(تقرير SPT – ترجمة الراكوبة)
في قلب الخرطوم، حيث كانت ضوضاء الأسواق تختلط بأصوات المارة وضجيج المركبات، يخيم اليوم صمت ثقيل لا يقطعه سوى صفير الرياح بين المباني المدمرة. العاصمة، التي مثلت لعقود مركز الثقل السياسي والاقتصادي والثقافي في السودان، باتت تُوصَف بأنها “مدينة موبوءة” بعد اتهامات باستخدام أسلحة كيميائية في الحرب، التي انطلقت من الخرطوم قبل أن تمتد إلى مناطق أخرى من بؤر النزاع في البلاد. وبينما تتحدث السلطات في بورتسودان عن مشروع عاصمة إدارية بديلة، تكشف شهادات الأطباء والنازحين والقيادات المحلية عن مأساة إنسانية وصحية غير مسبوقة.
في النصف الأخير من العام الماضي، ظهر رئيس مجلس السيادة، الفريق أول عبد الفتاح البرهان، في مقطع مصوَّر بثه إعلام الجيش، مخاطباً جنوده بالقول:
“لا تقلقوا، سننتصر على قوات الدعم السريع. إما أن يرعووا ويخرجوا من الخرطوم أو سنضطر لاستخدام القوة المميتة.”
وقد فسّر مراقبون لاحقاً هذه التصريحات على أنها إشارة مباشرة إلى نية استخدام أسلحة كيميائية. وبعد أشهر، وتحديداً في 24 أبريل، أعلنت الحكومة الأمريكية رسمياً أن الجيش السوداني استخدم أسلحة كيميائية في حربه ضد قوات الدعم السريع، التي اندلعت في 15 أبريل 2023، قبل أن تفرض عليه عقوبات في مايو التالي.
وفي أكتوبر الماضي، برز اسم الفريق ياسر العطا، الرجل الثالث في قيادة الجيش، حين ظهر مخاطباً الجنود في قاعدة كرري العسكرية بمدينة أم درمان قائلاً:
“سنستخدم أكبر قدر يسمح به قائد الجيش من القوى الخفية.”
وفي أواخر العام ذاته، كشفت الدكتورة منى علي محمد، الأمين العام للمجلس الأعلى للبيئة، خلال ورشة تدريبية حول مخاطر المواد الكيميائية عُقدت في مبنى الجمارك بمدينة بورتسودان، أن ولاية الخرطوم تعرضت لتلوث كيميائي خطير. لكنها سارعت إلى القول إن هذا التلوث نتج – بحسب روايتها – عن استهداف قوات الدعم السريع لمصانع في الخرطوم.
تصريحاتها أثارت موجة واسعة من السخرية، واعتبرها مراقبون محاولة لطمس معالم الجريمة التي ارتكبها الجيش والمليشيات والكتائب الإسلامية المتحالفة معه.
وقال ضابط متقاعد لـ SPT إن حديثها يمثل “مشاركة في الجريمة”، موضحاً:
“أغلب المصانع الكبيرة في الخرطوم قُصفت ودُمّرت بواسطة الطيران خلال الشهر الأول من الحرب. ثم إن قوات الدعم السريع كانت تسيطر على الخرطوم، فهل يُعقل أن تقتل نفسها؟”
وأكد الضابط أنه حصل على معلومات من زملائه في الخدمة تؤكد استخدام الجيش أسلحة كيميائية مرات عدة في الحرب، خصوصاً في الخرطوم ودارفور.
تعاني الخرطوم، إلى جانب ولايات أخرى مثل الجزيرة ودارفور، من موجة وفيات غير مسبوقة، معظمها إمّا حالات مفاجئة أو نتيجة أمراض غامضة.
وفي مناطق عدة من دارفور، سُجّلت أيضاً حالات نفوق جماعي للحيوانات، وفق شهادات مواطنين وتقارير طبية محلية.
طبيب تطوع للعمل في مستشفى النو بمنطقة الثورة شمال أم درمان، أكد لـ SPT أن أعداد الوفيات وسط المدنيين ترتفع بوتيرة “مرعبة”، قائلاً:
“عدد وفيات المدنيين بسبب الأمراض يفوق بأضعاف مضاعفة الوفيات التي حدثت أثناء الاشتباكات في وجود قوات الدعم السريع بالخرطوم.”
ورغم إقراره بصعوبة الجزم باستخدام أسلحة كيميائية، أضاف الطبيب:
“كثير من الحالات تبدأ بأعراض مثل الغثيان، الإسهال، التشنجات، ضيق الصدر وصعوبة التنفس.”
وأشار إلى أن هذه الأعراض لا تتعارض مع الإصابة بالكوليرا نتيجة التلوث البيئي وتلوث مصادر الغذاء والماء. لكن شهادته الأكثر خطورة جاءت حين كشف أن عناصر أمنية وأفراداً من مليشيات إسلامية حذّروه وزملاءه من الحديث إلى أي زائر غربي حول أعداد الحالات أو الوفيات.
وفي السياق ذاته، قال مصدر طبي مقيم في جنوب الخرطوم لـ SPT:
“حمّيات مجهولة باتت منتشرة في المنطقة، تُشخّص على أنها حمى الضنك، لكن المرضى لا يستجيبون للعلاج.”
