كشفت إحصاءات رسمية صادرة عن القضاء السوداني، اطلعت عليها “سودان تربيون”، عن صدور أكثر من 50 حكمًا بالإعدام خلال يوليو الماضي فقط، ضد متهمين بالتعاون مع قوات الدعم السريع في مناطق خاضعة لسيطرة الجيش، فيما وثقت تقارير وشهادات مئات الإعدامات الميدانية التي نفذتها قوات الدعم السريع في ولايات عدة منذ اندلاع الحرب.
وتشير الإحصاءات إلى أن المحاكم أصدرت في يوليو وحده 51 حكمًا بالإعدام في قضايا مرتبطة بالتعاون مع الدعم السريع. تصدرت ولاية الجزيرة القائمة بـ 23 حكمًا، بينها حكم واحد في الحصاحيصا، تلتها الخرطوم بـ 13 حكمًا، منها 10 في أم درمان و3 في بحري. كما سجلت مدينة الأبيض بشمال كردفان خمسة أحكام، وولاية نهر النيل ثلاثة أحكام، منها اثنان في الدامر وواحد في شندي. وأصدرت محاكم سنار حكمين بالإعدام، إضافة إلى حكم واحد في مروي بالشمالية، وحكمين في بورتسودان، وحكم واحد في القضارف.
أكبر حكم جماعي شمل عشرة أشخاص صدر في 13 يوليو الماضي، بينما أُدين أربعة أشخاص دفعة واحدة في 16 يوليو. وتشمل التهم الموجهة للمدانين التواجد في مناطق كانت تسيطر عليها قوات الدعم السريع، ونشر مقاطع فيديو أو تعليقات مؤيدة لها عبر الهواتف المحمولة ووسائل التواصل الاجتماعي.
وفي سياق ذلك، طالت الأحكام أيضًا وفق مصادر خاصة لـ«سودان تربيون»، ما يعرف بالمستنفرين الذين التحقوا أو اجبروا على التعامل مع الدعم السريع.
وقال مُدانان، تواصلت معهما «سودان تربيون» عبر وسيط ، إن أحدهما أُدين لنشره صورًا ومقاطع فيديو على هاتفه تُظهر انتصارات الدعم السريع، والآخر لنشره تعليقات مؤيدة للحرب ضد الإسلاميين والجيش في مجموعة على مواقع التواصل الاجتماعي. وحُكم عليهما بالإعدام من قِبَل القضاء في ولاية الجزيرة.
ولم يبدِ المحكومون أي خوف من عقوبة الإعدام، واتفقوا على أن الحرب في السودان ليست كما تصورها الحكومة في بورتسودان، بل هي في نظرهم عودة إلى نظام المؤتمر الوطني.
واعتبروا الأحكام سياسية، وليست قضائية، لأنهم “لم يخونوا ثورة ديسمبر أو ينقضوها”- على حد قولهم.
وتشير وقائع الحكم عليهم، حسب رواياتهم، إلى أنهم كانوا في طريقهم من شمال السودان إلى ولاية الجزيرة بعد انسحاب قوات الدعم السريع وسيطرة الجيش والمجموعات المتحالفة معها.
وقالوا إنه بعد يومين من وصولهم، وأثناء تجولهم في أحد اسواق ود مدني، أوقفتهم ما يسمى بالخلية الأمنية، وتم التحقيق معهم وتفتيش هواتفهم، ومن ثم تحويلهم إلى النيابة والمحكمة بسبب المنشورات الموجودة على هواتفهم.
وبالإضافة إلى ذلك، أعدمت الأطراف المتحاربة عددا غير معروف من المستنفرين والمجندين من الجانبين.
وارتكبت قوات الدعم السريع مجازر مروعة في عدة قرى بولايتي الجزيرة وسنار، بحسب تقارير أممية ودولية ومحلية.
