الخرطوم _ محمد مصطفى على عمر
أفرزت الحرب المستمرة في السودان منذ الخامس عشر من أبريل 2023م تداعيات خطيرة على صحة الإنسان، خاصة الأطفال الذين تعرضوا للقتل والتشريد بسبب النزاعات العنيفة في عدد من الولايات.
حيث فقد المواطنون ممتلكاتهم وتعرضوا للتهجير والقتل والنزوح واللجوء إلى دول الجوار. كما فقدت العديد من الأسر عائلها، وانزلقت إلى دائرة الفقر المدقع والحرمان، وتعرض عدد كبير من الفتيات والأطفال لانتهاكات جسيمة مثل القتل والاغتصاب والترهيب، بالإضافة إلى فقدان الحقوق الأساسية.
ظهرت حالات من سوء التغذية الحاد بين الأطفال، مما أدى إلى انتشار الأمراض المختلفة وظهور حالات التقزم، وارتفعت نسبة تعاطي المخدرات بين الأطفال النازحين والمشردين وفاقدي السند، بما فيهم أولئك المتواجدون في مراكز الإيواء وبعض الأحياء السكنية الفقيرة. وكشفت تقارير صادرة عن اللجنة العليا لمكافحة المخدرات عن ارتفاع كبير في نسب تعاطي المخدرات والإدمان بين الأطفال، مع غياب شبه تام لمؤسسات الحماية الاجتماعية خاصة في الولايات التي تشهد قتالاً عنيفاً، الأمر الذي جعل بعض الأطفال مدمنين على الكحول والمخدرات بأنواعها، وظهرت عليهم أعراض أمراض نفسية وعصبية، ما يستدعي تدخل الدولة لإنشاء مراكز لعلاج الإدمان والأمراض النفسية.
توقفت خدمات الصحة النفسية، وخاصة مستشفيات الأمراض النفسية والعصبية المتخصصة التي كانت تتركز سابقاً في ولاية الخرطوم، والتي أُغلقت بسبب الحرب.
وفي وقت سابق، كشفت وزارة الصحة السودانية عن خطتها لتوسيع خدمات العلاج النفسي، غير أن هذه الخطة لم تُنفّذ بالكامل، ولم تُنشأ مستشفيات أو مراكز خاصة لعلاج الأطفال المصابين بالأمراض النفسية، بل اكتفت بالإعلان عن عزمها إنشاء خمس مستشفيات ومراكز صحية متخصصة للعلاج النفسي في الولايات دون الإشارة إلى تخصيصها للأطفال.
اشتكى عدد من المواطنين من ارتفاع تكلفة علاج الأمراض النفسية، حيث لا تقبل المستشفيات والمراكز بطاقة التأمين الصحي، ولا تشمل التغطية علاج الأمراض النفسية، وقد وصلت أقل تكلفة لعلاج مريض نفسي لشهر واحد إلى أكثر من ألفي دولار أمريكي. وقال أحد المواطنين: “مات شقيقي المريض على قارعة الطريق بسبب عدم قدرتي على علاجه”.
ووصّف استشاريو الطب النفسي الوصمة الاجتماعية تجاه من يلجأ للعلاج النفسي ومن يقدم الرعاية لهم بأنها “تمييز سلبي”، فكل طفل يتم إدخاله إلى مستشفى أو مركز للصحة النفسية يُعتبر وصمة عار من قبل المجتمع. وأشاروا إلى تزايد الإصابات النفسية، فيما صنّفت وزارة الصحة الاتحادية تخصص الطب النفسي بأنه من التخصصات النادرة في السودان، إذ كان عدد الاستشاريين 23 فقط قبل اندلاع الحرب، مع تزايد كبير في أعداد المرضى وتراجع الخدمات في المستشفيات المتخصصة، بسبب هجرة الكوادر العاملة وقلة الميزانيات المخصصة.
وقالوا إن مستشفى “التيجاني الماحي” بأم درمان، وهو المستشفى الأول في السودان، كان يستقبل يومياً حوالي 200 مريض قبل الحرب.
وطالب المختصون بإنشاء مستشفيات حكومية تهتم بالصحة النفسية والعقلية، مؤكدين أن الكثير من السودانيين تعرضوا لصدمات نفسية بسبب الانهيار الاقتصادي الناتج عن الحرب.
وقال الدكتور عبد القادر الأمين أبو، الأمين العام للمجلس القومي لرعاية الطفولة، إن قوات الدعم السريع ارتكبت أعمالاً وحشية ضد الأطفال في عدد من الولايات، مشيراً إلى أن تحقيق الصحة النفسية المتكاملة والحياة الكريمة للأطفال يجنّب المجتمع الفاقد التربوي وتفكك الأسر. وأضاف: “لن يهدأ لنا بال حتى تكون المليشيا خارج الساحة”. وتابع: “الحماية الاجتماعية تهدف إلى بناء طفل آمن ومستقر يؤمن بالسلام”.
