في أوقات الحروب والنزاعات المسلحة دائما تصبح الأسئلة حول المستقبل أكثر إلحاحًا من أي وقت مضى، وهذا ما طرحته الدراسة المعنونة بـ(إعادة بناء المستقبل: التفاعل بين التعليم والتنمية في السودان ما بعد الصراع والحرب)، التي أعدها الأستاذ الدكتور العجب محمد العجب، إذ الدراسة تذهب إلى ما هو أبعد من التوصيف المألوف للواقع السوداني، لتغوص في عمق السؤال الجوهري: كيف يمكن لبلد أنهكته الحروب أن يجد في التعليم مدخلًا لبناء السلام وتحقيق التنمية؟.
الدراسة تضع نصب أعينها التفاعل الجدلي بين التعليم والتنمية في لحظة ما بعد الحرب، حيث لم يعد الإصلاح التعليمي ترفًا مؤجلًا، بل أصبح خيارًا وجوديًا. تنطلق الورقة من فرضية أساسية مفادها أن التعليم هو أكثر من مجرد عملية تعلمية؛ إنه أداة لإعادة بناء المجتمع، وإعادة صياغة العلاقة بين المواطن والدولة، وتفكيك بنية العنف المزمن.
هذه الدراسة القيمة تعيد الاعتبار إلى التعليم بوصفه فعلاً سياسيًا واجتماعيًا وثقافيًا، وليس مجرد سياسة قطاعية، فحينما يتعطل التعليم، كما حدث خلال سنوات الحرب، لا تتعطل المعرفة فقط، بل تتعطل فرص العدالة، والتماسك الاجتماعي، والإنتاج الاقتصادي، وتنقطع دورة الأمل التي يحتاجها الأفراد لاستعادة حياتهم من ركام العنف.
اعتمد الباحث على أدوات بحثية تمزج بين الكيفي والكمي، واستند إلى عيّنة نخبوية سودانية – ضمت أكاديميين، طلابًا، مهنيين، وقانونيين – ليبلور من خلال أصواتهم تصورًا نقديًا لمسار التعليم ما بعد الحرب. في صوت هؤلاء، نلمس التوجّس والمرارة، لكن أيضًا نقرأ الرغبة الكامنة في التغيير، والميل لاستعادة المبادرة الوطنية التي تقود إلى تحولات حقيقية.
يكشف التحليل أن التعليم في السودان لم يكن ضحية مباشرة للحرب فحسب، بل كان ضحية تراكمات طويلة من التهميش الجغرافي والاجتماعي والسياسي. ففي المناطق الريفية، وتلك التي تسكنها جماعات عرقية مهمشة، ظلت المدارس بعيدة، والمناهج غير ذات صلة، والمعلمون إما غائبون أو مكسورون تحت ضغط الفقر. وعلى الرغم من الجهود التي بُذلت من قبل بعض الحكومات والمنظمات الدولية، ظل غياب الرؤية الوطنية الشاملة للتعليم العائق الأكبر أمام التقدم الحقيقي.
وتُظهر الدراسة، بمنهجها السردي التحليلي، أن التعليم في مرحلة ما بعد الحرب لا ينبغي أن يُفهم بوصفه عملية ترميم لما كان قائمًا، بل باعتباره فرصة لإعادة بناء كل شيء على أسس جديدة: مناهج تزرع التسامح بدلاً من التعصب، بنى تحتية تربط المركز بالأطراف، معلمون مؤهلون يحملون رسالة لا وظيفة، وإدارة تعليمية تؤمن بالمواطنة لا بالمحاصصة.
وفي هذا الإطار، تقدم الورقة تصورًا للتعليم كـ”أداة للسلام”، وليس فقط “أداة للتنمية”. فالفصل بين السلام والتنمية، بحسب ما توحي به الدراسة، خطأ شائع في السياسات ما بعد النزاعات. التعليم، حين يُصمم بوصفه مساحة للحوار والاعتراف المتبادل، يمكن أن يُعيد صياغة العلاقة بين الجماعات المتنازعة، ويمكنه أن يُقوّي الهوية الوطنية الجامعة بدلًا من الهويات الجهوية أو الإثنية المنغلقة.
تُبرز الدراسة أيضًا المعوقات التي تواجه أي مشروع إصلاحي للتعليم في السودان: من بينها البيئة السياسية غير المستقرة، ضعف الإرادة السياسية، غياب الشفافية، هيمنة الثقافة الأبوية في بعض المجتمعات، وضعف الاستثمار في البنى التحتية والمؤسسات التعليمية. ورغم هذه التحديات، يظل الأمل ممكنًا من خلال استثمار الدعم الدولي، والانفتاح على الشراكات، وتبني إصلاحات جريئة تعيد الاعتبار للتعليم كبنية حيوية لا يمكن تأجيلها.
في نهاية المطاف، لا تكتفي الدراسة بإثارة الأسئلة، بل ترسم مسارًا واضحًا للمستقبل، من خلال مجموعة من التوصيات التي تدعو إلى إعادة التفكير في التعليم كمنظومة متكاملة ترتبط بالعدالة الاجتماعية، والمواطنة، واللامركزية، والمشاركة المجتمعية، والمصالحة الوطنية. إنه تعليم لا يُبنى على الأنقاض، بل على الرؤية.
بهذا المعنى، يمكن النظر إلى هذه الورقة بوصفها وثيقة فكرية تتجاوز إطارها الأكاديمي، لتصبح جزءًا من مشروع وطني أشمل لإعادة بناء السودان بعد الحرب. إنها لا تُنادي بإصلاح المدارس فقط، بل بإصلاح فكرة الدولة نفسها، من خلال المدرسة، ومن خلال المعرفة، ومن خلال جيل جديد لا يكرر أخطاء من سبقوه.
يذكر أن أ.د. العجب محمد العجب أستاذ تكنولوجيا التعليم والتعلم عن بُعد بكلية التربية والعلوم الإدارية والتقنية في جامعة الخليج العربي، المشرف على كرسي جلالة الملك حمد للتعليم الرقمي بمملكة البحرين، له اسهامات علمية وفكرية مهمة تُعنى بالتطور والتقدم، وهو صاحب مبادرات علمية ووطنية مهمة تشهد عليها الأوساط الأكاديمية والبحثية على مستوى السودان والخليج والجالية السودانية بمملكة البحرين.