كما وثقت مقاطع متداولة على وسائل التواصل الاجتماعي انتهاكات واسعة لعناصر في الجيش والكتائب المتحالفة معه بتنفيذ عمليات إعدام ميدانية بشعة لمقاتلين في الدعم السريع ومستنفرون أو متهمون بالتعاون معهم.
مجازر الدعم السريع
في المقابل، أعدمت قوات الدعم السريع مئات الأشخاص في الخرطوم والجزيرة وسنار ودارفور وكردفان دون محاكمة.
وأُعدم هؤلاء رميًا بالرصاص مباشرةً أو عُذِّبوا حتى الموت بعد اتهامهم بالتعاون مع الجيش وإرسال معلومات أو إحداثيات إليه.
قالت مصادر وأفراد كانوا أسرى ومعتقلين في مراكز احتجاز للدعم السريع بالخرطوم لـ«سودان تربيون» إن مئات الأشخاص أُعدموا في سجن سوبا، الذي استخدمته القوات مركز احتجاز على مدى عامين.
وأكد أحد المعتقلين، الذي عمل سابقًا في الشرطة السودانية وطلب عدم الكشف عن هويته، لـ«سودان تربيون» أنه شهد إعدام أشخاص رميًا بالرصاص في سجن سوبا جنوبي الخرطوم أثناء احتجازه في سبتمبر 2023.
وعُذِّب محتجزون آخرون حتى الموت في مركز اعتقال أدارته عناصر من الدعم السريع داخل سلاح المظلات سابقًا في بحري، وفقًا لشهادة معتقل آخر.
وأكد شاهد عيان مختلف يقيم في منطقة الكدرو لـ«سودان تربيون» مقتل ستة أشخاص بالرصاص أمام السوق المركزي في شمبات، على الشارع الرئيسي، في يناير 2024.
وكشفت شهادات أخرى جمعتها «سودان تربيون» من معتقلين آخرين كانوا في منازل بالخرطوم (2) و(3) أن هذه القوات قامت بتصفية أشخاص وأفراد نظاميين سابقين بين عامي 2023 و2024.
وقال (محمد) – اسم مستعار – لـ«سودان تربيون» إنه شاهد، طيلة فترة اعتقاله في حي الخرطوم (3)، إعدام أشخاص كانوا يعملون في الأجهزة الأمنية سابقًا، اعتقلوا من مناطق متفرقة في الخرطوم.
وفي أم درمان، نصبت قوات الدعم السريع غرف إعدام مزودة بحبل مشنقة في منازل بمنطقة أم درمان القديمة، حيث عُثر عليها وبجانبها رفات، كما أظهر تحقيق نشرته «سودان تربيون» في مايو 2024.
وبيَّن مقطع فيديو آنذاك نصب مشنقة إعدام بطريقة احترافية داخل أحد المنازل في منطقة ود البصير بأم درمان، وتركيب المقصلة على جوانب سقف إحدى غرف المنزل.
اعدامات ميدانية
أطلقت قوات الدعم السريع النار على مئات المدنيين وقتلتهم في محاكم ميدانية لم تستغرق سوى دقائق.
وبعد إحضار الشخص واستجوابه حول صلته بالجيش أو تعاونه في تقديم المعلومات والإحداثيات، يُعدم فورًا دون أي تحقيق، كما يتضح من حوادث وقعت في العاصمة الخرطوم، روتها عائلات عدد من الضحايا.
وقالت لمياء أحمد، شقيقة أحد ضحايا هذه الإعدامات، لـ«سودان تربيون» إنه في نوفمبر 2024، تم إعدام شقيقها في منطقة مايو بالخرطوم بعد اتهامه بالتعاون مع الاستخبارات العسكرية للجيش السوداني.
ترك شقيقها رسالة على تطبيق ماسنجر من صديقه الجندي في القوات المسلحة، يسأله فيها عن وضعهم والوضع في المنطقة. ولم يحذف الرسالة، فعثر عليها جنود من الدعم السريع بعد تفتيش هاتفه، وفق حديثها.
