ظلت الحركة الإسلامية منذ عهد عمر البشير تتوسل أبناء دارفور وجبال النوبة باعتبارهم خزاناً بشرياً وحاضنة يمكن استثمارها في صراعاتها الإقليمية والأيديولوجية. والتقاطع غير المباشر للمصالح بين “العدل والمساواة” وإيران هو التصور الأكثر واقعية، إذ يجمع بين التاريخ الأيديولوجي للحركة ومتطلبات السياسة الإقليمية الإيرانية، من دون الحاجة إلى دليل موثق على علاقة سرية مباشرة.
تعد العقوبات الأميركية الأخيرة المفروضة على زعيم “حركة العدل والمساواة” السودانية جبريل إبراهيم، وعلى لواء البراء بن مالك، تطوراً نوعياً يعكس تحولاً في مقاربة واشنطن الصراع السوداني، ورؤيتها تجاه الجماعات الإسلامية المسلحة وعلاقاتها الإقليمية. فهذه الخطوة لا تنحصر في كونها مجرد تدبير عقابي، بل تحمل في طياتها رسالة سياسية وأمنية أوسع، وقد وضعت وزارة الخزانة الأميركية في بيانها الصادر في الـ12 من سبتمبر (أيلول) الجاري إطاراً صارماً لهذه السياسة، حين اتهمت الطرفين بالتورط في تغذية الحرب السودانية وبنسج روابط مع إيران، في إشارة ضمنية إلى ما تعده واشنطن تداخلاً خطراً بين مصالح فصائل إسلامية محلية وأجندات إيرانية.
تأتي هذه العقوبات بعد موقف موحد أعلنه وزراء خارجية الآلية الرباعية، عبر عن رفض صريح لأي دور للجماعات المتطرفة المرتبطة تنظيمياً أو فكرياً بـ”الإخوان المسلمين” في رسم ملامح مستقبل السودان. وهذا التزامن يعكس إدراكاً جماعياً بأن هناك مسارات للتطرف يعاد تشكيلها، تستفيد من النفوذ الإيراني المتزايد في بؤر النزاع الأفريقية. ويبرز السودان ليس مجرد ساحة نزاع داخلي، بل مختبر لإيران لإعادة صياغة نفوذها في أفريقيا والشرق الأوسط، وتوسيع رقعة تأثيرها البحرية والسياسية، واختبار أدواتها العسكرية الحديثة، بما يشكل تحدياً مستمراً للمجتمع الدولي وللقوى الإقليمية الكبرى.
جاء رد زعيم حركة “العدل والمساواة” ووزارة الخارجية السودانية على هذه العقوبات ليعكس خطاباً دفاعياً مشحوناً بالسيادة الوطنية، لكنه لم يفلح في تبديد الشكوك المحيطة بعلاقته بإيران ودوره في الحرب الأهلية (اندبندنت عربية – حسن حامد)
ويبرز البيان الأميركي أن العقوبات لا تستهدف مجرد معاقبة فاعلين محددين، بل تسعى أيضاً إلى الحد من قدرة هذه الكيانات على الاستفادة من الانقسام السوداني لتعزيز نفوذ خارجي يفاقم معاناة المدنيين. فالحرب المستعرة منذ الـ15 من أبريل (نيسان) 2023 حصدت أرواح ما يقدر بنحو 150 ألف شخص، وأدت إلى تشريد أكثر من 14 مليوناً، في أسوأ أزمة إنسانية ممتدة يشهدها العالم اليوم. ومن خلال هذا المسار، ترسم واشنطن خطوطاً حمراء حول السودان بوصفه ساحة اختبار لمعادلة دقيقة، وإيقاف تمدد جماعات إسلامية ذات روابط عابرة للحدود، وكبح دور إيران في إطالة أمد الصراع، مع إبقاء الباب موارباً أمام تسوية سياسية تعيد للسودان استقراره وتكبح تداعياته الإقليمية.
