عاد التنافس بقوة على ولاية الجزيرة بين الجيش وقوات الدعم السريع، باعتباره أحد المفاتيح التي سترجح كفة أحديهما في الصراع، ويعود ذلك إلى موقعها الجغرافي الإستراتيجي، وأيضا إلى أهميتها على المستويين الاقتصادي والخدماتي.
الجزيرة (السودان) – تصدرت ولاية الجزيرة والتي تعرف بـ”سلة غذاء السودان” في الأيام الأخيرة واجهة الأحداث في هذا البلد الذي يشهد حربا مستمرة من أبريل من العام الماضي. ويخوض الجيش وقوات الدعم السريع معارك عنيفة في الجزيرة، التي تسيطر عليها قوات الدعم السريع منذ أواخر العام الماضي.
وتحتل ولاية الجزيرة موقعا إستراتيجيا، حيث تربط عدة أقاليم سودانية، وهو ما يفسّر حرص طرفي الصراع على السيطرة عليها، فهي المدخل الجنوبي للعاصمة الخرطوم، ومفتاح العقد بين ولايات الخرطوم وسنار والقضارف.
وتربط الولاية غرب البلاد بشرقها، وتعد معبرا للواصلين من دارفور وكردفان والنيل الأبيض عبر طريق كوستي، ومن ثم يتفرّع منها طريق رئيس يفضي إلى القضارف وكسلا وموانئ شرق السودان على البحر الأحمر. وصعد الجيش السوداني من عملياته ضد الدعم السريع في ولاية الجزيرة بعد انشقاق أبوعاقلة كيكل، وهو قيادي بارز للدعم في الولاية وانضمامه إلى الجيش.
ويعتقد الجيش أن انضمام كيكل يمثل فرصة ثمينة لمحاولة استرداد الولاية، حيث مثلت خسارتها في وقت سابق ضربة قوية، وأظهرت أن أذرع الدعم طويلة وتستطيع الوصول إلى أيّ مكان في البلاد، من الغرب إلى الشرق، والوسط والجنوب، وليست قاصرة على سيطرتها على غالبية مدن إقليم دارفور والعاصمة الخرطوم.
◙ قادة الجيش بدأوا عملية تحشيد متعددة في الجزيرة، تشمل تحريض السكان وتسليح أعداد كبيرة منهم
ويبدو أن قادة الجيش امتصّوا صدمة فقدان الجزيرة، وبدأوا عملية تحشيد متعددة، تشمل تحريض السكان وتسليح أعداد كبيرة منهم، والدفع بميليشيات إسلامية تعمل بالتعاون والتنسيق مع الجيش نحو الولاية، وإرسال عناصر عسكرية مدربة إلى مشارفها، لتشتيت انتباه قوات الدعم السريع، التي شن الجيش ضدها مؤخرا حملة معنوية تشكك في ولاءات بعض المنتمين إليها وتضخيم عملية انشقاق كيكل وعدد من المستشارين عنها، بهدف تقليل الالتفاف الشعبي والسياسي حولها، بعد تمكّنها من تشكيل إدارات أهلية ناجحة في ولايات تمت السيطرة عليها الأشهر الماضية.
ويقول مراقبون إن من يسيطر على الولاية سيكون المتحكم في مفاصل عسكرية عديدة، خاصة منطقة شرق السودان التي تتخذها حكومة الأمر الواقع مقرا للسلطة، وانتقلت إليها غالبية قيادات الجيش بعد اندلاع الحرب مع قوات الدعم السريع التي تعتبر البقاء في الجزيرة واستمرار السيطرة عليها يسهلان عليها عملية الوصول إلى بورتسودان.
ويضيف المراقبون أن الجيش يتحسّب من الوقوع في هذا الفخ – الكماشة، ويعلم أن مصيره وسلطته على المحك وباتا مرتبطين بطرد قوات الدعم السريع من الجزيرة، لأن البقاء بها يعني تهديدا مستمرا للجيش، وتشتيتا لقواته التي تحارب على جبهات متقطعة، وبعد أن ضخّم الجيش من عملياته في الخرطوم اكتشف صعوبة تغيير الواقع الذي فرضته الدعم السريع، ووجد أن ترك الجزيرة في يد عناصرها يعني تهديدا مباشرا لمنطقة شرق السودان، ولذلك لجأ الجيش إلى تجهيز ميليشيات قبلية جديدة خوفا من سيناريو الاقتراب منها في أيّ لحظة.
