفي 17 يوليو/ تموز الماضي، أعلنت ولاية الجزيرة (وسط) أن نقص المعلمين يبلغ 19 ألف وظيفة، من بينها أربعة آلاف في المرحلة الثانوية، و15 ألفاً في المرحلتين الإبتدائية والمتوسطة. ويقول المعلم الطيب الجيلي لـ”العربي الجديد”: “نقص المعلمين بولاية الجزيرة ينطبق على كل ولايات السودان، ولا يمكن سد هذا النقص، لأن سببه الأساسي هو أن وظيفة المعلم أصبحت غير جاذبة بعد تراجع قيمة الراتب الشهري إلى ما يعادل نحو 30 دولاراً في الشهر، ورغم ذلك قررت الوزارة فتح المدارس من دون الانتباه إلى النقص الكبير في المعلمين”.
ويضيف الجيلي: “الجهات المسؤولة عن التعليم تواجه لأول مرة مشكلة تسرب المعلمين، وقد كانت في السابق تبذل جهوداً كبيرة لمنع تسرب التلاميذ من مقاعد الدراسة، وهذه مفارقة خطيرة تحتاج إلى حلول عاجلة. لكني لا أتوقع أن تجد الجهات المسؤولة حلاً في الوقت القريب، فالسبب الرئيس هو تراجع الوضع المعيشي للمعلمين، ما دفعهم لترك وظائفهم بحثاً عن مصادر أخرى للرزق”.
قرر مبروك آدم، وهو معلم بالمدارس الثانوية في إقليم دارفور يقيم حالياً في مصر، عدم العودة إلى السودان لمزاولة مهنته التي اشتغل فيها لثلاثة عقود، لأن المهنة أصبحت غير مجدية، وراتبها لا يفي بمتطلبات الحياة اليومية لأسرته المُكونة من سبعة أفراد.
ويقول آدم لـ”العربي الجديد”: “وزارة التربية والتعليم لا تهتم بأمر المعلمين، ولم تمنحهم أجورهم الشهرية منذ اندلاع الحرب، ورغم أنها تحاول إعادة فتح المدارس في بعض الولايات، لكنها لا تفكر في ظروف المعلمين. أصبح الراتب الشهري للمعلم نحو 20 دولاراً، وراتب المعلم من الدرجة الأولى يعادل أقل من 30 دولاراً بعد تآكل قيمة الجنيه السوداني (الدولار يساوي 3500 جنيه تقريبا). البيئة المدرسية نفسها غير صالحة للتعليم، فكثير من المدارس دمرت، أو تحولت لمقرات عسكرية، ما يجعل المعلمين يفضلون العمل في مهن بديلة”.
ويضيف: “آلاف المعلمين الذين أفنوا حياتهم في المهنة تركوها إلى مهن أخرى لأنها أصبحت طاردة، ولا تفي بأقل مقومات الحياة، ولا تنحصر أزمة التعليم في سوء الوضع المعيشي للمعلمين، إذ أوقفت الدولة طباعة الكتب المدرسية، ليصبح المعلم ملزماً أمام تلاميذه بالبحث عن مقرر أكاديمي، وتحولت مدارس إلى مراكز إيواء للنازحين في عدد من الولايات منذ اندلاع الحرب. التعليم على وشك الانهيار النهائي”.
بدورها، تصف عواطف عبد الجليل، وهي معلمة بالمرحلة الثانوية في ولاية شمال كردفان، أحوال المعلمين بأنها بائسة، وتقول لـ”العربي الجديد”: “قرر كثيرون ترك المهنة، والبحث عن فرص عمل أخرى لتوفير الخبز لأطفالهم. لا يمكن للإنسان أن يعمل من دون أجر كاف، ولهذا أصبحت مهنة التعليم في السودان غير مجدية، إذ لا توفر للمعلم الحد الأدنى من احتياجاته الضرورية. هناك معلمون يعيشون على طعام المطابخ الجماعية، أو عبر تبرعات الخيرين والأقارب، وهذه بالأساس مسؤولية الدولة التي تركتهم لمصيرهم بدلاً من صون كرامتهم وحفظ إنسانيتهم”.