يقدم هذا التقرير تحليلاً شاملاً لمدى تغلغل ونفوذ التيار الإسلامي داخل القوات المسلحة السودانية، مع التركيز على تقدير أعداد المنتمين أو المتعاطفين مع هذا التيار. يجادل التقرير بأن الوجود الإسلامي الحالي ليس ظاهرة عرضية، بل هو النتيجة المباشرة والممنهجة لسياسة “التمكين” التي انتهجها نظام “الإنقاذ” بقيادة عمر البشير على مدى ثلاثة عقود (1989-2019). لقد كانت هذه السياسة مشروعاً استراتيجياً متعمداً لإعادة هيكلة الدولة ومؤسساتها، وفي القلب منها المؤسسة العسكرية، لتتحول من مؤسسة وطنية محترفة إلى حرس أيديولوجي للنظام.
نظراً لغياب السجلات الرسمية التي تصنف الأفراد بناءً على انتمائهم الأيديولوجي، فإن تقديم رقم دقيق ومحدد هو أمر مستحيل. وبدلاً من ذلك، يعتمد هذا التقرير على منهجية تقدير تحليلي متعدد الطبقات، مستنداً إلى تجميع وتقاطع البيانات من مصادر متعددة. يقسم هذا النموذج الوجود الإسلامي داخل الجيش إلى ثلاث طبقات رئيسية:
الطبقة الأولى: الكادر الأساسي (الأمنيون): وهم الأعضاء الملتزمون تنظيمياً بالحركة الإسلامية، والذين تم زرعهم في مواقع قيادية واستخباراتية وإدارية حساسة. يُقدر عددهم ببضعة آلاف (بين 2,000 و 4,000 فرد)، لكن نفوذهم يفوق بكثير حجمهم العددي.
الطبقة الثانية: المقاتلون الأيديولوجيون والوحدات الخاصة: وتشمل الأفراد ذوي الانحياز الأيديولوجي الواضح الذين يقاتلون ضمن وحدات متخصصة، وقد برز دورهم بشكل جلي بعد اندلاع حرب أبريل 2023. تشير التقديرات إلى أن عددهم يتراوح بين 5,000 و 8,000 مقاتل نشط.
الطبقة الثالثة: المستفيدون والمتأثرون أيديولوجياً: وهي الطبقة الأوسع والأكثر انتشاراً، وتتكون من الضباط والجنود الذين تم تجنيدهم وترقيتهم خلال حقبة “التمكين”. ولاء هذه الشريحة ليس بالضرورة تنظيمياً، ولكنه ينبع من كون مسارهم المهني نتاجاً لهذا النظام. يُقدر عددهم بشكل متحفظ بما يتراوح بين 20,000 و 45,000 فرد.
بناءً على هذا النموذج، يخلص التقرير إلى أن إجمالي الوجود الإسلامي داخل القوات المسلحة السودانية، بكافة درجاته، يتراوح تقديرياً بين 27,000 و 57,000 فرد. ويكشف التحليل أن حرب أبريل 2023 لم تكشف عن عمق هذا الوجود فحسب، بل أدت إلى إعادة إحيائه وتفعيله بشكل كبير، حيث اضطرت قيادة الجيش للاعتماد على هذه العناصر المنظمة والمتحفزة لمواجهة قوات الدعم السريع. هذا الواقع الجديد يمثل العقبة الأكبر أمام أي محاولة مستقبلية لإصلاح القطاع الأمني، أو الانتقال إلى حكم مدني ديمقراطي، ويحمل في طياته تداعيات استراتيجية عميقة على مستقبل السلام والاستقرار في السودان.
لم يكن انقلاب 30 يونيو 1989، الذي أوصل العميد عمر البشير إلى السلطة، مجرد استيلاء عسكري تقليدي على الحكم كما شهد السودان في السابق. بل كان تتويجاً لمشروع طويل الأمد ومنظم قادته “الجبهة الإسلامية القومية”، وهي الواجهة السياسية للحركة الإسلامية في السودان، بهدف السيطرة على مفاصل الدولة وإعادة تشكيلها بالكامل وفقاً لرؤيتها الأيديولوجية. على عكس الانقلابات السابقة في تاريخ السودان، مثل انقلاب الفريق إبراهيم عبود عام 1958 أو العقيد جعفر النميري عام 1969، والتي كانت في جوهرها ذات طابع سياسي أو عسكري بحت، كان انقلاب 1989 فريداً من نوعه لكونه انقلاباً أيديولوجياً بامتياز.
