كتب الأستاذ الجامعي د. محمد عبد الحميد
المقال الذي كتبه د. النور حمد بعنوان (يفقد المدني حقه كمدني بمجرد أن يحمل السلاح) صُمم بحيث يعطي القارئ من الوهلة الأولى إيحاءات بأن مجرد حمل المدني للسلاح يفقده حقه في الحماية، ويتأكد ذلك من عنوان المقال، فضلاً عما حشده في المقال من مواد القانون الدولي الإنساني لا مراء في نصها ومدلولها… وقد تم تغليف المقال بإسقاطات ذاتية في مقدمة وخاتمة المقال حيث قال في المقدمة :(ضلوع المدنيين في القتال يسلبهم الحقوق المنصوص عليها في القانون الدولي الإنساني إذ يحولهم لمقاتلين وهنا يفقدون مبدأ الحماية بالقانون نظرا لتحولهم من صفة مدنيين لمقاتلين).
إذا كان الكاتب يشير لما جري من أحداث خاصة في ولاية الجزيرة والمجازر التي شهدتها منطقة شرق الجزيرة، وهزت الضمير الإنساني، فيجب التذكير في البدء بأن معظم المراقبين والفاعلين والقوى السياسية لم يترددوا في وصف ما جرى في الجزيرة بأنه يرتقي لجرائم الحرب بحق المدنيين. حيث لم يكن لإرتكارب تلك الفظائع مبررٌ كافي. فقتل المدنيين بدم بارد لا تَطمِس معالمه تدبيج المقالات المرصعة بمواد من القانون الدولي الإنساني مهما سُرد من مواد أو مهما تم من إسقاطات، الشئ الذي يقدح في نوايا النور حمد وموقفه من الضحايا، بل ويفضح للأسف الشديد جهله بمرامي وفهم القانون الدولي الإنساني، وكيف تُفسر مواده وكيف تُقرأ في حالات النزاعات المسلحة. فالواضح أن د.حمد غير مطلع بشكل كافي على أدبيات اللجنة الدولية للصليب الأحمر في إجتهاداتها المتصلة لتكييف مواد ونصوص القانون الدولي الإنساني مع ديناميات النزاعات المسلحة والحروب، نسبة لأن هذا القانون لا ينطبق عليه مبدأ One size fits all بمعنى أن هنالك حالات محددة يمكن أن يرفع فيها المدني السلاح ويظل متمتع بصفته كمدني وبالتالي الحماية… بل حتى أن المحاربين الحاملين للسلاح والذين أصبحوا عاجزين عن القتال يشملهم مبدأ الحماية.. وليس هنالك مبرر أخلاقي يجعل د.حمد في وضع يدافع فيه عن سلوك إجرامي في تصفية مدنيين جسدياً في قرية نائية لم يخبروا السلاح في ثقافتهم المحلية الموروثة إلا بعد أن وصلتهم الحرب في عقر دارهم وبعد شعروهم بأنهم مستهدفين في أرواحهم وممتلكاتهم وأعراضهم… كما أن د.حمد قد تناسى مبدأ مهماً من مبادئ القانون الدولي إن كان ينطلق من مبدأ أخلاقي في النظر لقضايا الحرب والنزاع، وهو مبدأ (التناسبية Proportionality ) هو إستخدام الدرجة المناسبة من العنف مع حجم الجُرم المقرر.. فما تم ممارسته بحق المدنيين قد تجاوز ذلك المبدأ بمراحل بعيدة ومخزية.
كما د.حمد قد قفز في نهاية مقاله بعد سرد بعض المواد القانون الدولي الإنساني الي ما أسماها خلاصة قانونية كأنه مشرّع في القانون الدولي الإنساني فقد ذكر بالنص : (الدلائل القانونية تشير بوضوح الي أن حماية المدنيين تعتمد على عدم مشاركتهم في الأعمال العدائية وبمجرد مشاركتهم بشكل مباشر في العمليات القتالية أو تقديم دعم ملموس للقوات المسلحة، فإنهم يفقدون الحماية التي يتمتعون بعد كمدنيين ويصبحون أهدافا مشروعة للهجمات) … هنا يمكن ملاحظة أن الكاتب قد قصف هؤلاء المدنيين بأسلحة محرمة أخلاقياً بعد أن حاقت بهم تلك المجازر المروعة بتجريدهم من حق الحماية بوصف أعمالهم أما أنها عدائية أو بمشاركتهم في الأعمال القتالية أو تقديم دعم ملموس للقوات المسلحة… وهذه الأخيرة أي تقديم الدعم للقوات المسلحة هذا أمر لم يرد في سياق الحرب في الجزيرة على أقل تقدير لأنها لم تجرِ فيها إشتباكات عسكرية بالمعنى الحقيقي… أما اشتراكهم في الأعمال العدائية والعمليات القتالية فهذا يتطلب تفسير “المشاركة المباشرة” في “الأعمال العدائية” وهذا ما لم يجهد نفسه فيه د.حمد لقصور واضح في فهمه لما تشير إليه مدلولات المشاركة المباشرة والأعمال العدائية.
