آخر الأخبار

حكاوي النزوح: نساء واجهن الاستغلال ولفظ ذوي القربى (2)

شارك

سمية المطبعجي لا يمكن وصفها سوى بالمرأة القوية . ترجع بها الذاكرة إلى تلك الأيام القميئة التي مرت على دون تحسب ، كأنها دورة Game من لعبة (بوبجي) ولكنها أشد حدة في المناورة ، بل تجاوزته من الاحترافية في المناورة والمباغتة إلى دقة التصويب في الصميم محدثة شرخاً في جسد أنبل العلاقات الإنسانية في صورة شائهة تشبه تماماً هذه الحرب المجنونة . قالت بضحكة هستيرية جمعت بين التعجب والصدمة والسخرية : ” .. هل تعلمون أن أخي قام بطرد أمه المريضة وأنا وأختي بعد أن لجأنا إليه محتمين … ” . سلوى، امرأة أربعينية قوية قادرة عصامية ألفت المسؤولية منذ مرحلة مبكرة من شبابها فكانت لها . كسيدة أعمال كان وضع سلوى عبد الحليم، وهو إسم مستعار، تعمل في مجال التجميل وطباعة الثياب باحترافية جعلت منتجاتها مفضلة في الخرطوم. اخبرتنا : ” .. اشتعلت الحرب وبدأت في بحري منذ الأيام الأولى أعمال النهب بداية بالمحال التجارية ثم المنازل .. تعرض محلي المختص بالتجميل للنهب والتدمير .. وبدأت قوات الدعم السريع دخول البيوت وترويع المواطنين وسمعنا عن عمليات اغتصاب تمت .. من هنا بدأت مخاوفنا ، وزيادة على ذلك تعاني أمي من آثار جلطة دماغية وتحتاج للعلاج الذي اصبح غير متاح حينها .. انتشرت الفوضى فقررنا المغادرة الي مدني حيث يسكن أخي مع اسرته ، كنا نعتقد انها ميزة تجعل موقفنا أفضل من غيرنا من الفارين، لوجود سند نلجأ إليه .. ” . صمتت لتتابع الاتصال بمتعهد الحجز لسيارات التهريب القاصدة مصر من دنقلا، آخر مستقر لها حتى الآن بعد رحلات معاناة لا تدري أين ومتى تنتهي بها. تخبرنا سلوى عن أيام المعاناة الأولى : ” غادرنا بحري أمي وأختى الصغرى وأنا، الى امدرمان عبر كبري الحلفايا تلاحقنا أصوات القصف براً وجواً، حيث كانت حافلة صغيرة في انتظارنا مع أسرة أخرى .. سرنا جنوبا وكانت قوات الدعم السريع في كل مكان، ارتكازات شاهدناهم فيها يستولون على سيارات الدفع الرباعي والبكاسي، استولى علينا الخوف لكننا عبرنا في طريق يعرفه السائق وحده العشرات من الأسر كانت تغادر .. إلى أن وصلنا مدني وتنفسنا الصعداء دون أن يخطر ببالنا ما ينتظرنا .. ولظروف أمي الخاصة كنا ننوي اسئجار دار ولكن وجدنا أسعار الأيجارات المليارية خيالية فوق التصور .. ” . وواجه الفارون من الحرب إلى ولاية الجزيرة والولايات الأخرى التي استقبلت مئات الآلاف منذ الأيام الأولى من حرب الخرطوم التي اندلعت في الخامس عشر من ابريل 2023، إرتفاعاً حادا في أسعار ايجارات المنازل وصلت إلى أرقام فلكية قدرت ما بين 300.000 إلى 1.500.000 جنيها سودانياً وأكثر، مما اضطر الكثيرين الى اللجؤ لمراكز الإيواء في ظروف سيئة . تواصل سلوى عبد الحليم روايتها : ” … مكثنا في بيت أخينا وسرعان ما ضاقت الدار وساكنيها بنا، كان خروجي لاستكشاف الأحوال للإنطلاق في عملي الذريعة التي إتخذها أخي، فتصاعد الأمر إلى مشكلة انتهت بطردنا بما فينا أمي من بيته .. فكان ليس أمامنا غير دار الإيواء فقصدناه لا حول لنا ولا قوة … ” .