كانت الجبهة الإسلامية القومية تنظر إلى مؤسسات الدولة القائمة، وعلى رأسها القوات المسلحة السودانية ذات التقاليد المهنية الموروثة عن الإدارة البريطانية، باعتبارها عقبة رئيسية أمام تحقيق مشروعها “الحضاري”. فالجيش، بتكوينه الوطني، كان يمثل تهديداً محتملاً لأي نظام شمولي يسعى لفرض أيديولوجية معينة. ولم تكن هذه هي المحاولة الأولى للحركة الإسلامية لاختراق المؤسسة العسكرية؛ فقد سبق وأن دعمت محاولة انقلابية فاشلة في نوفمبر 1959، مما يكشف عن طموحاتها المبكرة للسيطرة على هذه المؤسسة الحيوية.
يكمن الفرق الجوهري في أن الحكام العسكريين السابقين كانوا يسعون للتحالف مع شركاء مدنيين لتثبيت حكمهم، أما الجبهة الإسلامية القومية فقد عكست المعادلة؛ فهي كحزب مدني منظم استخدمت مجموعة من الضباط الموالين لها كأداة للوصول إلى السلطة. لم يكن الهدف هو الحكم مع الجيش، بل الحكم من خلال جيش يتم تفكيكه وإعادة بنائه لخدمة أهداف الحزب. هذا التحول في ديناميكيات العلاقات المدنية-العسكرية يمثل نقطة فارقة في تاريخ السودان، حيث لم تعد القوات المسلحة حكماً محايداً في السياسة، بل تحولت إلى طرف فاعل ومسيس، وأداة رئيسية في يد مشروع أيديولوجي مدني. هذا الفهم هو المدخل الضروري لتحليل سلوك المؤسسة العسكرية في كل المراحل اللاحقة، بما في ذلك ثورة 2019 وانقلاب 2021 وحرب 2023.
فور نجاح الانقلاب، كان الهدف الاستراتيجي الأول والأكثر إلحاحاً للنظام الجديد هو تحويل القوات المسلحة السودانية من مؤسسة قومية إلى “جيش عقائدي” أو حرس بريتوري موالٍ للنظام. ولتحقيق هذا الهدف، اتبع النظام استراتيجية مزدوجة ومتزامنة: أولاً، تطهير الجيش من الضباط المحترفين الذين يُشتبه في ولائهم للنظام الجديد. وثانياً، بناء هياكل عسكرية وشبه عسكرية موازية تكون ولاءها المباشر للحزب الحاكم وأيديولوجيته.
بدأت عملية “إعادة التنظيم والتأهيل العقائدي” للجيش على الفور، حيث أصبح الولاء الحزبي والانتماء الأيديولوجي هو المعيار الأساسي للبقاء والترقي داخل المؤسسة العسكرية. لقد كانت هذه الخطوة هي التطبيق العملي الأول لما سيعرف لاحقاً بسياسة “التمكين”، والتي سيتم تفصيلها في القسم التالي. كان الهدف هو ضمان السيطرة الكاملة على القوة الصلبة للدولة، وتحييد أي قدرة للجيش على القيام بانقلاب مضاد، وتحويله إلى أداة قمعية فعالة ضد أي معارضة داخلية، وقوة مقاتلة في الحروب الأهلية التي كان النظام يضفي عليها طابعاً جهادياً.
لم تكن سياسة “التمكين” مجرد ممارسة للمحسوبية أو توظيف الأقارب والموالين، بل كانت استراتيجية دولة ممنهجة وشاملة، تم تصميمها لضمان هيمنة حزب “المؤتمر الوطني” الحاكم (الاسم الجديد للجبهة الإسلامية القومية) على كافة مفاصل الدولة والمجتمع. جوهر هذه السياسة هو الإحلال المنظم لأعضاء الحزب الموثوقين في كل المناصب الحيوية داخل الجهاز البيروقراطي للدولة، والقطاع الاقتصادي، والمؤسسات الخدمية، والأهم من ذلك كله، داخل الأجهزة الأمنية والعسكرية. لقد كانت “التمكين” هي الهندسة المعمارية القانونية والإدارية التي استخدمها النظام لبناء “دولة عميقة” موازية للدولة الرسمية، يكون ولاؤها الأول والأخير للحزب وليس للوطن.
