مع تزايد وتيرة تفشي الجوع في السودان، برزت قضية بيع المساعدات الغذائية التي وصلت إلى البلاد خلال الفترة التي أعقبت الحرب، لتكشف وجهاً من الفساد في الحكومة التي يقودها الجيش من مدينة بورتسودان، بعدما رصدت جهات معنية عدم وصولها إلى مستحقيها.
وبحسب تقرير لمنظمة الشفافية الدولية صدر في تشرين أول/أكتوبر الماضي، فإنه وفق مؤشر مدركات الفساد (CPI) لعام 2024، تجاوز فساد حكومة بورتسودان مستوى الإغاثات العينية والمالية الذي فاق ٤ مليار و٦٠٠ مليون دولار.
ونتيجة تسرب الإغاثة إلى الأسواق وبيعها، فإن الجوع انتشر في مراكز إيواء النازحين في ولايات شرق وشمال ووسط السودان التي تخضع لسيطرة الجيش، وهي مناطق آمنة ولا تعاني مشكلة انسياب المساعدات مثلما يحدث مع المناطق المضطربة، وظل النازحون يعتمدون على المطابخ المجانية القائمة على التبرعات، وفق تقارير توثق لهذه المعاناة في وسائل إعلام سودانية.
تؤكد لجنة مراجعة المجاعة التابعة لتصنيف مرحلة الأمن الغذائي المتكامل وفقاً لتقرير صادر في (كانون أول/ديسمبر 2024)، أن ظروف المجاعة موجودة في خمسة مواقع على الأقل في السودان، بما في ذلك مخيمات النازحين في شمال دارفور وجبال النوبة الغربية في جنوب كردفان.
وطبقاً للأمم المتحدة يواجه نحو 25 مليون شخص (أكثر من نصف السكان)، مستويات عالية لانعدام الأمن الغذائي الحاد، بينهم ما يربو على 11 مليوناً أجبرتهم الحرب على النزوح داخل السودان خلال عامين من الصراع المحتدم دون التوصل لاتفاق يوقف إطلاق النار بين طرفي الحرب، حيث يبقى الحُلم بعيد المنال – حتى الآن على الأقل، خصوصا مع رفض قيادة الجيش السوداني كل مبادرات السلام المحلية والدولية.
لا تصل الإغاثة التي تبرعت بها دول في العالم والإقليم للسودانيين وتسلمتها حكومة بورتسودان، إلى مستحقيها وتم تسريبها وبيعها في الأسواق، بحسب تحقيق نشرته سي أن أن في شباط/فبراير 2024.
تروي النازحة فاطمة أحمد (50 عامًا) التي تقيم أيضًا في حي ديم جابر في بورتسودان لسي إن إن: “ذهبتُ مرارًا وتكرارًا إلى مفوضية العون الإنساني الحكومية باعتبارها الجهة المسؤولة عن توزيع الإغاثة.. طلبوا مني الذهاب إلى المحلية التي طلبت مني العودة مرة أخرى إلى المفوضية، وهكذا”.
وتتابع: “خرجتُ من منزلي في الخرطوم بما أرتدي من ثياب، لديّ 4 أطفال والدهم متوفى. وجدت مرة أنهم يوزعون مساعدات غذائية في مدرسة كوريا الأساسية، فأخبرتهم أن الجوع يفتك بأطفالي منذ يومين وأريد فقط أرز أو دقيق، فقال لي أحدهم: لن نعطيك شيئًا، الجوع لا يقتل أحدًا”.
وتكشف منظمة الشفافية الدولية في تقرير صدر في تشرين أول/أكتوبر 2024 عن أن حكومة بورتسودان شهدت على مدى عام ونصف من الحرب، فساداً قد يكون الأكبر على مستوى العالم، ما أعاق حصول المواطنين على الخدمات الأساسية، بما في ذلك الغذاء والماء والدواء والصحة والتعليم، بل ويهدد في كثير من الحالات حقهم في الحياة.
وبحسب التقرير نفسه، فإن الهبات المالية قد تجاوزت 80% من ميزانية الدولة فضلا عن إنتاج الذهب الذي وصل حد الاستهتار بموارد السودان على أيادي قائد الجيش عبد الفتاح البرهان ووزير المالية جبريل إبراهيم، ومحمد بشير أبو نمو وزير المعادن إذ وصل إنتاج الذهب المتوسط إلى حوالى 20 طن شهريا، لكنها لا تذهب إلى المصلحة العامة.