وأضاف أن الإسهالات المائية أصبحت واسعة الانتشار. وعند سؤاله عمّا إذا كانت هذه الأعراض مرتبطة باستخدام أسلحة كيميائية، أجاب:
“كل شيء وارد. الخرطوم كلها تفوح منها رائحة الموت، والناس يموتون بمعدلات عالية، لكن لا أحد يعرف السبب. لا توجد مستشفيات مجهزة بأجهزة فحص، ومن يعرف السبب لا يتحدث.
في 29 أغسطس الماضي، أصدرت مجموعة “محامو الطوارئ” تقريراً تحدثت فيه عن مزاعم استخدام أسلحة كيميائية في شرق سنار وجبل موية، مشيرةً إلى آثار بيئية وصحية خطيرة. وبحسب شهادات سكان محليين، ظهرت بقع صفراء على التربة وتلفت المحاصيل، فيما نفق عدد كبير من الماشية والقوارض. كما سُجّلت إصابات صدرية وفشل كلوي والتهابات في العيون وأعراض شُخّصت خطأً ككوليرا، إلى جانب تشوهات خلقية وحالات إجهاض متكررة.
ودعت المجموعة إلى تحقيق دولي عاجل فيما وصفته بـ “القاتل الصامت”، مؤكدة – على لسان المحامية رحاب مبارك سيد أحمد – أن ما يحدث يمثل “انتهاكاً خطيراً للقانون الدولي الإنساني” ويستدعي تدخلاً دولياً فورياً.
دفعت دارفور، التي طالما شكّلت بؤرة الحروب السودانية، الثمن الأكبر مجدداً في هذه الحرب. فالغارات الجوية التي شنها طيران الجيش لم تقتصر على استهداف المناطق السكنية وقتل المدنيين، بل طالت أيضاً مناطق الرعاة، فدمّرت آبار المياه وأبادت آلاف المواشي والإبل.
أحد القيادات الأهلية من قبيلة الزيادية في منطقة الكومة بولاية شمال دارفور قال لـ SPT:
“شهدت الكثير من النزاعات والحروب في دارفور من قبل، لكن ما يحدث الآن لم أرَ مثله قط. لا أعرف ما هو السلاح الكيميائي ولم أره أو أسمع به سابقاً، لكن ما استخدمته طائرات الجيش ضدنا في الكومة، إن لم يكن كيماوياً فهو سلاح شيطاني؛ لقد مات كثيرون فجأة وهم واقفون.”
وأضاف:
“رأينا رماداً أسود لم نره من قبل. الحيوانات أصيبت بالعمى، الأشجار انهارت، وآبار المياه تلوثت بالكامل. لأول مرة نشاهد هذا النوع من القنابل.”
من جانبه، أوضح موسى مراح، الناشط المتطوع في غرفة طوارئ الكومة، أن المنطقة شهدت حالات وفاة مفاجئة وأمراضاً غريبة بين السكان، تمثلت في بثور جلدية وآلام في العيون، إلى جانب ظواهر غير مألوفة مثل تساقط شعر بعض الحيوانات وإصابة جلودها بتسلخات.
وأشار مراح إلى أن أمراضاً غامضة تنتشر كذلك بين النازحين في مراكز الإيواء بالكومة، خصوصاً في مدرستي الفاروق والإمام علي اللتين تستضيفان أعداداً كبيرة من الفارين من الخرطوم، موضحاً أن المدرستين تعرضتا مراراً لقصف جوي من طيران الجيش السوداني.
وتُعد الكومة من أكثر مناطق شمال دارفور تعرضاً للقصف الجوي، إذ شهدت 173 غارة جوية، وفق إحصاءات غرفة الطوارئ، أسفرت عن مقتل مئات المدنيين ونفوق آلاف الماشية والإبل، إلى جانب تدمير منشآت حيوية ومصادر المياه الرئيسية.
في مدينة مليط بولاية شمال دارفور، ظهرت حالات مرضية مثيرة للقلق، أبرزها تزايد حالات الإجهاض بين النساء الحوامل.
وقال المدير الطبي لمستشفى مليط، الدكتور محمد علي مسبل، لـ SPT:
“المستشفى استقبل عشرات الحالات لنساء أجهضن دون أسباب واضحة، والظاهرة ما تزال مستمرة حتى الآن.”
وأضاف أن المستشفى يعمل في ظروف صعبة، إذ يفتقر إلى الأجهزة والمعينات الطبية والكادر الصحي، فضلاً عن خطر القصف الجوي من طائرات الجيش.
ورجّح مسبل أن تكون هذه الحالات مرتبطة بالمقذوفات التي تلقيها الطائرات على المدينة، والتي – بحسبه – “غالباً ما تحتوي على أسلحة كيميائية.”
أمام هذا الكم من الشهادات والتقارير الطبية والحقوقية، وما تحمله من دلائل على استخدام محتمل للأسلحة الكيميائية في الخرطوم وولايات أخرى، تتعاظم الحاجة إلى فتح تحقيق دولي مستقل وشفاف يكشف الحقائق ويوثق الانتهاكات، ويضمن محاسبة المتورطين، حمايةً للمدنيين، وصوناً لما تبقى من حق الحياة في السودان.