لإضفاء شرعية شكلية على هذه العملية، قام نظام الإنقاذ بسن قوانين وإصدار توجيهات إدارية سهلت عملية فصل الموظفين والكوادر غير الموالين للنظام، وتعيين عناصر الحزب بدلاً عنهم. تم ذلك تحت مسميات فضفاضة مثل “الإحالة للصالح العام” أو “إعادة الهيكلة”. هذه الإجراءات خلقت غطاءً قانونياً لما كان في حقيقته عملية تطهير سياسي واسعة النطاق شملت كل قطاعات الدولة.
والدليل الأبرز على الطبيعة الممنهجة لهذه السياسة هو تشكيل “لجنة تفكيك نظام الثلاثين من يونيو 1989 وإزالة التمكين” بعد ثورة ديسمبر 2019. إن المهام التي أُنيطت بهذه اللجنة، والتي نص عليها قانون خاص، كانت بمثابة صورة معكوسة لأهداف سياسة التمكين الأصلية. فقد تضمنت صلاحيات اللجنة حل حزب المؤتمر الوطني وواجهاته، ومصادرة أصوله، وإنهاء خدمة كل من حصل على وظيفة عبر التمكين. وهذا يثبت أن “التمكين” لم يكن ممارسات فردية، بل كان مشروعاً مؤسسياً له هياكله وأدواته القانونية والإدارية.
لقد أدت هذه السياسة إلى خلق نظام موازٍ للولاء والمكافأة يتجاوز الهياكل الرسمية للدولة ومعايير الكفاءة والجدارة. أصبح التقدم الوظيفي للفرد لا يعتمد على قدراته المهنية وخبرته، بل على درجة ولائه الأيديولوجي والتزامه التنظيمي تجاه الحزب الحاكم. هذا الواقع خلق هيكلاً مزدوجاً للحوافز: هيكل رسمي يعتمد على لوائح الخدمة المدنية والعسكرية، وهيكل غير رسمي ولكنه الأقوى، يعتمد على الولاء للحزب. كانت النتيجة الحتمية على المدى الطويل هي التدهور المنهجي للقدرات المؤسسية للدولة. وكان هذا التدهور مدمراً بشكل خاص في مؤسسة معقدة مثل الجيش، حيث تعتبر المهنية والتسلسل القيادي الواضح والانضباط من ضرورات وجودها. لقد ضحى نظام “الإنقاذ” عمداً بالفعالية العسكرية من أجل ضمان الموثوقية السياسية، وهو ما يساعد على تفسير بعض الإخفاقات الاستراتيجية والتكتيكية التي عانت منها القوات المسلحة في الحرب الحالية.
كانت “الإحالة للصالح العام” هي الآلية الرئيسية التي استخدمها نظام الإنقاذ لتنفيذ أكبر عملية تطهير في تاريخ القوات المسلحة السودانية. هذا المصطلح الفضفاض والمطاط استُخدم كذريعة للتخلص من آلاف الضباط وضباط الصف والجنود المحترفين الذين كان يُشتبه في عدم ولائهم للنظام الإسلامي الجديد، أو الذين كانوا يشكلون بحكم كفاءتهم وخبرتهم مراكز قوى محتملة داخل الجيش. استمرت هذه السياسة بشكل متقطع حتى بعد سقوط النظام في 2019، حيث كانت قرارات الإحالة للتقاعد تُفسر في كثير من الأحيان على أنها جزء من صراعات النفوذ بين الأجنحة المختلفة داخل الجيش، بما في ذلك التيار الإسلامي المتجذر. وتوضح قضية الملازم أول محمد صديق، الذي تمت إحالته للتقاعد بعد الثورة بسبب مواقفه، كيف تستخدم المؤسسة العسكرية لوائحها الداخلية لتبرير قرارات قد تكون ذات دوافع سياسية.
