ستمر الصراع المسلح في السودان للشهر التاسع والعشرين، فيما تتفاقم الأوضاع الإنسانية في عدد من المدن والبلدات المحاصرة أبرزها الفاشر التي يقتات فيها الناس على علف البهائم من أجل الحفاظ على حياتهم في ظل تفشي المجاعة على نحو كارثي مع تدهور مريع في الخدمات الصحية وسقوط متواصل للضحايا بسبب القصف المتكرر واستهداف الدعم السريع المنازل والأسواق والمرافق المدنية.
ومنذ أواخر آذار/مارس الماضي، تركزت المعارك بعد استعادة الجيش للعاصمة الخرطوم وعموم وسط السودان في ولايات كردفان الثلاث وإقليم دارفور الذي تسيطر فيه الدعم السريع على أربع من أصل خمس ولايات، بينما تشن هجماتها الشرسة منذ أكثر من عام من أجل السيطرة على الفاشر التي تعد من آخر معاقل الجيش في إقليم دارفور غرب البلاد.
وتسبب واقع المعارك بتمدد قوات الدعم السريع التي يتزعمها محمد حمدان دقلو «حميدتي» في ولايات كردفان ودارفور في ظل فرضها حصارا محكما على عدد من المدن مثل كادوقلي والدلنج وبابنوسة في جنوب وغرب كردفان والفاشر عاصمة إقليم دارفور والتي يمثل فك الحصار عنها هدفاً عملياتياً معلنا منذ شهور من قبل قيادة أركان الجيش.
وقال الناشط المحلي والصحافي محي الدين الصحاف – من سكان الفاشر – لـ«القدس العربي»: إن المدينة تعيش حصارا وجوعا لا يتوقف، مع عدم وجود أي خدمة صحية وخروج كل السلع الأساسية من أسواق المدينة.
وأضاف: «حصار الفاشر لا يمكن وصف مدى فظاعته، فقدنا العديد من الأرواح بسبب الجوع، بعض الناس أصبحوا يتغذون على علف الحيوانات كوجبة أساسية بعد الطحن، بينما تتفاقم الأزمة الصحية في ظل النقص الحاد للمعينات الطبية – ليست لدينا معقمات أو شاش لتنظيف الجروح ولا أبسط أدوات الإسعافات الأولية بينما تتصاعد عمليات القصف كل يوم».
وتابع: «الأوضاع يومياً تمضي للأسوأ، تعالت مناشدات فك الحصار وإيصال المؤن والأدوات الصحية والدوائية عبر الإنزال الجوي ولكن لا حياة لمن تنادي، والفرار نفسه من المدينة أصبح صعبا بعد إغلاق كل الطرق».
ويعاني أهالي الفاشر من الجوع وصعوبة الحصول على الطعام، إذ بلغ سعر جوال دقيق الدخن حال وجوده 6 مليون جنيه سوداني أي ما يعادل نحو 2ألفي دولار، فيما أعلنت عدد من المطابخ الجماعية، أنها لم تعد تملك شيئا تقدمه للأهالي غير علف الأمباز الذي كان يقدم للبهائم.
الموت بسبب الحصار
وفي سياق متصل، قال منسق الشؤون الإنسانية في دارفور، عبدالباقي محمد حامد خلال تصريحات صحافية له، إن الوضع الإنساني في الفاشر خرج عن السيطرة، وهناك 929 ألفا من المواطنين والنازحين في المدينة يواجهون الموت بسبب الحصار الخانق الذي تفرضه الدعم السريع.
كذلك، أشار والي شمال دارفور الحافظ بخيت، عن خروج محطتي شقرة وقولو الرئيسيتين لإمداد الفاشر بالمياه، عن الخدمة تماماً، من جراء الدمار الذي أحدثته قوات الدعم السريع بمصادر المياه. وقال بخيت، حسب وكالة السودان للأنباء، إن الولاية تعتمد على إمداد المياه للمدينة من الآبار الخاصة، وذلك بتوفير الوقود بجانب الآبار التي أهلتها المنظمات.
ومنذ الثاني من أيار/مايو من العام الماضي بدأت الدعم السريع في شن هجمات مكثفة وصلت إلى 224 هجوما بهدف السيطرة على المدينة، لكن قوات الجيش المتواجدة هناك والكتائب المساندة لها دافعت في مشهد أسطوري عنها ما حال دون سقوطها، بينما أسفر القصف المتكرر لمدفعية قوات حميدتي عن تدمير المنازل والأسواق ونزوح مئات الآلاف من السكان.
