في مدينة الأبيض، عاصمة ولاية شمال كردفان، تتفاقم الأزمة الإنسانية بشكل غير مسبوق مع توافد عشرات الآلاف من النازحين خلال الأسابيع الأخيرة، إثر تصاعد المعارك بين القوات المسلحة السودانية وقوات الدعم السريع في مناطق النهود والخوي والقرى الواقعة غرب وجنوب المدينة. هذا النزوح الجماعي، الذي جاء نتيجة مباشرة لانتهاكات موثقة بحق المدنيين وفقًا لتقارير حقوقية وصحفية، أدى إلى تحويل المدارس والمقار العامة إلى مراكز إيواء مؤقتة، باتت مكتظة إلى حد يفوق طاقتها الاستيعابية، في وقت يتزامن فيه موسم الخريف مع تهديدات إضافية من السيول والأمراض المعدية.
المشهد الإنساني في الأبيض يعكس حجم الكارثة المتصاعدة، إذ تشير بيانات مفوضية العون الإنساني إلى أن عدد النازحين في المدينة بلغ نحو 700 ألف شخص، بينهم ما يقارب 135 ألف أسرة، معظمهم فروا من هجمات متكررة نفذتها قوات الدعم السريع على القرى المحيطة. وتؤكد إفادات من متطوعين في غرفة الطوارئ أن موجات النزوح فاقت أربعة أضعاف عدد السكان الأصليين، مع تسجيل تدفقات من ولايات دارفور وغرب وجنوب كردفان، حيث أقام النازحون معسكرات مؤقتة داخل أحياء المدينة، أبرزها معسكر زمزم في حي السلام، الذي استُحدث كامتداد لمعسكر يحمل الاسم ذاته في دارفور.
المراكز التي تستضيف النازحين ليست مجهزة بالأساس لهذا الغرض، إذ تم تحويل المدارس إلى مقرات إيواء طارئة، حيث تُجمع المقاعد في فصل واحد وتُفتح بقية الفصول لاستقبال الأسر، بينما يبيت الرجال في الساحات الخارجية. ويعاني النازحون من نقص حاد في الغذاء، إذ لا تتوفر وجبات ثابتة، وغالبًا ما يحصلون على وجبة واحدة يوميًا من مطابخ التكايا أو مساهمات فردية، فيما تغيب أي آلية منظمة لتوزيع الطعام.
الوضع الصحي في المدينة يزداد سوءًا، مع تفشي الأمراض المعدية داخل مراكز الإيواء، حيث رُصدت حالات إصابة بالكوليرا في عدة مواقع، إلى جانب ظهور حالات حصبة وسوء تغذية بين الأطفال، وأمراض مزمنة بين كبار السن، مثل الضغط والسكري والفشل الكلوي والسرطان. كما تم تسجيل إعاقات حركية وسمعية وبصرية ونفسية تتطلب تدخلًا عاجلًا. منظمة أطباء بلا حدود توفر بعض الأدوية عبر صيدليات محددة، فيما تتولى غرفة الطوارئ تحويل النساء الحوامل إلى مراكز رعاية الأمومة، لكن الإمكانيات تبقى محدودة ولا ترقى إلى الحد الأدنى المطلوب.
مع دخول موسم الأمطار، تتزايد المخاوف من أن تتحول السيول إلى تهديد إضافي، خاصة أن معظم النازحين لا يملكون خيامًا أو مشمعات تقيهم من الطقس. ويطالب المتطوعون بتدخل عاجل من المنظمات الإنسانية، مثل برنامج الأغذية العالمي لسد الفجوة الغذائية، واليونيسف لتعزيز الدعم الصحي، إلى جانب توفير مياه نظيفة وصرف صحي مناسب.
مصدر من الهلال الأحمر السوداني وفق منصة الترا سودان اكد تسجيل حالات إصابة بالحصبة في مركز نازحي النهود والخوي بمدرسة فاطمة سلطان، شملت رجالًا ونساءً وأطفالًا، فيما رُصدت 43 حالة إصابة بالكوليرا في مركزي إيواء مدرستي زاكي الدين والرديف المتوسطة. وفي تقرير صادر بتاريخ 9 أغسطس 2025، أعلنت الإدارة العامة للطوارئ الصحية بوزارة الصحة والتنمية بولاية شمال كردفان استمرار تفشي الكوليرا في مدينة الأبيض ومحيطها، حيث تم تسجيل 55 حالة دخول جديدة إلى عنابر العزل، وبلغ عدد الحالات النشطة 103، فيما وصل العدد التراكمي إلى 10,525 إصابة، بينها 672 حالة وفاة، مقابل 9,750 حالة تعافٍ.
ومنذ إعلان تفشي الكوليرا قبل عام، سجلت وزارة الصحة السودانية حتى 11 أغسطس نحو 99,700 حالة مشتبه بها، فيما تجاوز عدد الوفيات المرتبطة بالمرض 2,470 حالة. وفي محاولة للحد من انتشار العدوى، أطلقت الوزارة، بدعم من منظمة الصحة العالمية واليونيسف، حملة تطعيم واسعة استهدفت معسكرات الإيواء والمناطق عالية الخطورة.
المدير الطبي لمستشفى الأبيض التعليمي، د. إسراء دفع الله، أوضحت أن تزايد أعداد النازحين أدى إلى ارتفاع ملحوظ في معدلات التردد على المستشفى، خاصة قسم الطوارئ، مشيرة إلى أن المستشفى، بحكم كونه مرجعيًا لولايات كردفان ودارفور، قادر على التعامل مع الضغط المتزايد. وأكدت أن الإمداد الدوائي تحسن بشكل كبير منذ فك الحصار عن المدينة، وأن الدعم مستمر من وزارتي الصحة الولائية والاتحادية، إلى جانب تدخلات منظمات إنسانية ومبادرات مجتمعية يقودها أبناء الولاية.
ورغم هذه الجهود، تبقى التحديات قائمة، إذ لا تزال مراكز الإيواء تعاني من الاكتظاظ، ويواجه النازحون نقصًا حادًا في الغذاء والمياه النظيفة والمستلزمات الطبية الأساسية. ويؤكد مراقبون أن استمرار النزوح دون تدخل عاجل قد يؤدي إلى تفاقم الوضع الصحي وانتشار المزيد من الأمراض المعدية، في وقت يواجه فيه النازحون في الأبيض تهديدًا مزدوجًا من النزاع المسلح الذي أجبرهم على الفرار، ومن الأوبئة وسوء الأوضاع المعيشية في أماكن اللجوء، وسط استجابة رسمية ودولية لا تزال محدودة مقارنة بحجم الكارثة.
السودان نيوز