في مراكز الإيواء الموقتة، لا يقتصر الطهي على سد الحاجة الغذائية فقط، بل يأخذ بعداً تنظيمياً واجتماعياً، يتحول فيه “المطبخ الجماعي” إلى أحد أعمدة الحياة اليومية للنازحين، وإلى مساحة تتقاطع فيها أدوار النساء ومسؤوليات المجتمع المحلي، فهناك فرق تطوعية من النساء داخل هذه المركز للإشراف على إعداد الوجبات.
في ظل الظروف الصعبة التي تمر بها مناطق النزوح في السودان ، والحصار الذي فرضته الحرب المندلعة بين الجيش وقوات “ الدعم السريع ” على عدد من المدن والقرى الملتهبة، تتحدى النساء السودانيات الواقع بقوة وعزيمة، ليصنعن من لا شيء وصفات تحمل في طياتها قصص صمود وأمل في مطابخ مراكز الإيواء التي تضم آلاف النازحين بولايات البلاد الآمنة.
وحين تندر الموارد وتقل الخيارات، تتحول المكونات البسيطة التي لا تتعدى في كثير من الأحيان الماء والملح والحبوب كالذرة والقمح والعدس والفول إلى أطباق مبتكرة تعكس ثقافة وتراثاً لا يمحى، وتكشف عن قدرة النساء على تحويل المحنة إلى فرصة للإبداع والمقاومة في تلك المطابخ الصغيرة، إذ يتلاقى الطهي مع الإرادة، ويصبح الغذاء أداة لحفظ الكرامة والهوية، وأسلوباً في مواجهة القسوة.
في هذه المراكز الإيوائية التي تغيب فيها أبسط مقومات الحياة، لا مكان للإسراف أو الخيارات الواسعة، فكل مكون يحسب، وكل وجبة تحضر بحرص وابتكار، مع غياب التوابل والبهارات التي تعطي الطعام نكهته المعتادة، لكنها تظهر مهارات الطهي مثل العصيدة التي تعد إحدى الوجبات الشعبية الأساسية، وتصنع من دقيق الذرة أو القمح والماء والملح فقط، بجانب شوربة العدس التي تصنع مع الماء فقط لسد الجوع، بينما تأتي الكسرة في المرتبة الثالثة كرقائق يجري عجنها بالماء والملح.
شعور بالشبع
تقول أم لجين، وهي نازحة من مدينة أم درمان تقيم حالياً في أحد مراكز الإيواء جنوب الخرطوم، “في الأيام الأولى من النزوح كنا نأكل مرة واحدة فقط في اليوم، بل أحياناً لا نجد شيئاً نأكله على الإطلاق، أذكر أنني في أحد الأيام أعددت عصيدة من الماء والملح فقط، نظرت إلي بناتي باستغراب وقالت إحداهن: هذه ليست عصيدة، ثم تلغفناها بصمت”.
وتتابع “في بعض الأحيان كنا نحصل على كمية بسيطة من العدس، نغليه بالماء فقط، من دون بصل أو توابل، لم يكن الطعم كما اعتدنا، لكنه كان كافياً لنشعر بالشبع”.
وواصلت النازحة “غياب الأفران وعدم توفر الحطب جعل من إعداد الخبز تحدياً حقيقياً، فقد خطرت لي فكرة استخدام الحصى، فقمت بتسخين الحجارة بالنار، وبدأت أخبز فوقها، لكن احترق الخبز في البداية، وبعد ذلك أتقنت الطريقة وأصبحت بناتي يقلن إن خبزي أفضل من خبز السوق”.
تجربة أم لجين تعكس قصة آلاف النساء اللاتي واجهن قسوة النزوح بإرادة صلبة، وحولن مطابخهن الموقتة إلى ساحات إبداع ومقاومة يومية.
