آخر الأخبار

السودان بين شبح الانقسام وإمكانات البقاء

شارك

يقف السودان اليوم أمام مفترق طرق وجودي يثير أسئلة كبرى؛ فهل يسير نحو إعادة إنتاج تجربة انفصال جنوب السودان عام 2011، أم أن هناك إمكانية لتجاوز شبح التقسيم عبر بناء عقد سياسي جديد؟

وكيف يمكن للسودان أن يخرج من الحرب المستمرة منذ أبريل/نيسان 2023، وقد ولّدت هذه الحرب واقعاً موازياً بظهور حكومة جديدة في دارفور يقودها محمد حمدان دقلو (حميدتي)، ما يكرّس تعددية مراكز السلطة؟

إن خطورة اللحظة السودانية لا تكمن فقط في انقسام السلاح بين الجيش والدعم السريع، وإنما في غياب مشروع جامع قادر على توحيد المجال السياسي والاجتماعي، وهو ما يعيد إلى الأذهان تجربة الجنوب، بكل ما حملته من جراح لم تلتئم بعد.

أحد المفاهيم التي يمكن استدعاؤها لفهم المسار الحالي هو “اللبننة”، الذي نستخدمه لوصف تحول الدولة إلى ساحة صراع ميليشيات متنازعة، تتوزع فيها السلطة بين قوى محلية مرتبطة بداعمين خارجيين. الخطر في “لبننة” السودان يتمثل في أن استمرار الحرب يرسّخ واقعا شبيها بما عاشه لبنان خلال الحرب الأهلية؛ من مناطق نفوذ متقطعة، وزعامات محلية متنازعة، ودولة مركزية ضعيفة تتحول إلى مجرد إطار شكلي.

لا يمكن تجاوز شبح التقسيم بانتصار عسكري لهذا الطرف أو ذاك، بل بقدرة القوى السودانية، بمساندة إقليمية ودولية، على بلورة عقد وطني جديد يعترف بالتنوع ويحافظ على الوحدة

هذا السيناريو، إذا ترسخ، يعني أن السودان لن يسير نحو تقسيم رسمي بالضرورة، وإنما نحو “تفكك غير معلن” حيث تصبح الدولة عبارة عن اسم جغرافي يجمع كيانات متصارعة.

اندلاع الحرب عام 2023 بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع كان نتيجة تراكمات سياسية وبنيوية تعود إلى فشل عملية الانتقال بعد سقوط نظام عمر البشير في 2019. التنافس على السلطة والسلاح، وغياب الثقة بين المكوّنات العسكرية والمدنية، جعلا البلاد تدخل في حلقة صراع دموي سرعان ما تمدد إلى الأقاليم.

دارفور الآن تحديدا تحولت إلى ساحة مركزية، ليس فقط بسبب ثقلها التاريخي في النزاع السوداني، بل لأنها باتت مقر حكومة موازية أعلن عنها مؤخرا؛ في خطوة تؤشر على انهيار الدولة المركزية في الخرطوم وتآكل شرعية مؤسساتها.

من منظور دراسات الدولة الحديثة، يشكل السودان نموذجا كلاسيكيا لـ”الدولة الهشة” حيث تفقد السلطة المركزية قدرتها على احتكار العنف المشروع كما عرّفه ماكس فيبر. تتجلى هذه الهشاشة في تعدد مراكز القوة المسلحة، وانهيار مؤسسات الدولة البيروقراطية، وتآكل قدرتها على تقديم الخدمات الأساسية للمواطنين.

لكن الأهم هو أن السودان لا يواجه هشاشة أحادية البعد، بقدر ما يواجه ما يمكن تسميته بـ”الهشاشة المركبة”، إذ تتقاطع الأبعاد الأمنية مع الاقتصادية والاجتماعية والسياسية. فالحرب الممتدة منذ 2023 أدت إلى تفكك النسيج الاجتماعي، بينما دفع الانهيار الاقتصادي نحو نشوء اقتصاديات حرب. هذه البنية المعقدة تجعل إعادة بناء الدولة أكثر صعوبة، لأن المطلوب إعادة مركزية السلطة، وإعادة تأسيس العلاقة بين المجتمع والدولة على أسس جديدة من الشرعية والتمثيل.

عام 2011 انفصل جنوب السودان بعد استفتاء رسمي أقرّ حق تقرير المصير، ليشكّل أول سابقة لتقسيم السودان. إلا أن تلك التجربة لم تؤسس لسلام دائم، بل أدخلت الدولة الوليدة في أزمات متلاحقة من الحروب الأهلية والفشل المؤسسي.

اليوم يستحضر السودانيون والعالم هذه التجربة كتحذير، فالمشهد في دارفور وأقاليم أخرى يضع البلاد أمام معادلة مشابهة: غياب الثقة، تهميش طويل، نزاعات مسلحة، وضغط دولي متباين. الفرق أن التقسيم الآن قد لا يأتي عبر استفتاء منظّم، بقدر ما قد يكون عبر واقع أمر مفروض بالقوة والدمار.

