اضطر الآلاف من أهالي القرى إلى ترك مهنة الزراعة والرعي للمرة الأولى في حياتهم ونزحوا نحو المدن، مما يهدد موسم الزراعة التقليدية في السودان، فضلاً عن فقدان الثروة الحيوانية نتيجة عمليات النهب والسلب المتكررة لمئات رؤوس المواشي من الضأن والماعز، إضافة إلى تعرض رُعاة كثر للقتل بسبب مقاومة اللصوص والمجموعات المسلحة خلال رحلة التنقل في المراعي.
أجبر تصاعد القتال وتزايد معدلات الانتهاكات ضد المدنيين في قرى ولايات كردفان الثلاث وبعض المدن والمناطق بإقليم دارفور آلاف الأسر من الطبقات الفقيرة وسكان البادية والرحل على النزوح من أرياف السودان للمرة الأولى إلى المدن في هجرة عكسية هرباً من أوضاع أمنية معقدة وبحثاً عن الأمن، وكذلك العيش في ظل ظروف مختلفة بمناطق حضرية، على رغم اختلاف البيئة وتفاصيل الحياة اليومية.
ومنذ أشهر تحول مسرح العمليات الحربية والمعارك الشرسة بين الجيش وقوات “الدعم السريع” من المدن الكبرى مثل الخرطوم وود مدني وسنار إلى إقليم كردفان وولاية شمال دارفور. وإثر تصاعد هجمات “الدعم السريع” على المدنيين، ارتكبت هذه القوات مجازر إضافية في حق سكان القرى والأرياف، مما أدى إلى تزايد حوادث القتل خلال الفترة الأخيرة، إذ وثقت منظمات حقوقية وناشطون مئات الوفيات.
شهدت الفترة الأخيرة هجمات عنيفة من قبل قوات “الدعم السريع” على قرى عدة في ولايتي شمال وجنوب كردفان، وكذلك أرياف إقليم دارفور، مما أسفر عن مئات القتلى وعشرات المصابين والجرحى.
وقتل 18 مدنياً في هجوم شنته “الدعم السريع” على منطقة أم كريدم قرب مدينة الأبيض في الثامن من أغسطس (آب) الحالي، وذكرت مجموعة “محامو الطوارئ” في بيان إن “الهجوم خلف كذلك عشرات الجرحى”. وأكدت المجموعة “ارتكاب انتهاكات واسعة شملت التنكيل بالأهالي ونهب الممتلكات خلال الهجمات”.
وفي قرية بريما رشيد قرب مدينة النهود بولاية غرب كردفان، قتلت قوات “الدعم السريع” في يوليو (تموز) 30 مدنياً في الأقل بينهم نساء وأطفال في هجوم استمر يومين على القرية بحسب مجموعة “محامو الطوارئ”.
وأفادت الجمعية الحقوقية التي توثق الفظائع المرتكبة في الحرب بأن “قوات ‘الدعم السريع‘ قتلت ما لا يقل عن 14 مدنياً أثناء محاولتهم الفرار من قرية قرني الواقعة شمال غربي مدينة الفاشر، إضافة إلى عشرات الجرحى واعتقال عدد غير معروف من المدنيين”.
جراء هذه الأوضاع اضطر الآلاف من سكان القرى والمناطق الريفية إلى ترك مهنة الزراعة والرعي للمرة الأولى في حياتهم ونزحوا نحو المدن، مما يهدد موسم الزراعة التقليدية في السودان، فضلاً عن فقدان الثروة الحيوانية نتيجة عمليات النهب والسلب المتكررة لمئات رؤوس المواشي من الضأن والماعز، إضافة إلى تعرض رُعاة كثر للقتل بسبب مقاومة اللصوص والمجموعات المسلحة خلال رحلة التنقل في المراعي.
ويمثل الرعاة رموزاً للثراء والمكانة الاجتماعية في بوادي كردفان ودارفور، ويستفيد نحو 26 مليون سوداني من قطاع الثروة الحيوانية بصورة مباشرة، بحسب بيانات البنك الدولي، وتشكل المهن المرتبطة بهذا القطاع وعلى رأسها التربية والرعي حرفاً أساس لكثير من السودانيين.
ويعتمد ما يزيد على 80 في المئة من سكان القرى على القطاع الزراعي والحيواني لتوفير حاجاتهم.
المواطن عمر إدريس الذي نزح من قرية أم كريدم بولاية شمال كردفان إلى مدينة كوستي قال إن “هجمات ‘الدعم السريع‘ العنيفة على قرى وأرياف الولاية أجبرت آلاف السكان على النزوح إلى المدن الحضرية، على رغم اختلاف البيئة وتفاصيل الحياة اليومية”.
وأضاف أن “أبناءه يواجهون صعوبات عدة في عملية التكيف الاجتماعي إلى جانب قيود المدينة وإرهاقها والشعور بالوحدة والاختناق من ضيق مساحات المنازل”.