كان العبء الأكبر لتقديم الخدمات في مراكز النزوح التي استقبلت مئات الآلاف من النازحين في المدارس وداخليات الجامعات ، بالجهد الشعبي من قبل المتطوعين والمتطوعات، في وضع وظروف عانت فيها تلك المراكز من نقص حاد في المياه والرعاية الصحية وانقطاع الكهرباء . فيما استقبلت مئات المنازل عشرات الأسر من الأقارب والمعارف. لا استسلام ، كان شعارها في الحياة التي قارعتها فكانت دوماً هي المنتصرة . شيئا فشيئا تمكنت سلوى من إنعاش عملها تنثر الجمال في وجوه النساء وتأنقهن، قالت : ” .. بدأت في استئناف عملي والتعريف بنفسي وسط المجتمعات بمدني، كخبيرة تجميل واكتسبت زبونات .. ثم طباعة ثوبين فثلاث وبدأ العمل في الإنطلاق .. استأجرت جزء صغيرا مقتطعاً من محل في السوق فكان يكفي كبداية وتفاءلت بأن القادم أجمل ولكن .. ذات نهار في المحل إنقلب كل شيئ رأساً على عقب ناسفا بداية لم تكتمل.. دخل الدعم السريع المدينة فكان المشهد كيوم القيامة، كل يفر ، أغلقت المحال، سيارات مسرعة في كل الإتجاهات الخوف يسيطر على كل الوجوه .. كنت افكر في أمي وأختي هناك في مركز الإيواء .. ليأتي صوتا جهوراً من سيارة توقفت بجانبي مقاطعاً (يا أخت أركبي بسرعة يلا) … ” .
وتواصل سلوى : ” … دلفت داخل السيارة تاركة من جديد كل شيئ خلفي ، ماذا افعل للدائنين الذين وعدتهم باسترداد مبالغهم فور انتعاش عملي، أمي واختي ترى ماذا حل بهم .. ولكن مجرد النظر حولي بدأت في استعادة الثقة في الناس .. الغرباء الذين حموني في وقت تخلى عني أقرب الأقرباء .. كانت السيارة ملأى بالرجال والنساء والأطفال.. حقيقة لم تكن هناك مساحة لي ولم انتبه كيف ركبت وأين جلست .. انطلقنا مسرعين حتى وصلنا إلى أحدى القرى النائية بالجزيرة .. ترجلنا وتفرقنا في ديار متقاربة رحب أهلها بنا وسقونا واطعمونا لأيام في كرم قارب أن ينسيني كل ما واجهت من غبن، ولكن ماذا حل بأمي واختي لا اعلم عنهم شيء ولا يدرون عني، في حال تقطعت فيها وسائل الإتصال .. ” .

ولكن الغبن سرعان ما يعاود سلوى وأمثالها ، فجأة وردت الأنباء أن التتار قادمون .. قالت : ” … تشاور الناس هناك وكنت أمانتهم وأول همهم .. بشكل ما علموا أن امي واختي ذهبوا الى دنقلا، فرتبوا للحاقي بهم من أجل سلامتي .. تولوا امري حتى صعودي البص الى دنقلا وهناك ودعت كل المرؤة والكرم من أناس لا ادري ما حل بهم في تلك القرية الحنينة الوادعة .. ” . جشع وانكار وجفاء، شهامة ومروءة وكرم ، مواقف متباينة ومتنوعة خلال تجربة قصيرة اختبرتها سلوى في رحلة النزوح المفاجئة في حكاية تمثلت فيها أشكال قصص مختلفة يرويها النازحون بدم ودموع وابتسام .

