آخر الأخبار

المرضى النفسيين بين مطرقة الحرب وسندان الإهمال.. من يسمع صرخة النفوس المقهورة؟

شارك

تقرير: حسين سعد

بينما تتساقط القذائف على المدن، وتُجبر الأسر على الفرار من منازلها، هناك معاناة أخرى أكثر صمتاً، وأكثر عزلة، وأكثر تجاهلاً، إنها معاناة من يعيشون في صراع داخلي لا يقل عن قسوة عن الحرب الخارجية. المرضى النفسيون في السودان، أولئك الذين اختفوا خلف ستائر النسيان خوف الوصمة المجتمعية، وجدران المؤسسات المنهارة، بعد أن دمرت الحرب ما تبقى من رعاية صحية هشة، كانت بالكاد تكفي في أوقات السلم..

طالت الحرب في السودان كل مناحي الحياة، لكنها، تركت أثراً مدمّراً مضاعفاً على من يعانون من إضطرابات نفسية، حيث توقفت خدمات الصحة النفسية في العديد من المناطق، وأغلقت مستشفيات، وفرّ الأطباء، وإنقطعت الإمدادات الدوائية الأساسية، في المقابل، تفاقمت حدة الأعراض لدى المرضى، وازدادت حالات الانتحار والعنف والإهمال الأسري، بينما يُترك الكثيرون يواجهون مصيرهم – لوحدهم – في شوارع المدن أو أطراف مخيمات النزوح.

أصوات تحت أنقاض الحرب

تتداخل في هذه المأساة عوامل متعددة، منها الحرب، الفقر، النزوح، والوصمة المرتبطة بالصحة النفسية، لكن الأكثر قسوة، هو الغياب شبه الكامل لصوت يدافع عن حقوق هؤلاء المرضى، الذين يُفترض أنهم جزء من منظومة حقوق الإنسان، فبحسب المواثيق الدولية، لكل إنسان الحق في الصحة، بما في ذلك الصحة النفسية، والحق في الحصول على العلاج والرعاية الكريمة، بغض النظر عن موقعه أو وضعه الاجتماعي.

غير أن الواقع في السودان يُبرز فجوة فادحة بين تلك المبادئ، وبين ما يُمارس فعلياً على الأرض.. في مدن وقري السودان، ظهرت حالات كثيرة لمرضى نفسيين تائهين، بعضهم كانوا نازحين، وآخرون من نزلاء مستشفيات الخرطوم، تُركوا بلا دعم نفسي، ولا مُهدِّئات، ولا إشراف طبي، يعيشون في ظروف قاسية، عرضة للعنف، والانتهاك، والإهمال… هذه المشاهد تتكرر يومياً، حيث يتعامل المجتمع مع المرضى النفسيين إما بالخوف، أو بالضرب، أو بالتجاهل التام، بينما تغيب الدولة تماماً عن المشهد.

قبل الحرب، كان قطاع الصحة النفسية يعاني من ضعف التمويل، وندرة الكوادر المتخصصة، وتضاؤل المراكز النفسية، أما اليوم، فإن المشهد كارثي، إنعدام شبه كامل للأدوية النفسية في الصيدليات، وإرتفاع أسعارها بشكل يفوق قدرة الأسر، هجرة الأطباء النفسيين خارج البلاد، غياب برامج المتابعة المجتمعية للمرضى خارج المستشفيات، تزايد حالات الإنتحار، والإكتئاب الحاد دون إحصاءات رسمية، بسبب تعطل نظام الرعاية الصحية، ووجود وصمة إجتماعية قوية تجاه المرضي النفسيين، وإغلاق العديد من المستفيات والمراكز، وتحوُّل بعضها لثكنات عسكرية.

وضع مأساوي

تعيش الصحة النفسية في السودان أزمة متفاقمة منذ اندلاع الحرب في أبريل 2023، حيث أدت الأوضاع الأمنية والسياسية المتدهورة إلى معاناة واسعة النطاق بين السكان من إضطرابات نفسية، في وقت تواجه فيه البلاد نقصاً حادّاً في الكوادر الصحية المتخصصة في هذا المجال… وبحسب تقارير من منظمات إنسانية دولية ومحلية، فإن ملايين السودانيين يعانون من آثار الصدمة النفسية، نتيجة فرض واقع النزوح القسري، وفقدان الأحبة، وتدمير المنازل، وإنعدام الاستقرار، وسط بيئة تفتقر إلى الخدمات الأساسية، بما في ذلك، الدعم النفسي والاجتماعي