تماسك اجتماعي
فيما تشير الناشطة الإجتماعية إيمان موسى إلى أن “الطهي في مراكز الإيواء يتجاوز كونه نشاطاً منزلياً تقليدياً، إذ يمثل استجابة عملية لنقص المواد الغذائية وغياب الظروف الملائمة للطهي، وتحول إعداد الطعام في هذه البيئات إلى نشاط منظم تمارسه النساء على رغم محدودية الإمكانات، ويعكس قدرة عالية على التكيف والابتكار في استخدام الموارد المتاحة، علاوة على الجانب الغذائي”.
وأضافت موسى “يحمل الطهي بعداً اجتماعياً مهماً، فالوجبات الجماعية في مراكز الإيواء تشكل نقطة تجمع للأسر، تسهم في تعزيز التماسك الاجتماعي والتخفيف من حدة التوتر النفسي المرتبط بالنزوح والافتقار إلى الاستقرار، وتعد هذه اللحظات فرصاً لإعادة بناء الروابط الاجتماعية، وتبادل الدعم النفسي والمعلومات، مما يعزز من قدرة النازحين على التكيف مع وضعهم الجديد”.
وأردفت موسى “الدراسات الميدانية تشير إلى أن الطهي والأكل الجماعي يوفران نوعاً من الحماية النفسية، إذ يخلق فضاءات آمنة تساعد في مواجهة مشاعر القلق واليأس، كما أن توزيع المهمات المرتبطة بالطهي بين النساء والأسر يتيح مشاركة الأدوار والمسؤوليات، مما يخفف العبء النفسي والجسدي الناتج من ظروف النزوح الصعبة، بالتالي يمكن اعتبار الطهي في سياق النزوح والحصار استراتيجية مقاومة يومية، تسهم في الحفاظ على استمرارية الحياة، وتعزيز الروابط الاجتماعية، والحد من تأثيرات الأزمات الإنسانية في الأفراد والأسر”.
دعم نفسي
من جهته قال الناشط الاجتماعي محمد عبدالرحمن، الذي عمل مع عدة مراكز إيواء للنازحين، “في ظروف النزوح، يصبح الطهي أكثر من مجرد نشاط يومي، فهو آلية للتكيف والتأقلم مع قسوة الحياة، فالنساء في مراكز الإيواء يستثمرن الموارد المحدودة بطريقة إبداعية لإعداد وجبات تحافظ على الحد الأدنى من التغذية والكرامة”.
وأضاف عبدالرحمن “إعداد الطعام وتناوله بصورة جماعية تسهم في تعزيز العلاقات الاجتماعية بين النازحين، مما يوفر دعماً نفسياً واجتماعياً مهماً في ظل التحديات المستمرة، وهذه الممارسة تلعب دوراً حيوياً في التخفيف من مشاعر اليأس والانعزال التي تصاحب النزوح”.
طوق نجاة
تعتبر “الحلة” و”الصاج” أدوات الطهي التقليدية لدى الأسرة السودانية، فهي لم تغب عن مطابخ النساء في مراكز الإيواء، بل أصبحت مسرحاً لعدد من القصص الإنسانية التي تعكس صمودهن وإرادتهن في الحفاظ على ما تبقى من حياة طبيعية.
سلمى عبدالله من مدينة مدني بولاية الجزيرة تروي كيف كانت تجهز الخبز على الصاج على رغم نقص الحطب، مستخدمة حصى مسخنة لتحاكي حرارة الفرن، وتقول “كنت أخاف ألا أتمكن من توفير الطعام لأولادي، لكني لم أستسلم، فالخبز على الصاج كان بمثابة طوق النجاة، لم أسمح لليأس أن يسيطر علي”.
أما سليمة حسن فتحدثت عن طرق ابتكارية في تحضير الوجبات بمواد محدودة جداً، قائلة “كنا نستخدم الأعشاب البرية والتوابل المتاحة لنضيف نكهة للطعام، على رغم قلة الموارد، وبالتالي حافظنا على نكهات تراثنا”.