كانت عملية التطهير بمثابة قطع استراتيجي لرأس الهرم المهني في الجيش. تشير التقديرات إلى أنه تم الاستغناء عن خدمات ما يقدر بنحو 30,000 من أفراد القوات المسلحة، من بينهم حوالي 8,000 من الضباط وضباط الصف. الأهم من العدد هو نوعية المستهدفين؛ فقد ركزت حملات التطهير بشكل خاص على الأسلحة الفنية والحيوية التي تشكل العمود الفقري لأي جيش حديث، مثل سلاح المدرعات، وسلاح الإشارة، وسلاح المهندسين، والسلاح الطبي.
لم يكن استهداف هذه الوحدات الفنية تحديداً عشوائياً، بل كان خياراً استراتيجياً مدروساً يهدف إلى تحييد قدرة الجيش على القيام بأي عمل مستقل أو التخطيط لانقلاب عسكري. فالسيطرة على الاتصالات (سلاح الإشارة) والقدرة الهجومية (سلاح المدرعات) هي من ضرورات نجاح أي انقلاب. من خلال تفريغ هذه الوحدات من كوادرها المحترفة، لم يقم النظام فقط بإزالة الضباط غير الموالين، بل قام بتجريد الجيش من قدرته على العمل كقوة متماسكة ومستقلة يمكن أن تشكل تهديداً للنظام. هذا الإجراء خلق حالة من الاعتمادية على القوات الموازية التي أنشأها النظام (مثل قوات الدفاع الشعبي ولاحقاً قوات الدعم السريع) وعلى الضباط الجدد الذين تم اختيارهم على أساس الولاء الأيديولوجي، مما رسخ سيطرة النظام بشكل كامل. لقد كانت هذه استراتيجية محكمة لـ”تحصين النظام ضد الانقلابات”، لكنها في النهاية زرعت بذور التفتت والصراع المستقبلي.
الفراغ الذي خلفته عمليات التطهير تم ملؤه بشكل منهجي ومدروس. أصبح القبول في الكليات العسكرية والترقي في الرتب المختلفة يعتمد بشكل أساسي على الفحص الأيديولوجي والولاء للجبهة الإسلامية القومية وحزب المؤتمر الوطني لاحقاً. على مدى ثلاثة عقود، تم تشكيل أجيال متعاقبة من الضباط الذين يدينون بمسارهم المهني للنظام الإسلامي. هذا الأمر خلق طبقة واسعة من الضباط الذين ارتبط مصيرهم بمصير النظام، مما ضمن درجة عالية من الولاء أو على الأقل التعاطف السلبي. إن المطالبات التي ظهرت بعد ثورة 2019 بضرورة إصلاح المؤسسة العسكرية وضمان أن يكون القبول في الكلية الحربية مبنياً على المعايير المهنية وليس الانتماء الحزبي، هي اعتراف مباشر بعمق هذه المشكلة التي استمرت لثلاثين عاماً.
فور نجاح انقلاب 1989، سارع النظام الجديد إلى إنشاء “قوات الدفاع الشعبي” كقوة شبه عسكرية لها تفويض أيديولوجي واضح، يتلخص في شعارها: “جهاد، نصر، شهادة”. تم تصميم هذه القوات على غرار الحرس الثوري الإيراني، لتكون الذراع العسكرية للحزب الحاكم. كانت أهدافها متعددة: أولاً، تسليح القاعدة المدنية لحزب المؤتمر الوطني وتدريبها عسكرياً. ثانياً، خلق احتياطي ضخم من المقاتلين الملتزمين أيديولوجياً يمكن استخدامهم في الحروب الأهلية خارج الهيكل الرسمي للجيش. وثالثاً، العمل كقوة موازنة للجيش النظامي لضمان عدم قدرته على تهديد النظام.
تضخمت أعداد قوات الدفاع الشعبي بشكل كبير على مر السنين. فبينما قدرت بعض التقارير في عام 2004 قوامها بـ 10,000 عنصر فاعل وأكثر من 85,000 في الاحتياط ، كانت طموحات النظام تهدف إلى رفع العدد إلى مليون مجند. وفي إحدى الولايات وحدها (غرب كردفان)، زعم أحد قادتها وجود 104,000 “مجاهد”. اعتمدت هذه القوات بشكل كبير على تجنيد المليشيات القبلية، وعملت كقوة احتياطية للقوات المسلحة، حيث تم نشرها جنباً إلى جنب مع وحدات الجيش النظامي ضد حركات التمرد المختلفة، خاصة في جنوب السودان. كان التدريب الذي يتلقاه أفرادها يركز بشكل كبير على التلقين الأيديولوجي والعقائدي إلى جانب التدريب العسكري الأساسي على الأسلحة الخفيفة.