وأشار أبو إلى أن قاعدة بيانات الطفولة تساعد في تحقيق العدالة للأطفال وتقديم الخدمات لهم، مؤكداً أنها توفر مؤشرات وإحصاءات علمية حول أعداد الأطفال واحتياجاتهم في أنحاء البلاد، مما يسهم في الحد من الاختلالات المجتمعية مستقبلاً. كما أوضح أن العمل يشمل الأطفال فاقدي الرعاية وذوي الإعاقة بالتعاون مع المؤسسات الوطنية المختلفة، وفق منهج علمي يسهم في التنشئة الاجتماعية والتربية الوطنية، خاصة أن الظروف الراهنة فرضت هذه الضرورة.
وكانت وزارة الصحة بولاية الخرطوم قد كشفت في وقت سابق من عام 2023م عن ارتفاع نسبة الإصابة بالأمراض النفسية، معلنة عن خطة لإدخال تخصص الطب النفسي إلى المراكز الصحية، وإدراج خدمات الصحة النفسية ضمن خدمات الرعاية الأولية. وأشارت إلى أن الحالات وصلت إلى 60٪، مع تحول المرض النفسي إلى شكل أمراض مزمنة، بعد أن كانت نسبة الاضطرابات النفسية تتراوح بين 20٪–30٪ قبل عام 2008م. وبيّنت الوزارة أن سبب ارتفاع النسبة يعود إلى تردد المرضى المصابين بالأمراض المزمنة على المراكز الصحية والمستشفيات، وما يرافق ذلك من حالات قلق واكتئاب وضغوط نفسية خاصة على الأطفال نتيجة الانتهاكات.
وكان الدكتور بشار عبد الرحمن، اختصاصي الطب النفسي ورئيس قسم الطب النفسي بمستشفى بورتسودان للأمراض النفسية والعصبية، قد عرض في ورقته حول الوضع الراهن للصحة النفسية أن عدد الأطباء الاختصاصيين العاملين في مجال الطب النفسي بولاية البحر الأحمر بلغ 12 اختصاصياً فقط، مع وجود نقص في الكوادر الطبية المدربة، وعدم توفر أقسام متخصصة لعلاج الأطفال المصابين بأمراض نفسية.
وأشار إلى أن هناك تحديات تواجه تخصص الطب النفسي، أبرزها التمييز تجاه المرضى النفسيين، والمفاهيم الخاطئة المنتشرة في المجتمع حول من يتلقى العلاج النفسي. كما بيّن ضعف توفر الأطباء النفسيين في محليات الولاية، إلى جانب انتشار المخدرات وارتفاع نسب تعاطيها بين الشباب.
ونادى الدكتور بشار بضرورة رفع مستوى الوعي داخل المجتمع، والعمل على تقليل الوصمة الاجتماعية التي تُلاحق المرضى النفسيين أثناء تلقيهم العلاج، داعياً في الوقت ذاته إلى إنشاء مستشفى جديد بسعة 100 سرير.
وتقول أماني حسين، التي كانت تسكن في حي جبرة بمدينة الخرطوم واضطرت إلى النزوح إلى ولاية سنار بسبب الحرب، إن لديها ولدًا وبنتًا يعانيان من مشاكل وأمراض نفسية وعصبية، تتراوح أعمارهما بين 13 و15 عامًا، وكانا يتلقيان العلاج في عيادة الأمراض النفسية والعصبية بالخرطوم. ولكن بسبب الحرب، لم تتمكن من الحصول على الرعاية اللازمة لهما، حيث لا توجد مستشفيات تهتم بالصحة النفسية للأطفال. وتضيف قائلة إن تكاليف علاج الأطفال مرتفعة، ولا تملك الأموال اللازمة لعلاجهم، ولا توجد مستشفيات أو مراكز صحية تهتم بعلاج الأمراض النفسية والعصبية.
أما نادية الطيب، والدة الطفلة نهى أحمد التي تبلغ من العمر عشر سنوات، وكانت تقطن مدينة بحري، فقد اضطرت إلى النزوح إلى ولاية القضارف بسبب الحرب. وتشير إلى أن ابنتها تعاني من مشاكل وأمراض نفسية وعصبية وتحتاج إلى أدوية غالية الثمن ورعاية صحية مستمرة. وكانت سابقًا تتابع حالتها مع طبيب مختص بالصحة النفسية والعصبية، لكن الآن تقطن في قرية نائية بولاية القضارف، وقد ذهبت إلى المدينة عدة مرات دون أن تجد أي مستشفى أو مركز صحي متخصص بعلاج الأطفال المصابين بأمراض نفسية وعصبية، ولم تجد سوى طبيب واحد بمدينة القضارف لديه عيادة خاصة، ولا يوجد أي مركز لعلاج مثل هذه الحالات.
ويقول أحمد الطيب، والد الطفلين التوأمين حسن وحسين، اللذين يعانيان من أمراض نفسية وعصبية وهما في سن التاسعة، إنه نزح مع أسرته من الخرطوم إلى ولاية النيل الأزرق بمدينة الدمازين. ويضيف أنه عانى من انعدام خدمات الرعاية الصحية للأطفال المصابين بأمراض نفسية، حيث ذهب بطفليه إلى المستشفى العام ولم يجد أي اختصاصي أو استشاري في الأمراض النفسية، واضطر للذهاب إلى العيادات الخارجية لاستشاري أمراض نفسية وعصبية، بتكلفة عالية، ولا توجد عنابر أو أسرّة لتنويم الأطفال المصابين بأمراض نفسية وعصبية في ولاية النيل الأزرق.
المصدر: التغيير