منصة للحوار
في مراكز الإيواء الموقتة، لا يقتصر الطهي على سد الحاجة الغذائية فقط، بل يأخذ بعداً تنظيمياً واجتماعياً، يتحول فيه “المطبخ الجماعي” إلى أحد أعمدة الحياة اليومية للنازحين، وإلى مساحة تتقاطع فيها أدوار النساء ومسؤوليات المجتمع المحلي، فهناك فرق تطوعية من النساء داخل هذا المركز للإشراف على إعداد الوجبات، سواء عبر تقسيم المهمات اليومية أو تحديد جداول للطهي. ويعتمد التنظيم على توافق مجتمعي، تنظم فيه الأدوار تلقائياً بحسب الاحتياج والخبرة والقدرة البدنية.
كما أن هذا الفضاء المشترك لا يقتصر على الطهي فقط، بل يتحول إلى مساحة للحوار وتبادل الخبرات والدعم النفسي، فحول النار المشتعلة تتشارك النساء القصص، ويتناقشن حول تحدياتهن اليومية، مما يحول المطبخ الجماعي إلى منصة غير رسمية للتضامن المجتمعي.
تقول آمنة محمد، وهي إحدى المقيمات في مركز إيواء بشرق السودان، “نحن من نقرر من يطبخ ومتى، نوزع الأدوار بين النساء كل أسبوع، ونحدد كميات الطعام بحسب عدد الأسر، فالكل يشارك بما يستطيع”.
وتتابع المقيمة بمركز الإيواء “يجري الطهي باستخدام أدوات جماعية بسيطة مثل قدور كبيرة وصاجات ومواقد مشتركة، وغالباً ما تجمع المكونات من مساهمات فردية أو مساعدات تأتي من متبرعين، وتشارك النساء ما لديهن، ويعاد توزيع الحصص بما يضمن الحد الأدنى من العدالة بين الأسر”.
نظام داخلي
منسق الإغاثة في إحدى المنظمات الإنسانية العاملة بمراكز النزوح في كردفان حسام الطيب، قال إن “المطبخ الجماعي في مراكز الإيواء ليس مجرد وسيلة لتوفير الطعام، بل هو أحد مظاهر التنظيم الذاتي الذي تظهره المجتمعات النازحة، فالنساء غالباً ما يتولين مسؤولية إدارة هذا الفضاء، بدءاً من جدولة المهمات إلى ضبط توزيع الحصص بين الأسر”.
وأضاف الطيب “ما يلفت النظر هو قدرة النساء على خلق نظام داخلي فعال في ظل غياب البنية الرسمية، رأينا مطابخ تعمل بكفاءة تحترم فيها الأولويات الصحية والغذائية، ويراعى فيها الأطفال وكبار السن من دون أي إشراف مباشر من السلطات أو المنظمات”.
وأشار منسق الإغاثة إلى أن “المطبخ الجماعي يشكل أيضاً نقطة التقاء اجتماعي ونفسي، هو مساحة للحوار وللتنفيس وللشعور بالانتماء وسط واقع يفتقر إلى الاستقرار والأمان”.
مقاومة صامتة
في السياق أوضحت الباحثة في الأنثروبولوجيا الثقافية بجامعة الخرطوم سمية عبدالرحمن أن “الطعام لا يختزل في كونه حاجة بيولوجية فحسب، بل هو وعاء غني بالمعاني الاجتماعية والثقافية في سياقات النزوح، يتحول الطبخ إلى ممارسة رمزية تعيد إنتاج الهوية والانتماء، خصوصاً للنساء اللاتي يحملن عبء الحفاظ على الروح الجماعية للأسرة”.
وأضافت الباحثة السودانية “عندما تطهو امرأة نازحة طبقاً تقليدياً حتى في غياب مكوناته الأصلية، فهي لا تطعم فقط، بل تعيد تشكيل رابطها مع المكان الذي أجبرت على مغادرته، كل وصفة محفوظة، وكل نكهة متقنة، هي بمثابة رفض للانقطاع عن الجذور”.
وأكدت عبدالرحمن أن هذا التمسك بوصفات الأمهات والجدات هو شكل من أشكال المقاومة الصامتة، التي تسعى النساء من خلالها إلى حماية ذاكرتهن الجمعية من الذوبان في واقع قاس وغير مستقر.
اندبندنت عربية