وعزت المنظمة هذه النتائج إلى ارتفاع مستويات الفساد السياسي الذي يُقوّض كل جهود ومساعي السلام ومكافحة الفساد في مختلف مناحي الحياة في السودان، مشددة أنه لا بد من استنهاض الوعي العام في مختلف أنحاء السودان، لكي تتبنى شعوب السودان مكافحة الفساد.
وتعمل الحكومة التي يقودها الجيش منذ انقلاب عبد الفتاح البرهان على القوى المدنية في 25 تشرين أول/أكتوبر 2021، بلا رقابة مالية، بعدما تم تجميد عمل المراجع العام في السودان والذي كان معنيا بمراجعة حسابات مؤسسات الدولة وكشف الفساد وتقديم المسؤولين المتورطين في مثل هذه الجرائم إلى المحاكمة.
وأثبت تحقيق أجراه المركز السوداني للإعلام الديمقراطي نشره في مطلع كانون الثاني/يناير 2025 بيع الإغاثة التي تسلمتها حكومة بورتسودان من الخارج في الأسواق، ولم توزع على مستحقيها.
استطاع فريق التحقيق التابع للمركز خلال جولة ميدانية داخل السوق الكبير في مدينة بورتسودان، توثيق تسرب الإغاثة، إذ رصد في نوافذ البيع أصنافا غذائية (أرز، سكر، دقيق، ولبن مجفف) تحمل (ديباجات) كتب عليها (يوزع مجانا)، بجانب أسماء الجهات المتبرعة، لكن رغماً عن ذلك فهي معروضة في المتاجر وبين أيدي الباعة المتجولين في الأسواق ومناطق أخرى.
ليس الإغاثة وحدها، لكن فساد حكومة الجيش السوداني التي ظلت بلا رقيب لسنوات، طال الذهب والنحاس وجوانب أخرى تحدث عنها فاعلين في المشهد السوداني.
في تشرين أول/أكتوبر الماضي انتقد القيادي في حزب الأمة القومي السوداني، الدكتور صلاح مناع، حكومة بورتسودان، مشيراً إلى أن الفساد الذي شهدته خلال عام ونصف تجاوز بكثير الفساد الذي شهدته حكومة الرئيس المخلوع عمر البشير على مدار ثلاثين عاماً.
وكتب مناع وهو أحد مسؤولي لجنة تفكيك نظام الحركة الإسلامية السابق في السودان، على صفحته في منصة “إكس” متسائلاً عن مصير مليار ونصف من صادرات الذهب، مشيراً إلى تبعية البنك المركزي إلى عبد الفتاح البرهان وعمليات طباعة العملة التي تتم عبر وسيط من دولة مجاورة على حد تعبيره.
وأضاف أن وضع العملة في مقر قائد الجيش يثير العديد من التساؤلات، حيث لا يتم صرف أي دولار إلا بعد الحصول على إذن منه. هذه التصريحات تعكس قلقاً متزايداً حول الشفافية المالية والإدارة الاقتصادية في البلاد، مما يثير المخاوف من تفشي الفساد في المؤسسات الحكومية، وفق تعبيره.
والأسبوع الماضي توعد السياسي السوداني مبارك الفاضل المهدي بكشف ما أسماه فساد حكومة بورتسودان التي يقودها الجيش، وقال في تغريدة على حسابه الرسمي في منصة “إكس” “يتداول عدد من المراقبين ورجال الأعمال معلومات عن تفشي الفساد في سلطة (بورتسودان) بصورة غير مسبوقة”.
وأضاف “أبلغ دليل على هذا الفساد هو السماح بتصدير كميات كبيرة من النحاس المسروق من كوابل الكهرباء في الخرطوم، وعدد من المدن”، لافتاً إلى أن مجلس الوزراء المكلف أوقف تصدير النحاس بعد تدخل الأمن الاقتصادي في السودان، لكن رغم ذلك استمرّ تصدير النحاس بكميات كبيرة بعد حصول المصدرين على استثناءات من جهات عليا.
هذا الفساد المستشري يفاقم معاناة السودانيين الى جانب استمرار الحرب الأهلية التي تشهد انتهاكات مروعة لحقوق الإنسان وكانت آخرها تلك التي شهدتها مناطق ولاية الجزيرة ودمدني بعد استعادة الجيش بها قبل أشهر حيث شهدت انتهاكات وأعمال انتقام وإعدامات ميدانية ونهب وسرقات، غير مسبوقة وراح ضحية ذلك مئات المواطنين بينهم نساء وأطفال.