وأوضح إدريس أنه “يعمل في مهنة الزراعة لما يقارب الـ30 عاماً، وبعد نزوحه من القرية إلى المدينة بات مضطراً إلى البحث عن عمل جديد لتوفير حاجات أسرته اليومية، بخاصة بعد فقدانه لمدخراته المالية ونهب محاصيله الزراعية”.
من جهته، رأى الطيب حسين الذي نزح من قرية أم عويشة قرب النهود بغرب كردفان إلى مدينة الأبيض أن “إمكان الاستغناء عن العيش في القرى غير ممكن لاعتبارات عدة منها افتقار المدن للسلوك الريفي والتعايش من دون صعوبات، فضلاً عن عدم توفر سبل الراحة النفسية والحصول على دعم ومساندة كافية ممن حولك”.
وأشار إلى أنه خلال ستة أشهر فقط سئم ضجيج المدن وزحامها، بخاصة أنها لم تحقق له الاستقرار النفسي الذي يجده في قريته، وكذلك فشل في “تكوين علاقات اجتماعية عميقة”.
ونوه حسين بأنه “تعرض لخسائر فادحة بعد سرقة قطيع من الإبل يتكون من 60 ناقة و30 جملاً من قبل مسلحين، مما أدى إلى فقدانه لمهنته الأساسية، وبات يعمل في غسل السيارات من أجل توفير المال لإعالة أسرته”. وتابع “المجموعات المسلحة ارتكبت انتهاكات واسعة وجرائم بشعة في قرى ولاية غرب كردفان، شملت القتل والاختطاف ونهب الممتلكات”.
بدوره وصف المواطن الرشيد عبدالله النازح من منطقة الدبيبات بولاية جنوب كردفان إلى مدينة سنجة خيار النزوح إلى المدن بـ”النموذجي”، نظراً إلى توافر الخدمات الأساس من صحة وتعليم وبرامج الترفيه إلى جانب المشاريع الزراعية”.
ونوه عبدالله بأنه “بعد تفكير عميق قرر البقاء في مدينة سنجة مع أسرته والاستقرار لحين انجلاء الأزمة وتوقف الصراع المسلح، علاوة على أهمية التكيف مع حياة المدن وتباين الظروف في البلاد”.
وتابع المتحدث “سيظل الريف هو الطارد طالما ليست هناك مشاريع تنمية حقيقية، لذلك ستتغير نظرة الناس عن المدن، وتحدث تحولات عدة عقب توقف الحرب”.
تهاني إبراهيم التي نزحت من منطقة الخوي بولاية غرب كردفان إلى كسلا أشارت إلى أن “أسرتها لم تستطع الاندماج مع مجتمع المدن وأحوالها المعيشية لم تكن جيدة هناك، علاوة على القيود وعدم وجود فرص عمل”. وأضافت “غالبية سكان القرى والأرياف ليست لديهم خبرات في مجالات أخرى بخلاف الزراعة أو الرعي، وكذلك المهن الهامشية، مما صعب من مهمة التكيف مع نمط الحياة الجديد”.
وتبرر تهاني أفضلية العيش في القرى لوجود “بيئة صحية آمنة على صعيد الهواء النقي والأطعمة الطازجة وتعزيز العلاقات الاجتماعية، فضلاً عن قلة كلفة المعيشة وانعدام المغريات، مما يتيح إمكان توفير مدخرات مالية”.
على النحو ذاته اعتبرت الباحثة الاجتماعية لبنى فاروق أن “النزوح حركة طبيعية وحتمية في زمن الحروب، لكن بالنسبة إلى سكان القرى والأرياف فهي مجرد تجربة جديدة لم تحدث من قبل في السودان، وهي أقرب إلى المغامرة”.
ورداً على سؤال عن الفوارق الطبقية وتأثير ذلك في الاندماج قالت لبنى فاروق إن “عيش حياة جديدة وفي ظروف مختلفة في المدن الكبرى تجربة صعبة للغاية، بخاصة نمط الحياة المتسارع والضوضاء، وكذلك كلف المعيشة، مما يزيد من معدلات الإصابة بالاكتئاب والقلق، خصوصاً مع ظروف الحرب وتفاقم الأوضاع”. وأشارت إلى أن “الكوارث والأزمات من شأنها إحداث تغيير في الإنسان، لا سيما أنه من الممكن أن تفتح آفاقاً جديدة في الحياة، إذ إن بعض المدن السودانية شهدت ازدهاراً بعد تدفقات النازحين، ولا سيما فيما يتعلق بالحركة الاقتصادية، وهو ما ساعد في تفعيل الأنشطة التجارية، فضلاً عن أن هناك بعض المشاريع الصغيرة نشطت مثل الوجبات السريعة والمشروبات الباردة والساخنة”.
اندبندنت عربية