دخلت حرب السودان عامها الثالث في مارس 2025، متخذة منعطفا غير متوقع بعد أن قررت قوات الدعم السريع الانسحاب من الخرطوم، ما مثل تحولا حاسما في مجريات الصراع.
ويأتي هذا الانسحاب بعد عامين من سيطرة القوات نفسها على العاصمة السودانية في أبريل 2023، ليطرح تساؤلات عديدة حول تطور الحرب ومسارها في المستقبل القريب.
ورغم أن هذه الهزيمة العسكرية تمثل ضربة لقوات الدعم السريع، فإنها لا تشير بالضرورة إلى نهاية الحرب، بل إلى بداية مرحلة أكثر تعقيدًا وتشرذمًا.
ويقول الباحث في جامعة تشارلز محمد سعد في تقرير نشره موقع ذوكونفرسيشن إنه من خلال دراسة تاريخ السودان الطويل من الاضطرابات والصراعات السياسية، يبدو أن البلاد على أعتاب مرحلة جديدة من الحرب التي ستشهد تصاعدًا كبيرا في تزايد الجماعات المسلحة، بما في ذلك الميليشيات المدنية، مما يهدد بتفكك السودان إلى كيانات صغيرة خاضعة لسيطرة أمراء حرب محليين.
ولا يعكس الانسحاب من الخرطوم فقط تراجعا عسكريا لقوات الدعم السريع، بل يكشف عن تحول في طبيعة الصراع السوداني بشكل عام.
وأصبح الصراع في السودان أكثر تعقيدا مما كان عليه في بداية الحرب، حيث تجاوز النزاع مجرد صراع بين الفصيلين العسكريين الرئيسيين، الجيش السوداني وقوات الدعم السريع، ليشمل الآن مجموعة واسعة من الميليشيات المسلحة التي تتشكل في مختلف أنحاء البلاد.
وفي الوقت الذي تزداد فيه أعداد الميليشيات المدنية، تجد هذه الجماعات نفسها في مواجهة عدو مشترك: قوات الدعم السريع أو الجيش السوداني، أو حتى بعضها البعض.
ومع تصاعد العنف وانهيار النظام المركزي، بدأ المدنيون في عدة مدن وقرى في حمل السلاح بشكل جماعي لحماية أنفسهم ومجتمعاتهم من الهجمات المتزايدة والنهب الذي تتعرض له مناطقهم.
وفي البداية، كانت هذه الجماعات تشكل أساسا لمواجهة الهجمات والاعتداءات على الأحياء السكنية من قبل الميليشيات المسلحة وقوات الدعم السريع، التي كانت تستخدم العنف المفرط والوحشية ضد المدنيين في محاولتها لتوسيع نطاق سيطرتها. لكن مع مرور الوقت، تطور الوضع بشكل مقلق، حيث تحولت العديد من هذه الجماعات من مجرد وحدات دفاعية إلى ميليشيات مستقلة تعمل خارج نطاق سيطرة الجيش أو أي سلطة مركزية.
ولم تعد هذه الجماعات تقتصر على الأحياء السكنية التي بدأت منها، بل أصبحت تنتشر في مناطق أخرى، بعضها يطلق على نفسه اسم “وحدات الدفاع الذاتي” التي بدأت تنشئ هيكلياتها الخاصة وتفرض سيطرتها على مناطق واسعة.
ويعود السبب الرئيسي وراء تصاعد هذه الظاهرة إلى تدهور الوضع الأمني على الأرض والانهيار التدريجي للأجهزة الأمنية الرسمية.
وفي ظل غياب أي سلطة موحدة أو إستراتيجية دفاعية واضحة من قبل الحكومة أو الجيش، بدأ المدنيون في بعض المناطق يتحولون إلى قوى مسلحة تقاتل من أجل البقاء.
وفي العديد من الحالات، تحولت هذه الميليشيات إلى قوة مستقلة، يسعى كل منها لتحقيق أهدافه الخاصة، سواء كانت حماية الأرض أو تأمين موارد محددة أو حتى تكريس الهيمنة على مناطق جغرافية معينة.
ويعزز هذا التشرذم الذي تشهده البلاد في الوقت الحالي من فرضية أن السودان قد يتجه إلى مرحلة من التفكك الداخلي، حيث تصبح البلاد ساحة للقتال بين أمراء الحرب المحليين الذين يسعون للسيطرة على مناطقهم أو حتى على موارد معينة مثل الذهب.
وفي هذه الأثناء، يبدو أن الجيش السوداني نفسه قد أصبح جزءًا من المشكلة بدلاً من الحل. ففي حين أنه كان يسعى في البداية إلى استعادة السيطرة على الخرطوم من قوات الدعم السريع، إلا أنه مع مرور الوقت بدأ يُشجع المدنيين على الانضمام إلى صفوفه أو تشكيل ميليشيات خاصة بهم.
وهذه الدعوات التي أطلقها الجيش لم تجد تأثيرًا إيجابيًا في وحدة الصف الوطني، بل ساهمت في زيادة التشرذم الذي يعصف بالبلاد، ما يجعل من الصعب تصور أي نوع من التنسيق بين الفصائل المختلفة.
وبينما يبدو أن الجيش السوداني قد حقق انتصارا عسكريا في الخرطوم، فإن هذه الهزيمة لقوات الدعم السريع لا تعني بالضرورة نهاية الصراع أو عودة الاستقرار، بل قد تشير إلى بداية مرحلة أكثر تعقيدا من الحروب الداخلية بين جماعات مسلحة متعددة.
ولعبت الميليشيات القبلية والإقليمية دورا بارزا في تأجيج الصراع. ففي مناطق مثل دارفور وكردفان، حيث تتداخل التوترات العرقية مع التنافسات السياسية، بدأت هذه الميليشيات تتحرك بناءً على دوافع عرقية أو مصلحية، محققة أهدافًا تتعلق بالسيطرة على الأراضي أو الموارد الطبيعية مثل المياه والأراضي الزراعية.
وبعض هذه الجماعات تحالفت مع الجيش السوداني، بينما انشقت بعضها الآخر وكونت ميليشيات مستقلة. ولا تعترف هذه الجماعات بسلطة الحكومة المركزية أو الجيش، بل تسعى إلى تحقيق مصالحها الخاصة، مما يزيد من تعقيد الوضع الأمني في تلك المناطق.
وفي الوقت نفسه، فإن التدخلات الأجنبية التي تستمر في التأثير على الحرب السودانية تُساهم في تعقيد الصورة.
وتضمن هذه التدخلات الخارجية استمرار حالة الفوضى في السودان، حيث أن القوى الإقليمية والدولية تستفيد من الوضع القائم لأغراضها الخاصة.
وبالنظر إلى هذه المعطيات، يصبح واضحًا أن السودان قد يواجه واقعًا سياسيا وعسكريا جديدًا، حيث لن يكون هناك أي فائز واضح في هذه الحرب.
ويبدو تزايد أعداد الميليشيات، وتزايد الانقسامات الداخلية بين الفصائل المسلحة، والاحتكاك بين المصالح الإقليمية والدولية، من العوامل التي تجعل من الصعب تصور عودة البلاد إلى الاستقرار في القريب العاجل.
وإذا استمر الوضع على هذا النحو، قد يشهد السودان تحوّلًا خطيرًا نحو التفكك، حيث تتحول أجزاء واسعة من البلاد إلى مناطق خاضعة لسيطرة أمراء حرب محليين، كل منهم يسعى لتعزيز سلطته الخاصة بعيدا عن أي حكومة مركزية.
العرب