لم تكن قوات الدفاع الشعبي مجرد جيش موازٍ، بل عملت أيضاً كقناة حيوية لضخ العناصر المؤدلجة في شرايين الجيش النظامي. فالأفراد الذين أثبتوا ولاءهم وحماسهم الأيديولوجي في صفوف الدفاع الشعبي كان يتم دمجهم في كثير من الأحيان في وحدات القوات المسلحة، مما عزز السيطرة الإسلامية على الجيش من القاعدة إلى القمة.
إن إنشاء قوات الدفاع الشعبي كان بمثابة بوليصة تأمين طويلة الأجل للنظام. لقد حققت ثلاثة أهداف استراتيجية في آن واحد: (1) توفير وقود بشري مؤدلج للحروب المكلفة، مما يحافظ على الجيش النظامي من الاستنزاف. (2) العمل كثقل موازن لأي تمرد محتمل من داخل المؤسسة العسكرية التقليدية. (3) خلق قاعدة مدنية ضخمة، مدربة ومسلحة، يمكن تعبئتها للدفاع عن النظام، مما أدى إلى طمس الخطوط الفاصلة بين الدولة والحزب. هذه الاستراتيجية المتمثلة في بناء قوات موازية سيتم تكرارها لاحقاً مع إنشاء قوات الدعم السريع، وهو قرار أدى في نهاية المطاف إلى نتائج عكسية كارثية واندلاع الحرب الحالية. يمكن القول إن قوات الدفاع الشعبي كانت هي النموذج الأولي الذي بُنيت عليه قوات الدعم السريع.
بداية حقبة حكم الإنقاذ التي استمرت 30 عاماً، وإطلاق مشروع “التمكين”.
1989تأسيس قوات الدفاع الشعبي.إنشاء جيش موازٍ ومؤدلج ليكون الذراع العسكري للحزب وحارساً للنظام.
1989-1995حملات التطهير الكبرى (“الإحالة للصالح العام”).فصل ما يقدر بـ 30,000 من أفراد الجيش، بينهم 8,000 ضابط وضابط صف، لتفريغ الجيش من الكوادر المهنية.
عقد 1990تشريع قوانين تدعم التمكين.إضفاء غطاء قانوني على عمليات الفصل والتوظيف على أساس الولاء الحزبي في كل مؤسسات الدولة بما فيها الجيش.2013تشكيل قوات الدعم السريع رسمياً.تكرار استراتيجية القوات الموازية، ولكن بتركيز أكبر على المليشيات القبلية، مما خلق مركز قوة جديداً.
2019ثورة ديسمبر وسقوط نظام البشير.نهاية حكم الإنقاذ رسمياً، وبداية فترة انتقالية تهدف إلى تفكيك إرثه.2019تشكيل “لجنة إزالة التمكين”.بدء محاولة مؤسسية لتفكيك الدولة العميقة التي بناها النظام على مدى 30 عاماً.
2021انقلاب 25 أكتوبر بقيادة عبد الفتاح البرهان.تجميد عمل لجنة إزالة التمكين، مما اعتبر انتصاراً للدولة العميقة وحماية لإرث التمكين داخل الجيش.
2023اندلاع الحرب بين الجيش وقوات الدعم السريع.اعتماد الجيش بشكل كبير على الكتائب الإسلامية المنظمة، مما أدى إلى عودة نفوذهم إلى الواجهة بقوة.
2023-2024ظهور كتائب إسلامية مقاتلة (مثل كتيبة البراء بن مالك).تجسيد علني لعودة الإسلاميين كقوة عسكرية فاعلة ومؤثرة على الأرض تحت مظلة الجيش.