وترتبط بشكل وثيق معركة فك الحصار عن الفاشر بما يدور في محاور القتال بإقليم كردفان الذي تمر عبره الطرق الرئيسية نحو دارفور، بالإضافة إلى اتخاذ الدعم السريع من هذا الإقليم نقطة متقدمة لصد أي تقدم نحو عمقها الاستراتيجي في غرب البلاد.
وتشير تطورات الأوضاع الميدانية إلى وقوع معارك شرسة الأيام الماضية في كردفان، حيث قال مصدر ميداني لـ«القدس العربي»، إن الجيش دفع بمزيد من التعزيزات الأسبوع الماضي واستطاع تحرير بلدات رهيد النوبة ودونكي الحجاب وبلدات صغيرة أخرى على طريق الصادرات الرابط بين مدينتي أم درمان وبارا في شمال كردفان.
وأشار المصدر إلى تحرك قوات أخرى يوم الأربعاء، من منطقة العرشكول بولاية النيل الأبيض وسيطرتها على بلدة الحمرا شرق منطقة أم سيالة التي شهدت هي الأخرى معارك شرسة وذلك في إطار خطة الجيش الهادف للسيطرة على منطقتي جبرة الشيخ وبارا.
القتال في كردفان سيطول
ضابط سابق في الجيش السوداني قال لـ«القدس العربي»، إن القتال في كردفان سيطول، باعتبار أن قوات حميدتي تحشد قدرتها لصد أي تقدم للجيش نحو دارفور. مبينًا أن انهيار الدعم السريع في كردفان يعني الانهيار التلقائي في دارفور.
وأوضح أن الجيش حقق خسائر كبيرة وسط الدعم السريع عبر الطيران والمواجهات المباشرة، لافتاً إلى أنه ما زالت لديه عدة أشكال للمناورة منها التخطي والتطويق والالتفاف وغيرها يستخدمها في استنزاف وتدمير العدو.
ولفت الضابط إلى أن الجيش يترصد قادة الدعم السريع عبر مسيرات والعملاء والعمل الخاص، مشيرًا إلى أن مقتل أحدهم يؤدي مباشرة إلى شلل القوات وضعف الروح المعنوية وتصاعد الخلافات وسطها.
وتوقع أن تشتعل المواجهات في محاور شمال كردفان خلال الأسبوعين القادمين، مبيناً أنه متى ما استعاد الجيش مدينة بارا فإنه سوف يتحرك مباشرة نحو الفاشر عبر المحور الشمالي الذي يمر عبر جبرة الشيخ والمزروب نحو دارفور.
وبين أن سيطرة الجيش على منطقتي جبرة الشيخ وبارا يمكن أن تحدث تحولا استراتيجيا في الصراع باعتبار أنها مناطق متحكمة لإيصال مواد تموين القتال من أمدرمان إلى كردفان مباشرة وسهولة التحرك منها نحو دارفور.
بالمقابل شنت الدعم السريع هجمات مباغتة على بلدة أم صميمة يوم الأربعاء استطاعت خلالها بسط سيطرتها على تلك المنطقة الواقعة غرب مدينة الأبيض عاصمة شمال كردفان. وقالت في بيان لها، إنها سيطرت بالكامل على أم صميمة وأن هذا الإنجاز العسكري يعد أولى بشائر تشكيل الحكومة الجديدة ويأتي في إطار الخطط العسكرية المحكمة التي تنفذها القوات.
ويشار إلى أن بسط الدعم السريع سيطرتها على المنطقة من شأنه وضع مدينة الأبيض عاصمة شمال كردفان في حصار ثلاثي، جنوباً من نواحي منطقة كازقيل وشمالاً تجاه مدينة بارا وغربا بعد توسعها الجديد بأم صميمة، كما أن التقدم الأخير للدعم سوف يحد من حركة قوات الفرقة الخامسة مشاة في مدينة الأبيض وانفتاحها شمالاً لمحاصرة مدينة بارا التي يتقدم نحوها الجيش بالمقابل من اتجاهات أخرى.
أصوات ناقدة
وفي خضم معارك الكر والفر وتبادل السيطرة في كردفان، تعالت أصوات ناقدة من داخل حلف المساندين للجيش عن تباطؤ القيادة العسكرية في تحريك القوات نحو حسم معركة كردفان وفك حصار الفاشر. وقال حاكم إقليم دارفور والمسؤول السياسي في تحالف الكتلة الديمقراطية أركو مني مناوي في تصريحات صحافية: «الفاشر محاصرة لأكثر من عام وشعبها وقف بصمود وكرامة حتى الآن». وأضاف: «لكن هناك برودا شديدا في التعامل مع الفاشر من كثير من الاتجاهات والمنظومات وحتى الدولة نفسها خاصة بعد خروج الدعم السريع من الخرطوم والجزيرة».