ما بين أدلة ميدانية وإفادات رسمية أميركية، تتكون صورة لدور جبريل إبراهيم، تتجاوز مزاعم الحرب إلى شراكات استراتيجية وتأثيرات ميدانية ملموسة. وبحسب وزارة الخزانة الأميركية، فإن “حركة العدل والمساواة” تربطها “صلات تاريخية” بشخصيات إسلامية سودانية بارزة، وهي إشارة لعلاقة الحركة بعراب التيار الإسلامي حسن الترابي وقادة الحركة الأوائل، وتأسيسها بواسطة خليل، شقيق جبريل إبراهيم الذي كان من الرعيل الأول للحركة الإسلامية. كما كانت توصف بأنها الجناح العسكري للحركة الإسلامية منذ أيام حسن الترابي، مما منحها امتداداً أيديولوجياً وعسكرياً داخل المشهد السوداني.
أما انعكاس علاقة زعيم “العدل والمساواة” بإيران فقد تجسد في الاجتماع الذي شهدته العاصمة طهران في نوفمبر (تشرين الثاني) من العام الماضي، بناءً على دعوة من وزير الاقتصاد والمال الإيراني، إذ تم الاتفاق على تعزيز التعاون في المجالات التجارية، والاقتصادية، والسياسية والإعلامية، إضافة إلى تشكيل لجنة وزارية مشتركة ولجنة للتشاور السياسي.
تقول وزارة الخزانة الأميركية إن التواصل بين جبريل إبراهيم وإيران لم يكن رمزياً فحسب (اندبندنت عربية – حسن حامد)
هذا التواصل تقول وزارة الخزانة الأميركية إنه لم يكن رمزياً فحسب، بل شمل دعماً فنياً من طهران للحركة، كما أن الحركة أسهمت بآلاف المقاتلين في مواجهة قوات “الدعم السريع” ضمن تحالف “القوات المشتركة”، مما يشير إلى أن جبريل إبراهيم ليس مجرد زعيم سياسي، بل فاعل ميداني لديه قدرة تعبوية وعسكرية واضحة. وأوضح نائب المتحدث باسم الخارجية الأميركية توماس بيغوت أن هذه “العقوبات تهدف إلى الحد من النفوذ الإسلامي في السودان وكبح أنشطة إيران الإقليمية التي أسهمت في زعزعة الاستقرار ونشوب النزاعات ومعاناة المدنيين. وقد لعب الإسلاميون السودانيون دوراً تخريبياً طويل الأمد، لا سيما خلال حكم الرئيس السابق عمر البشير الذي استمر 30 عاماً حتى عام 2019، وأسهموا أخيراً في إفشال جهود الانتقال الديمقراطي عبر تقويض الحكومة المدنية الانتقالية واتفاق الإطار السياسي، مما أدى إلى اندلاع القتال بين القوات المسلحة السودانية و(الدعم السريع)”. وأضاف “لا يزال المتشددون الإسلاميون يعرقلون جهود وقف إطلاق النار ويعززون علاقاتهم مع إيران ويتلقون دعماً فنياً من الحرس الثوري الإيراني المصنف منظمة إرهابية”.
بحسب البيان الأميركي فإن كتيبة البراء بن مالك انتقلت من وضعها كقوة شبه عسكرية تنتمي جذرياً إلى ميليشيات “الدفاع الشعبي” في عهد البشير إلى لاعب عسكري ضالع في الحرب الحالية، مستخدمة تدريباً وتسليحاً مزودين من “الحرس الثوري الإيراني”، وتجاوز عدد مقاتليها عشرات الآلاف، في مواجهة مباشرة مع “الدعم السريع”. وتوجه إليها أيضاً اتهامات بانتهاكات لحقوق الإنسان، من اعتقالات تعسفية وتعذيب وإعدامات بإجراءات موجزة لمن يشتبه في أنهم متعاطفون أو موالون لـ”الدعم السريع”.