إن تفسير المشاركة المباشرة يقود في نهاية الأمر وبحسب اللجنة الدولية للصليب الأحمر لأهمية تمييز “المشاركة المباشرة” بمعنى هل تتصل بعمليات الدفاع عن النفس مثلاً أم أنها تقع ضمن دعم طرف من أطراف الحرب بغرض ونية إيقاع ضرر مباشر على العدو كالموت والإصابة والتدمير… فضلاً عن أن اللجنة الدولية تتحدث في أدبياتها عما تسميه ب (الهَبّة الشعبية) والتي هي في النهاية تمثّل شكلاً من أشكال المشاركة في الأعمال القتالية، غير أنها في نفس الوقت لا تسقط حق الحماية بحكم أن المنخرطين في الهبات الشعبية مدنيين ومحميين بموجب القانون الدولي فقد ورد في كتاب (القانون الدولي الإنساني – مقدمة شاملة الصادر عن اللجنة الدولية 2016 في صفحة 80 تحت عنوان جانبي المشاركون في هَبّة شعبية حيث تؤكد أن الصفة المدنية لا تسقط عنهم حيث أوردت ما نصه : “أما الاشخاص الآخرين الذين يشاركون مشاركة مباشرة في العمليات العدائية على أساس تلقائي أو متقطع أو غير منظم فيجب إعتبارهم مدنيين”.) وهذا التوصيف بالضبط ينطبق على أهالي الجزيرة فحتى بفرضية رفعهم السلاح فإن ذلك قد كان كرد فعل تلقائي ولا يدرجهم ضمن القوى المسلحة النظامية المقاتلة، فهم ليسوا جزءا من الجيش ولا القوات المشتركة ولا قوات كتائب البراء على سبيل المثال ولا مُستنفَرِين بالمعنى العسكري للكلمة.. لذلك لا يتم حرمانهم من حق الحماية بوصفهم مدنيين في حالة دفاع عن النفس. أو كما أوردت اللجنة الدولية للصليب الأحمر المشاركين في هبة شعبية من حقهم أن يُعاملوا كمدنيين طالما لم يكونوا جزءا من التشكيلات العسكرية المسلحة المنظمة.
الواضح أن الدكتور حمد يحاول إطلاق تعميم مخل بإسقاط حق الحماية عن المدنيين الذين يدافعون عن أنفسهم بأنهم قد جنوا على انفسهم ويستأهلون ما حاق بهم من مجازر طالما رفعوا السلاح دون أن يبيّن مستويات الأضرار الناجمة عن رفع السلاح وتناسبها مع العقوبة وفي ذلك تطفيف بيّن ومخزي.
تجدر الإشارة هنا الي حقيقة أن السياق الذي حدثت فيه المجازر في الجزيرة يقع ضمن ما يُحرِّمه القانون الدولي الإنساني فيما يُعرف ب (الإقتصاص من المدنيين) الذي لم يعد يردع أصحاب الدوافع الشريرة الذين تضطرم في عروقهم هرمونات الإنتقام المقيت بلا رادع، وبشهوة تستعر كلما إزداد سلسال الدم زادهم ولوغاً فيه. فالقانون الدولي الإنساني بصفة عامة يقدم الحماية حتى للمقاتلين النظاميين المحترفين حال عجزهم عن القتال كالأسرى والجرحى والمستسلمين والمرضى والعالقين في السفن الغارقة ويحرم قتلهم وتصفيتهم. فما بال النور حمد بمزارعٍ بسيط في صقع من قرى الجزيرة رفع سلاح بدائي في وجه عدو مدجج بالأسلحة الفاتكة إستهدفه داخل بيته ليسلب ماله ويهتك عرضه ويستحل دمه.
د. محمد عبد الحميد أستاذ مادة الحد من مخاطر الكوارث بالجامعات السودانية والنائب السابق لرئيس جمعية الهلال الأحمر السوداني
سودانايل