ويؤكد المراقبون أن قيادة الجيش السوداني استثمرت في بعض التقارير الدولية التي لا تصبّ في صالح قوات الدعم السريع، حيث تحدثت عن انتهاكات إنسانية لبعض عناصرها في ولاية الجزيرة، وقام الجيش بتركيز عملياته هناك، على أمل كسب نوع من التعاطف، والإيحاء بأنه يريد منع حدوث انتهاكات، لكن الاتهامات نفسها لاحقت عناصر الجيش أيضا، ما يجعل هناك صعوبة في أن ينطلي خطابه على أحد.
وإلى جانب أهمية موقعها الجغرافي فإن ولاية الجزيرة تشكل عصب اقتصاد السودان، وتضم أكبر مشروع ريّ في القارة الأفريقية، ويعد المشروع الرافد الرئيس للمخزون الإستراتيجي من محاصيل القمح والذرة، وقد يؤدي تأثر الموسم الزراعي فيه جراء الحرب إلى تزايد أزمة الغذاء في كامل البلاد.
وتعد مدن ود مدني (العاصمة)، والمناقل، والحصاحيصا، أكبر حواضر الولاية، وهي أسواق ضخمة للقرى المجاورة خاصة، ويضم الثالوث عدد ضخم من مطاحن الدقيق ومصانع الغزل والنسيج على نحو خاص. وتعتبر الولاية مستوطنة للخدمات الطبية والصحية، حيث تحتضن مشافي مركزية متخصصة، وعددا كبيرا من المستوصفات والعيادات الخاصة، والصيدليات. وأثمرت الجهود الشعبية، عن إقامة عدد كبير من المنشآت الطبية لخدمة أهالي القرى والأرياف.
◙ قيادة الجيش السوداني استثمرت في بعض التقارير الدولية التي لا تصبّ في صالح قوات الدعم السريع
وقادت حركة النزوح الضخمة، بما في ذلك هجرة الكوادر الطبية، إلى تحول الولاية إلى وجهة للباحثين عن التطبيب والعلاج، وهو أمر بات على المحك، عقب انتقال العمليات القتالية إلى شرق الولاية وشمالها.
تعليمياً، تحتضن الولاية أكبر وأول جامعة أقيمت خارج أسوار العاصمة الخرطوم (جامعة الجزيرة) منذ سبعينات القرن الماضي. وقدمت الجامعة خدمات جليلة للولاية خاصة مشروعها الزراعي الأبرز (مشروع الجزيرة) وتحديداً في مجالي الزراعة وإدارة عملياتها المختلفة، إلى جانب تميزها الكبير في البحوث الزراعية.
وبحسب صحيفة “التغيير” المحلية فإن عمليات التوسع الأفقي غير المدروس في حقبة الإسلاميين أثّرت على مستوى جودة التعليم، حيث نشأت عدة كليات وجامعات أقل شأناً من الجامعة الأم (جامعة الجزيرة) في كل من مدني، الحصاحيصا، المناقل، والمحيريبا. ولطاما شكلت الجزيرة نقطة جذب لعدد كبير من القوميات والإثنيات لقرون خلت، لكن هناك مخاوف جدية اليوم من وقوعها في أتون صراع أهلي على أسس عنصرية وقبلية، في ظل حالة الاستقطاب الحالية.
وعلى المستوى السياسي برزت الولاية مبكرا، حيث تعد ود مدني النواة لقيام مؤتمر الخريجين صاحب الفضل الأكبر في استقلال السودان من الاستعمار الانجليزي. وبعد وصول الإسلاميين إلى السلطة تعرضت الولاية ولاسيما قطاعها الزراعي إلى عملية تهميش ممنهجة لدوافع أيديولوجية، وسبق وأن قال الرئيس المعزول عمر البشر إن “مزارعي الجزيرة شيوعيون”.
وبالنظر إلى موقعها الجغرافي، وأهميتها الاقتصادية والخدماتية، فإن كل طرف يحرص على كسب ولاية الجزيرة في صفه، باعتبارها المفتاح الذي يمكّنه من مواصلة صموده، في حالة الجيش، أو انتصاراته، في حالة الدعم السريع، ما يؤجل الحديث عن التفاوض بينهما إلى أجل غير مسمى. ويسعى الجيش حاليا إلى تغيير الأوزان العسكرية التي تميل لصالح الدعم السريع، بعد تلقيه معدات وأسلحة من جهات مختلفة، ويبقى نجاحه رهين ما ستكشفه نتائج المعارك الجارية في ولاية الجزيرة.
العرب