ويشير أطباء ومختصون إلى أن أكثر الفئات تضرراً هم الأطفال والنساء، حيث إزدادت حالات الإكتئاب، والقلق وإضطراب ما بعد الصدمة في ظل غياب خدمات الرعاية النفسية الأولية .. ويُقدَّر عدد الأطباء النفسيين العاملين حالياً في السودان، ببضع عشرات فقط، معظمهم متمركزون في العاصمة، وبعض المدن الكبرى، بينما يعيش ملايين النازحين في مناطق نائية، أو في معسكرات مكتظة، دون أي نوع من الدعم النفسي. وتفاقمت المشكلة بعد مغادرة عدد من الكوادر الطبية البلاد هرباً من الحرب، أو نتيجة لانهيار النظام الصحي.

يقول أستاذ علم النفس بجامعة بحري عبد الله شوالي: الوضع مأساوي، لا توجد إمكانيات ولا أدوية ولا حتي بيئة آمنة، نحاول أن نقدم ما نستطيع، لكن، الأعداد أكبر من قدرتنا بكثير… وأوضح شوالي في حديثه مع (سودانس ريبورترس) أن عدد الاستشاريين وإختصاصيي الطب النفسي، قبل الحرب كانوا حوالي (23) أغلبهم يعمل في الخرطوم، بمعدل طبيب لكل مائة ألف مواطن، وأشار، إلى وجود مستشفيات تعمل في الطب النفسي، مثل التجاني الماحي، وطه بعشر، والإدريسي، وعدد من المستفيات بالولايات، ولفت إلى عدم تضمين العلاج النفسي في التأمين الصحي، إلّا في فترة “الحكومة الانتقالية”، وذلك، بعد ضغوط من قِبل تجمع المهنيين النفسيين، وفسّر شوالي هجرة الكوادر النفسية، لعدم الإهتمام الحكومي بالصحة النفسية، وضعف المرتبات، وإفتقار بيئة العمل للدعم المطلوب.

وقال عبد الله الشوالي الحرب فاقمت من نسبة وأعداد المرضي النفسيين، وشدّد شوالي، علي ضرورة دعم الصحة النفسية، وتوفير المرتبات المجزية، وتوفير التدريب المواكب، لافتاً إلى وجود نقص حاد في الصحة النفسية، وليس هنالك مراكز متخصصة، والمعلومات القليلة هي جهد لإفراد، وأوضح أن السودان يفتقر للقوانيين، التي تُلزم المؤسسات بنشر دراسات ذات صلة بالصحة النفسية، ولفت الي وجود تحدِّيات تُعرقل عمل الكوادر النفسية، مثل ضعف التمويل، وتوفير الأمن والسلامة، وصعوبة الحركة، والاتصالات، وقال إن إهمال هذا الجانب، ستكون له عواقب وخيمة، على المدى الطويل، خاصة، لدى جيل كامل من الأطفال والشباب، الذين نشأوا في أجواء العنف والدمار… وطالب عبد الله بفتح مراكز رعاية نفسية، في مناطق النزوح، واللجوء، تحت إشراف منظمات طبية موثوقة، وتوفير العلاج النفسي مجاناً، وتدريب كوادر الدعم النفسي.

المواثيق الدولية

وفقًا للإعلان العالمي لحقوق الإنسان، والعهد الدولي الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية، “لكل إنسان الحق في التمتع بأعلى مستوى من الصحة العقلية والجسدية”، وما يحدث للمرضى النفسيين في السودان، يُعد انتهاكاً واضحاً لهذه الحقوق، وهي غياب العلاج، والإهمال الممنهج، والتعرض للوصمة، والانتهاك، وغياب أي خطط حماية، أو دمج في الإغاثة الإنسانية.

من يسمع صمتهم؟

في زمن الحرب، يموت الناس بأنواع مختلفة من الأسلحة، لكن المرضى النفسيين يموتون بصمت، وببطء يموتون بنقص الدواء، بإغلاق المستشفيات، بخوف المجتمع، وبصمت الدولة .. هؤلاء لا يصرخون، لكن، معاناتهم تصرخ في وجه العالم: أين حقي في العلاج ؟ أين حقي في الكرامة ؟من يعيد إليّ عقلي الذي يتوه أكثر كل يوم في بلدٍ أنهكته البنادق، لا يجوز أن يضيع الضعفاء أيضاً في زحام النسيان.

مدنية نيوز

الراكوبة المصدر: الراكوبة
شارك


حمل تطبيق آخر خبر

إقرأ أيضا