من جهة أخرى تعود أهمية هذه العلاقة مع إيران إلى كونها تمكن هذه الجماعة من تجاوز عزلتها الإقليمية، وتتيح لها موارد تقنية وتدريبية ولوجيستية تعزز القدرة على الاستمرار في النزاع. إن التكامل بين الدعم الإيراني والحضور الميداني المكثف لكلا الطرفين يجعل منهما أكثر من مجرد أدوات محلية في حرب أهلية، بل يصبحان جسور نفوذ تؤثر في توازنات القوى الإقليمية.
بحسب البيان الأميركي فإن كتيبة البراء بن مالك انتقلت من وضعها كقوة شبه عسكرية تنتمي جذرياً إلى ميليشيات “الدفاع الشعبي” في عهد البشير إلى لاعب عسكري ضالع في الحرب الحالية (اندبندنت عربية – حسن حامد)
في ضوء الأمر التنفيذي الأميركي رقم 14098، وصف كل من جبريل إبراهيم وكتيبة البراء بن مالك بأنهما يشغلان مناصب قيادية في كيانات شاركت أو تواطأت بصورة مباشرة أو غير مباشرة في أفعال تهدد الأمن والاستقرار، وهو تصنيف يلصقهما رسمياً بمسؤولية أخلاقية وقانونية أمام المجتمع الدولي، ليس فقط لما ارتكباه من أعمال عسكرية، بل لما شكلاه من عائق أمام أية عملية تسوية سياسية أو انتقال ديمقراطي. كذلك، يعد ربطهما بإيران دليلاً على أن جماعات محلية في السودان أصبحت تتلقى دعماً دولياً يمكنها من الاستمرار في النزاع، مما يزيد المشهد تعقيداً ويطيل أمد المعاناة الإنسانية للمدنيين.
جاء رد زعيم حركة “العدل والمساواة” ووزارة الخارجية السودانية على هذه العقوبات ليعكس خطاباً دفاعياً مشحوناً بالسيادة الوطنية، لكنه لم يفلح في تبديد الشكوك المحيطة بعلاقته بإيران ودوره في الحرب الأهلية. فقد أكدت الحركة في بيانها أن العقوبات “أحادية وتعسفية” وتفتقر إلى أي أساس قانوني أو واقعي، مبرزة تاريخها في مقاتلة نظام البشير ومساهمتها في اتفاق جوبا للسلام والتزامها بالانتقال الديمقراطي ودمج قواتها في الجيش، كما نفت، بشدة، أن تكون امتداداً لأي مشروع عقائدي أو ذراعاً خارجية، وعدت زيارة جبريل إلى طهران عملاً رسمياً مشروعاً ضمن مهامه كوزير مالية في حكومة ذات سيادة، قياساً بكون الولايات المتحدة نفسها تتفاوض مع إيران.
بدورها، وصفت وزارة الخارجية السودانية العقوبات بأنها لا تساعد على تحقيق الغايات المنشودة. وأكدت أن السلام شأن سوداني داخلي يبنى عبر الانخراط المباشر واحترام السيادة الوطنية، وحذرت من الاعتماد على “افتراضات تروج لها جهات ذات أجندات خاصة”. غير أن عناصر متراكمة تجعل الاتهام الأميركي أكثر ترجيحاً، فبيان وزارة الخزانة أورد تفصيلاً لزيارة نوفمبر وما انبثق منها من اتفاقات تعاون اقتصادية وسياسية ولجان مشتركة، وأشار إلى دعم فني من إيران، وإلى أن الحركة دفعت بآلاف المقاتلين إلى جبهات القتال ضد “الدعم السريع”، بينما تتهم كتيبة البراء بن مالك بتلقي تدريب وتسليح من “الحرس الثوري الإيراني” والمشاركة في انتهاكات واسعة النطاق. هذه المعطيات لا تبدو مجرد علاقات دبلوماسية عادية، بل تضع الحركة في قلب شبكة نفوذ إقليمية تمكنها من استمرار الحرب وتقوض الانتقال الديمقراطي. ومع أن الرد السوداني يستند إلى حجج السيادة ومشروعية الاتصالات الخارجية، إلا أن تلازم الزيارات الرسمية مع النشاط العسكري يجعل الاتهام الأميركي قابلاً للنقاش في ضوء سجل إيران في توسيع نفوذها في بؤر النزاع الأفريقية. بذلك يبدو المشهد أقل انقساماً بين “اتهام” و”نفي”، وأكثر قرباً إلى معادلة مركبة تتقاطع فيها اعتبارات داخلية مشروعة مع ارتباطات إقليمية واقعية، مما يستدعي تحقيقاً مستقلاً وشفافاً يضع النقاط على الحروف ويعين حدود الدور الإيراني في النزاع السوداني، بعيداً من خطاب المظلومية أو الاستهداف السياسي.