وفي ذات المنحى، يرى خبراء عسكريون، أن الجيش يستخدم خطته في استنزاف العدو وتكسير قوته الصلبة من دون اكتراث كبير لعامل الزمن والانفتاح والاستحواذ على الأرض، مشيرين إلى أن ذلك يتيح مساحة للدعم السريع في إعادة التنظيم والتحشيد في مناطق دارفور البعيدة والتقدم مرة أخرى نحو محاور المواجهات، فضلاً عن أن تأخر الحسم يمكن أن يقود إلى اختلاف في موازين القوى ومواقف الدول الإقليمية المساندة.
بالمقابل قال الخبير العسكري والمستشار في الأكاديمية العليا للدراسات الأمنية والاستراتيجية اللواء معتصم عبدالقادر، لـ«القدس العربي»، إن قيادة أركان الجيش هي من تقوم بتقييم الوضع الاستراتيجي والعمليات التكتيكية التي يجب اتباعها في لحظات تاريخية وأوقات زمنية محددة باستخدام أي نوع من السلاح أو الطيران في البداية أو المدفعية ومن ثم الاقتحام البري وما قبل ذلك المسيرات.
وأضاف: «كل ذلك مسائل دقيقة وتخطيط فني، ولا أعتقد أن أشخاصا خاضوا معارك عسكرية سواء كانوا قوات مساندة أو مشتركة يمتلكون قدرات الجيش في هذه المسائل المتروكة تماماً لهيئة الأركان، وحتى القيادة العامة لا تدخل كثيراً في هذه الجوانب».
ورأى أن اتهام الجيش بالبطء والتجاهل في استعادة المناطق التي تسيطر عليها الدعم السريع في كردفان ودارفور هي اتهامات معادة وجهت للجيش من قبل في مناطق الوسط والجزيرة وولاية الخرطوم والتي استمرت فيها العمليات لعامين وثلاثة أشهر.
وأشار اللواء عبدالقادر، أن العمليات العسكرية في المناطق الواسعة والمفتوحة مثل إقليم دارفور الذي تعادل مساحته دولة فرنسا، تحتاج إلى تجهيزات وخطط تتغير بمدى النجاح والفشل الذي يمكن أن تحدثه من خلال عملية محددة، بالإضافة إلى تعديلات مرنة من وقت لآخر استناداً لقياس وتقدير قوة العدو في كافة محاور الجبهات.
وأردف: «الجيش يقاتل في جبهة ممتدة من الحدود المصرية حتى حدود دولة جنوب السودان، لكن العمل فيها يسير بصورة جيدة وسوف تؤتي أكلها في مدة أقل من الفترة التي استغرقها تحرير ولاية الخرطوم ومناطق الوسط وطرد التمرد إلى مناطق غرب كردفان».
وأكد أن الجيش يستخدم عملية استنزاف للعدو وتكسير قواه الصلبة لأن تلك هي الطريقة الوحيدة الناجعة لجيش نظامي يواجه جهة أخرى تستخدم مجموعات صغيرة في حرب عصابات، لافتاً إلى أن العصابات أكثر مرونة من الجيوش الكبيرة لذلك هناك تريث في استخدام الأسلحة والتحركات والتوقيتات المناسبة.
واستبعد حدوث تحول في مواقف حلفاء الجيش بسبب عامل الزمن المرتبط بالعمليات، مشيراً إلى أن مواقف الحلفاء هي مواقف مبدئية بخصوص عدم وجود أي مبررات لإنشاء دولة جديدة في السودان ومخاوف عدم استتباب الأمن والسلام في المنطقة على يد الدعم السريع وتمددها على حساب المكونات الاجتماعية الأخرى في إقليم دارفور والتي تعرضت للكثير من الانتهاكات لمدة أكثر من 20 عاماً.
وعن مدى نجاح قوات درع السودان في حسم معركة كردفان بعد أن دفعت بأعداد كبيرة من قواتها إلى هناك، قال الخبير العسكري والمستشار الأمني، إن درع السودان لا تتحرك بمفردها ولا حتى القوات المشتركة وقوات النخبة التابعة لجهاز المخابرات والقوات الأخرى المساندة للجيش، وإنما جميع هذه القوات تعمل ضمن قيادة المناطق العسكرية وتأتمر بإمرة هيئة الأركان التابعة للجيش بالتالي لا تمثل أي قوة سواء درع السودان أو غيرها أفضلية في المعارك وهي تعمل تحت قيادة الجيش وتتحرك وفقاً لاحتياجات الخطة الموضوعة.