يتجسد الخطر الأكبر في عسكرة السياسة، حيث تحوّل السلاح إلى أداة تفاوض بديل عن التوافق السياسي. ومع انهيار الاقتصاد وظهور اقتصاديات الحرب، باتت الأطراف المتحاربة تمتلك دوافع لإطالة الصراع.

كما أن البعديْن الإثني والجهوي يعمّقان الأزمة، فدارفور تحمل إرثاً من التهميش والصراع المسلح منذ مطلع الألفية، وتحوّلها إلى قاعدة لحكومة موازية يعزز منطق الانفصال.

أما العامل الخارجي فيتجلى في انخراط قوى إقليمية تسعى إلى توظيف الأزمة لمصالحها، سواء عبر الدعم العسكري أو عبر استثمار موارد السودان الغنية. هذا التدخل يعمّق مشكلة الانقسام أكثر مما يساهم في حلها.

لا يمكن فهم الأزمة السودانية بمعزل عن محيطها الجغرافي والسياسي. وفق نظرية “المركب الأمني الإقليمي”، تشكل الأزمات الداخلية في الدول الهشة تهديدا مباشرا لجيرانها. فالسودان، بحكم موقعه الجغرافي بين القرن الأفريقي والساحل والصحراء، يمثل نقطة تقاطع بين أنماط أمنية إقليمية متعددة.

القوى المدنية المحلية، رغم ضعفها وتشتتها، تبقى الركيزة الأهم في أي مشروع جامع، إذ إن تجاوز الثنائية العسكرية بين الجيش والدعم السريع يمر عبر تمكين صوت المجتمع المدني

التدخلات الإقليمية في الصراع السوداني تعكس تعبيراً عن إدراك متزايد بأن تفكك السودان يهدد الأمن القومي لدول مثل تشاد وإثيوبيا ومصر وليبيا. وفي الوقت ذاته، فإن هذه التدخلات تزيد من تعقيد الأزمة عبر تغذية الحرب بالموارد والسلاح.

رغم قتامة المشهد، لا تزال هناك إمكانات واقعية لتفادي التقسيم. أولها يكمن في بناء عقد اجتماعي جديد يوازن بين المركز والأطراف، ويعترف بالتعددية الإثنية والثقافية كواقع يجب أن يُدار سياسياً وليس عسكرياً.

القوى المدنية المحلية، رغم ضعفها وتشتتها، تبقى الركيزة الأهم في أي مشروع جامع، إذ إن تجاوز الثنائية العسكرية بين الجيش والدعم السريع يمر عبر تمكين صوت المجتمع المدني.

على مستوى الحوكمة، يمكن التفكير في خيارات مثل اللامركزية الموسعة أو الفيدرالية التي تمنح الأقاليم صلاحيات واسعة، لكن دون أن تتحول إلى ممر للانفصال.

أما على المستوى الإقليمي، فإن الاتحاد الأفريقي وجامعة الدول العربية مدعوان للقيام بدور وساطة جاد، بعيداً عن الحسابات الضيقة، لتثبيت وحدة السودان.

الحرب المستمرة منذ 2023 لم تدمّر فقط البنى التحتية، بل هدّدت النسيج الاجتماعي السوداني. النزوح الجماعي وتفشي المجاعة وغياب الخدمات الصحية والتعليمية تجعل من أي حديث عن وحدة وطنية أمراً أكثر صعوبة.

كل يوم يستمر فيه النزاع يزيد من فرص الانقسام الفعلي، ويقرب السودان من سيناريوهات خطيرة: حرب استنزاف طويلة، مناطق حكم ذاتي بحكم الأمر الواقع، أو انهيار شامل لمؤسسات الدولة.

السودان اليوم أمام معادلة حرجة؛ فإما أن يكرر تجربة الانقسام كما حدث مع الجنوب أو ينجح في صياغة مشروع سياسي جامع يتجاوز خيار الحسم بالسلاح، ويضع الأسس لوحدة قائمة على العدالة السياسية والاجتماعية.

لا يمكن تجاوز شبح التقسيم بانتصار عسكري لهذا الطرف أو ذاك، بل بقدرة القوى السودانية، بمساندة إقليمية ودولية، على بلورة عقد وطني جديد يعترف بالتنوع ويحافظ على الوحدة.

السؤال المفتوح يظل قائماً حول إمكانية أن يمتلك السودان فرصة ثانية ليثبت أن التعددية لا تعني الانقسام، وأن الحرب ليست قدرا محتوما بل أزمة يمكن تجاوزها بقرار سياسي رشيد.

العرب

الراكوبة المصدر: الراكوبة
شارك


حمل تطبيق آخر خبر

إقرأ أيضا