في ضوء الأمر التنفيذي الأميركي وصف كل من جبريل إبراهيم وكتيبة البراء بن مالك بأنهما يشغلان مناصب قيادية في كيانات شاركت أو تواطأت في أفعال تهدد الأمن والاستقرار (اندبندنت عربية – حسن حامد)
ظلت الحركة الإسلامية منذ عهد البشير تتوسل أبناء دارفور وجبال النوبة باعتبارهم خزاناً بشرياً وحاضنة يمكن استثمارها في صراعاتها الإقليمية والأيديولوجية، وسعت إلى إغراء القيادات الشابة من الهامش بوعود المشاركة في السلطة والنفوذ، بينما كانت في الواقع تحشدهم لخدمة أجندة مركزية تتغذى على الولاء العقائدي أكثر من عدالة التمثيل والمصلحة المحلية. فالمكاسب التي جنتها الحركات المسلحة ذات الصلة بالإسلاميين لم تكن إلا فتاتاً بالمقارنة مع ما حصده التيار المركزي في الخرطوم، إذ تغلبت الأيديولوجيا على حاجات الإقليم وتطلعات مواطنيه، حتى بدا أن دارفور وجبال النوبة مجرد مسرح لتجريب مشاريع الحركة الإسلامية الكبرى لا شريكاً حقيقياً فيها.
هذه المفارقة عبر عنها بوضوح داوود يحيى بولاد، أحد القياديين البارزين ومؤسسي “الجبهة الإسلامية القومية” المتحدرين من دارفور، والذي تمت تصفيته عام 1992، بسبب انشقاقه عن الحركة الإسلامية وانضمامه إلى الحركة الشعبية لتحرير السودان. فحين سأله زعيم الحركة الشعبية لتحرير السودان جون قرنق دي مابيور عن أسباب انشقاقه، أجاب من دون تردد “اكتشفت أن رابطة الدم أكثر كثافة من الدين في الحركة الإسلامية”. في تلك العبارة الموجزة تلخص وعي بولاد بأن الولاء داخل التنظيم لم يكن قائماً على قيم المساواة أو التضامن مع المهمشين، بل على روابط عصبية وجهوية تفضح التناقض بين الخطاب المعلن والممارسة الفعلية. ولعل هذا الإدراك المبكر كشف المأزق البنيوي للحركة الإسلامية السودانية، فهي من جهة استندت إلى خطاب ديني عابر للجهات لجذب أبناء الأطراف، ومن جهة أخرى ظلت أسيرة لتعصب نخبها الشمالية التي عاملت هؤلاء الأتباع باعتبارهم أدوات في صراعها السياسي. ومع تراكم التجارب، اتضح أن الحركة الإسلامية لم تكتف بتغليب الأيديولوجيا على المصالح المحلية فحسب، بل أسهمت في ترسيخ انقسام اجتماعي وثقافي عميق عزز النزاعات بدل احتوائها. وهكذا تحولت دارفور وجبال النوبة، في وجدان هذه الحركة، إلى وقود لمعاركها بدلاً من أن تكون فضاء للعدالة والتنمية، مما أفضى إلى انكشاف خطابها الأخلاقي وفضح حدود مشروعها السياسي.
independentarabia