لا بد من الإقرار في البداية بصعوبة تقديم رقم دقيق ومؤكد لأعداد الإسلاميين داخل القوات المسلحة السودانية. فلا توجد سجلات رسمية تصنف الأفراد حسب انتمائهم السياسي أو الأيديولوجي، كما أن مصطلح “إسلامي” نفسه يضم طيفاً واسعاً من درجات الالتزام، من العضوية التنظيمية الصارمة إلى مجرد التعاطف أو الاستفادة من النظام السابق. لذلك، يعتمد هذا التقييم على تقدير تحليلي مبني على تقاطع المعلومات من مصادر مختلفة، وتصنيف هذا الوجود إلى طبقات متمايزة من حيث درجة الانتماء والنفوذ. سيتم استخدام الحجم الإجمالي للقوات المسلحة السودانية، والذي يتراوح تقديرياً بين 100,000 و 150,000 فرد، كخط أساس لحساب النسب المئوية.
تشير هذه الطبقة إلى النخبة الأيديولوجية الصلبة، وهم الأعضاء الملتزمون تنظيمياً بالحركة الإسلامية الذين تم زرعهم بشكل متعمد ومدروس في المواقع الأكثر حساسية داخل الجيش، مثل الاستخبارات العسكرية، والتوجيه المعنوي، والمناصب القيادية والإدارية الرئيسية. هؤلاء يشكلون العمود الفقري والعصب الحساس للوجود الإسلامي داخل القوات المسلحة. دورهم ليس قتالياً بالدرجة الأولى، بل هو دور توجيهي ورقابي لضمان توافق قرارات المؤسسة العسكرية مع أهداف الحركة الإسلامية. على الرغم من عدم وجود رقم مباشر لهم، يمكن الاستدلال على وجودهم من خلال سيطرتهم المستمرة على إدارات رئيسية ومن خلال دورهم في الصراعات على النفوذ التي أعقبت عام 2019. يُرجح أن عددهم يقع في نطاق الآلاف المنخفضة (تقديرياً بين 2,000 و 4,000 فرد)، لكن تأثيرهم يتجاوز بكثير عددهم المحدود.
تضم هذه الطبقة الأفراد الذين قد لا يكونون بالضرورة أعضاءً أساسيين في التنظيم، لكنهم يتبنون الأيديولوجية الإسلامية بشكل واضح ويقاتلون بحماس في وحدات قتالية متخصصة. أدت حرب أبريل 2023 إلى إبراز هذه الطبقة بشكل كبير وجعلها أكثر وضوحاً للعيان. وهنا تتوفر تقديرات رقمية أكثر تحديداً:
تشير مصادر إلى أن الشبكات الإسلامية دعمت الجيش بما يتراوح بين 2,000 و 3,000 مقاتل خلال السنة الأولى من الحرب.
يقدر مصدر عسكري آخر عدد المقاتلين المرتبطين مباشرة بحزب المؤتمر الوطني المحلول بحوالي 5,000 عنصر.
يتركز هؤلاء المقاتلون في وحدات أثبتت فاعلية قتالية عالية، مثل “قوات العمل الخاص”، ولواء نخبة أعيد تشكيله ويتبع جهاز المخابرات العامة.
برزت أيضاً وحدات شبه مستقلة مثل “كتيبة البراء بن مالك” كنموذج للوحدات الإسلامية التي تقاتل تحت إمرة الجيش ولكن بهوية أيديولوجية واضحة.
بناءً على هذه المعطيات، يمكن تقدير حجم هذه الطبقة من المقاتلين النشطين والمتحفزين أيديولوجياً بما يتراوح بين 5,000 و 8,000 فرد.
هذه هي الطبقة الأكبر والأكثر صعوبة في تحديد حجمها بدقة. تتكون من الضباط والجنود الذين تم تجنيدهم وترقيتهم وتشكيل وعيهم العسكري خلال العقود الثلاثة من حكم “الإنقاذ”. ليس كل أفراد هذه الشريحة هم من الإسلاميين الملتزمين، لكن مسيرتهم المهنية بأكملها هي نتاج نظام “التمكين”، مما يخلق لديهم درجة من التعاطف، أو الولاء السلبي، أو على الأقل الخوف من أي تغيير قد يهدد مواقعهم. لقد خضع هؤلاء لثلاثة عقود من التوجيه المعنوي المكثف الذي صاغته أيديولوجية النظام. وبالنظر إلى أن جيلاً كاملاً من ضباط الجيش قد تشكل ضمن هذا النظام، فمن المنطقي افتراض أن نسبة كبيرة من إجمالي قوام الجيش تقع ضمن هذه الفئة. يمكن تقدير حجم هذه الطبقة بشكل متحفظ بما يتراوح بين 20% إلى 30% من إجمالي قوام القوات المسلحة، أي ما يعادل 20,000 إلى 45,000 فرد، بدرجات متفاوتة من التماهي الأيديولوجي.