رحلة المعاناة لم تنتهي بسلوى بعد إذ تقول : ” … على بعد مسافة ليست بالبعيدة من نقطة تحركنا قابلنا ارتكاز للدعم السريع، أوقف البص وانزلونا .. كانت نظراتهم لي دنيئة تملكني خوف حاولت اخفاءه .. أخبروني هكذا بأنني سأعمل معهم، وأمروني بتفتيش النساء بالبص وأخذ ما يملكون من ذهب ونقود بعد أن قاموا (بشفشفة) الرجال ، استجبت ومررت الأمر واخبرتهم أنهن لا يملكن شيئا .. أخبروا السائق بأنه يمكنه الرحيل فهممت بالركوب مع الآخرين فمنعوني ..قالوا أنت الآن تعملين معنا ، فقط النساء من اعترضن وأصروا على أن لا يغادر البص دوني واستمر رجائي ورجائهن إلى أن صرف انتباههم بشاحنة سارعوا منشغلين بنهبها، فأشار لي واحد من بينهم بأن اسرعي في المغادرة .. غادر البص ولكني تفاجأت بصوت رجل لم اسمعه مدافعاً طوال تعرضي للخطر .. كان يلومني بأنني سبب التأخير قائلا ( تتحاوموا ولايا بدون رجال وتجيبوا لينا المشاكل ..) .. اشتد الجدال الذي شارك فيه الرجال مدافعين عن موقف زميلهم الرجل الذي استقوى وطالب عند وصولنا عطبرة بأن خير بيني وبينه فتم إنزالي ليواصل المسافرين دوني .. “. كأن تبادل المواقف وأفعال البشر بين الخير والسيئ كان تسلسلاً يمضي تراتبياً في حكاية سلوى التي واصلت روايتها : ” .. غادرت البص على غير هدى ، خاوية دون مال ولا ملابس ولا أمان .. في مدينة عطبرة تحت شجرة جلست بجانب بائعة شاي اكرمتني بكوب .. كان يحلق حولها عدد من الشباب تجاذبت معهم الحديث وعلمت بأنهم نازحين من الخرطوم .. تبادلنا قصصنا .. تشاركنا همومنا، أعددنا (البوش) سويا وأكلنا تحت الشجرة، ثم تولوا أمر سفري إلى دنقلا .. كان أول بص فجر اليوم التالي فانتظرنا الموعد تحت تلك الشجرة .. ثم ودعتهم إلى دنقلا متمنية لهم آمان الله .. في دنقلا إلتقيت إمي وشقيقتي في إحدى مراكز الإيواء وبكينا كثيراً..” .

عند سلوى يبقى دوماً الأمل باقياً للنهوض مجدداً ولا يأس ما دام الإنسان حياً سويا . قالت عن تجربتها في دنقلا : “.. عانينا في مركز الإيواء المكتظ بعشرات الأسر في ظروف مشابهة لمركز الإيواء في مدني .. خرجت واختي وبدأنا من جديد في تجارة (الملايات).. مضى الأمر وانصلح الحال .. استأجرنا منزلاً بسيطا خارج وسط المدينة التي لا نقوى على تكلفة أيجارها الذي قارب المليار .. بدأنا نشعر بشيئ من السكينة إلى حين المفاجأة .. ” .

إنقلبت الدائرة على شقيق سلوى بعد دخول قوات الدعم السريع ليخرج نازحاً وأسرته إلى الشمالية ليتفاجأوا بهم في دارهم دون أن يرمش له جفن . قالت سلوى : ” .. رغم جرأته في القدوم إلينا استقبلناه بدارنا على ضيقه وكأن لم يحدث شيئ ومضينا في عملنا .. يوما بعد آخر بدأ في استعادة ثقته بنفسه ومعاودة ممارسة هوايته في حب السيطرة .. انتقد خروجنا كل يوم والعودة مساءً كأنه يتجاهل كيف يسكن وكيف يأكل من تعبنا حلالا طيبا .. اجبته بأن لا مانع من أن نبقى (حريما) بالمنزل ويتولى هو مسؤوليتنا فتطاول علي ضرباً .. عندها قررت الخروج نهائياً إلى مصر وإن كانت المخاطرة في وضع أمي .. ” . أمل وصمود وقوة وثقة، صفات لإمرأة لا ندري الآن عن مصيرها وإلى أين ساقتها الأقدار . ولكن مثلها لابد أنها تقف في رقعة ما بمسؤلية ودون انكسار .

مداميك

الراكوبة المصدر: الراكوبة
شارك

أخبار ذات صلة



حمل تطبيق آخر خبر

إقرأ أيضا