وذكرت لمياء أن الجنود حققوا مع شقيقها في أحد النوادي التي تقدم خدمة الإنترنت الفضائي “ستارلينك”، وبعد دقائق قليلة اعتقلوه داخل النادي وأطلقوا النار عليه.
وأكدت أن الجنود أبلغوا الحاضرين قبل إطلاق النار أن شقيقها يتعاون مع الجيش، وأنهم اكتشفوا رسالة من جندي في القوات المسلحة وأنه كان على اتصال به.
تصفية الخصوم
واعتبر المحامي حاتم السنهوري، في حديث لـ«سودان تربيون»، أن تلك الأحكام وصفة جاهزة الغرض منها تصفية حسابات سياسية ضد معارضي الحرب وأهدافها المدمرة والكارثية.
وقال السنهوري إنه بعد ما أفرزه واقع استعادة الجيش لمناطق كثيرة، منها ولاية الجزيرة والخرطوم، أو حتى في بعض المناطق التي نزح إليها الفارون من جحيم الحرب، ظهر على سطح المحاكم السودانية تهمة تُسمى “التعاون مع قوات الدعم السريع” تحت المادتين 50 و51.
وأوضح أن تلك المادتين هما مواد التخابر ضد الدولة وإثارة الكراهية والعداء ضد الدولة، وعقوبة كل منهما الإعدام أو السجن المؤبد.
وذكر أنه بعد القبض على أي من المواطنين أو المواطنات بواسطة قوات أمنية، تمت تسميتها بعد الحرب في مناطق سيطرة الجيش بقوات العمل الخاص والقوات المشتركة والخلية الأمنية، يُحوَّل أولئك الموقوفون للتحقيق.
وأضاف أنه يتم تفتيش الهواتف، وعند العثور على أي صور تتعلق بالدعم السريع أو أي من قادتها، أو كتابة تقرير من تلك المجموعات الأمنية – التي ليست من القوات النظامية المنوط بها حفظ الأمن وفق القوانين – يتم رفعه، في مخالفة لما نص عليه كل من القانون الجنائي السوداني وقانون الإجراءات الجنائية لسنة 1991 في إجراءات القبض والتحري.
وشدد على أن خطورة الأمر تكمن في القضاء على حياة الناس والزج بهم في تهم خطيرة تهدد حياتهم وأمنهم، مضيفًا أنه لا بد من تفكيك تلك النصوص التي أصبحت وصفة جاهزة لتصفية حسابات سياسية ضد معارضي الحرب وأهدافها المدمرة والكارثية، وكذلك ضد خصوم مشروع الإسلام السياسي الذي هزمته وأسقطته ثورة ديسمبر المجيدة.
وجزم السنهوري بأنه لا توجد مادة في القانون الجنائي السوداني لسنة 1991 تُسمى “التعاون”، مؤكدًا أن القانون يعرف مواد الاشتراك الجنائي والاتفاق الجنائي بصورة محددة وواضحة في التنفيذ والتخطيط والاشتراك في الأفعال المكوِّنة لواقعة الجريمة، وفق القاعدة الذهبية المعمول بها في قانون الإثبات لسنة 1994.
وأبان أن ما أرسته السوابق القضائية هو أن الإدانة يجب أن تكون فوق مستوى الشك المعقول، منوهًا إلى أن القانون لا يحاكم ولا يعاقب بالشك والنوايا أو البينات التي لا ترقى لمستوى الإدانة، وفق ما تم تعريفه في القاعدة الذهبية والتاريخية الموجودة في ديباجة القانون الجنائي السوداني لسنة 1991 وجميع دساتير السودان، والقائلة بأن “المتهم بريء حتى تثبت إدانته وفق بينة واضحة وقاطعة ومباشرة”.
ووصف السنهوري تلك المحاكم والأحكام بالافتقار لكل ما تم ذكره ، واعتبرها إعادة لمحاكمات التفتيش التي صممتها الحركة الإسلامية عندما شاركت نظام مايو الحكم قبل سقوطه في انتفاضة 1985.