من خلال تجميع التقديرات من الطبقات الثلاث، يمكن تكوين صورة شاملة للوجود الإسلامي داخل القوات المسلحة.
يقدم هذا النموذج متعدد الطبقات إجابة أكثر دقة وفائدة من مجرد رقم واحد. فهو يميز بوضوح بين “العقل” المسيطر (الطبقة الأولى)، و”القبضة” الضاربة (الطبقة الثانية)، و”الجسد” الأوسع من المتعاطفين (الطبقة الثالثة)، مما يوفر إطاراً متطوراً لفهم طبيعة وعمق النفوذ الإسلامي، وهو أمر ضروري لأي تحليل سياسي أو تقييم للمخاطر.
بعد نجاح ثورة ديسمبر 2019، شُكلت “لجنة إزالة التمكين ومحاربة الفساد واسترداد الأموال” في ديسمبر من نفس العام. كانت هذه اللجنة هي الأداة الرئيسية للحكومة الانتقالية لتفكيك الإمبراطورية السياسية والاقتصادية التي بناها حزب المؤتمر الوطني، والتي كانت متشابكة بشكل وثيق مع القطاع الأمني. اتخذت اللجنة قرارات جريئة، شملت حل الحزب الحاكم السابق، ومصادرة أصول ضخمة، وإنهاء خدمة مئات الموظفين الذين تم تعيينهم عبر سياسة التمكين في مختلف مؤسسات الدولة.
كان عمل اللجنة، خاصة عندما بدأت تقترب من ملفات الشركات الاقتصادية الضخمة التابعة للجيش والأمن والتعيينات داخل هذه المؤسسات، يُنظر إليه على أنه تهديد وجودي من قبل القيادة العسكرية والعناصر الإسلامية المتجذرة داخلها. بدأ التوتر يتصاعد بين المكون المدني في السلطة (الذي تمثله اللجنة) والمكون العسكري. ظهرت اتهامات للقيادة العسكرية بالتدخل لحماية شخصيات من النظام البائد ، وجدد قائد الجيش رفضه لمناقشة القوى السياسية لشؤون الجيش. بلغ الصراع ذروته عندما تم سحب القوات العسكرية المكلفة بحماية مقار اللجنة وأصولها المستردة، في خطوة اعتبرت تصعيداً خطيراً.
لم يكن انقلاب 25 أكتوبر 2021 مجرد استيلاء على السلطة، بل كان ثورة مضادة استباقية قادتها “الدولة العميقة” لحماية إرث “التمكين” الذي استمر 30 عاماً. كانت لجنة إزالة التمكين هي المحفز الذي أجبر هذه الدولة العميقة على التحرك. فعمل اللجنة كان يهدد بشكل مباشر الهياكل الاقتصادية والبشرية التي بنيت داخل الجيش والأمن كجزء أساسي من منظومة التمكين. مقاومة القيادة العسكرية لعمل اللجنة وإعاقتها له، ثم جعل تجميد عملها أحد أول قرارات الانقلاب ، يؤكد أن الانقلاب كان بمثابة رد فعل مناعي من الدولة العميقة ضد تهديد وجودي. لقد اختارت هذه القوى التضحية بالانتقال الديمقراطي الهش للحفاظ على هيكل سلطتها الراسخ. ويمكن النظر إلى الحرب مع قوات الدعم السريع، التي اندلعت بعد 18 شهراً، على أنها الانفجار العنيف للتناقضات الكامنة داخل هذه الدولة العميقة نفسها.
خلق اندلاع الحرب بين القوات المسلحة السودانية وقوات الدعم السريع في أبريل 2023 ديناميكية جديدة تماماً. في مواجهة تهديد وجودي ونقص في القوة البشرية، لجأت قيادة الجيش إلى حلفائها الأكثر تنظيماً وتحفيزاً: الإسلاميين. أدى هذا إلى عودة دراماتيكية وعلنية لنفوذهم. فبينما يتم تأطير مشاركتهم على أنها استجابة لنداء التعبئة العامة، فإن تنظيمهم في كتائب قتالية فعالة وشبه مستقلة يظهر وجود بنية تحتية عسكرية مسبقة كانت كامنة وتنتظر اللحظة المناسبة للظهور. هذه العودة القوية للإسلاميين إلى المشهد العسكري والسياسي تعقد بشكل كبير أي جهود مستقبلية للانتقال إلى حكم مدني. وحتى التغييرات الأخيرة التي أجراها الفريق البرهان في قيادة الجيش، يُنظر إليها من قبل بعض المحللين على أنها محاولة لإدارة أو موازنة النفوذ المتزايد لهذه الفصائل الإسلامية التي أصبح يعتمد عليها بشكل كبير.
إن اعتماد القوات المسلحة السودانية على المليشيات الإسلامية في الحرب الحالية، وهو إرث مباشر لاستراتيجية “التمكين” المتمثلة في خلق قوات موازية، يؤدي إلى تسريع تفتيت الدولة السودانية. قد تحقق القوات المسلحة انتصارات تكتيكية بمساعدة هذه الكتائب، ولكنها تفعل ذلك بتكلفة استراتيجية باهظة تتمثل في فقدان تماسكها المؤسسي وتقويض مستقبل استقرار الدولة. فكل مجموعة مسلحة تقاتل اليوم إلى جانب الجيش ستطالب غداً بحصة في السلطة والثروة، مما يمهد الطريق لمزيد من الصراعات.
إن عودة نفوذ فصيل إسلامي متشدد، اكتسب خبرة قتالية وأثبت فاعليته على الأرض، يجعل أي انتقال مستقبلي إلى حكومة ديمقراطية بقيادة مدنية أمراً بالغ الصعوبة. من المرجح أن يقاوم هذا الفصيل بشدة أي محاولات لإصلاح القطاع الأمني، والتي سيعتبرها حتماً محاولة متجددة لتفكيك نفوذه وسلطته. هذا الواقع يضع أي حكومة مدنية قادمة أمام خيارين أحلاهما مر: إما مواجهة هذا التيار عسكرياً، أو مهادنته ومنحه دوراً في مستقبل السودان.
إن الصعود المتجدد لنفوذ الإسلاميين داخل الجيش السوداني يعقد علاقات السودان مع الأطراف الإقليمية والدولية الرئيسية التي تبدي قلقاً من الحركات الإسلامية. قد يؤدي هذا إلى مزيد من العزلة الدولية للسودان، ويفتح الباب أمام منافسة بالوكالة على الأراضي السودانية، حيث قد تدعم أطراف إقليمية مختلفة جهات متعارضة داخل السودان، مما يطيل أمد الصراع ويزيد من تعقيده.
يخلص هذا التقرير إلى أن سياسة “التمكين” لم تكن مجرد فساد إداري، بل كانت مشروعاً ناجحاً على مدى 30 عاماً لإعادة التشكيل الأيديولوجي للدولة، وخلفت وراءها مكوناً إسلامياً متجذراً وذا حجم كبير داخل القوات المسلحة السودانية. ورغم أن الأرقام الدقيقة تظل بعيدة المنال، فإن الإطار التحليلي الذي يقسم هذا الوجود إلى كادر أساسي، ومقاتلين أيديولوجيين، وقاعدة واسعة من المستفيدين والمتعاطفين – والذي يقدر إجماليه بما يتراوح بين 27,000 و 57,000 فرد – يوفر نموذجاً قوياً لفهم حجم التحدي وعمقه.
لقد كشفت الحرب التي اندلعت في أبريل 2023 عن مدى هذا الوجود، والأهم من ذلك أنها أدت إلى إعادة إحيائه وتفعيله بشكل لم يسبق له مثيل. أصبح الإسلاميون اليوم قوة لا يمكن تجاهلها على الأرض، وشريكاً لا غنى عنه لقيادة الجيش في حربها الوجودية. هذا الواقع الجديد لا يعقد فقط حسابات الحرب الحالية، بل يلقي بظلال كثيفة على مستقبل السودان، ويشكل عقبة هائلة أمام آمال السودانيين في تحقيق السلام والاستقرار وبناء دولة مدنية ديمقراطية.