آخر الأخبار

الجنيه السوداني.. من بعد قوة ضعفا

شارك الخبر

 

بعينين تملؤهما الحسرة وبصر معلق يرقب راحتيه وهما تقلبان ورقة النقد السودانية من فئة الـ50 جنيهاً، ليتساءل السوداني السبعيني عثمان تاج إبراهيم، مجتراً بعضاً مما علق بالذاكرة من شجن لم يطوِه النسيان، ترى كم كانت تشتري وماذا حل بها؟

حروب واضطرابات وعقوبات، ملمات اجتمعت على الجنيه السوداني وناءت بما لا يقوى على حمله، ففرطت عقده وأذهبت عنه القيمة والقامة، يوم كان بالأمس القريب أكثر قيمة من الدولار الأميركي، قبل أن يضحي جزءاً صغيراً على الـ2000 من الدولار الواحد.

أمام شرر الحرب ومستطيرها، نزح عثمان، المزارع السوداني عن الخرطوم حيث كان ينعم وأولاده وأحفاده بسنوات خاليات صافيات من أوجه الكدر، مؤثراً في رحيله إلى حي عابدين بالقاهرة الاحتفاظ بما ينعش الذاكرة، صور ومسبحة وفئة نقد سودانية ورقية ولوازم أخرى تكفل له الغوص في ساعات الخلوة إلى داخله والانسحاب فيه ليقلب في قديم غادره.

رمز الاستقلال واستعادة السيادة

كيف كان الجنيه السوداني؟ كم كان يساوي؟ وما هي قيمته على مدى عقود تلت نشأة سلطة إصدار النقد عام 1956، يوم سعد الناس بعملة وطنية كانت رمزاً للاستقلال وعنواناً لاستعادة السيادة، وبها من القوة ما يفوق الدولار بمراحل.

ولد الجنيه السوداني فتياً بعوامل قوة ووهج، واقتصاد نفطي وزراعي وتعديني داعم، وظل على بأسه متماسكاً حتى زمن قريب، وسجل، كما يستذكر عثمان، في أوج مجده ما يزيد على ثلاثة دولارات عام 1970، قبل أن يضعف لأسباب لا يعددها الرجل على نحو دقيق، وإن منحته سنواته الـ70 فرصة اختبار هذه القوة عبر معايشة فئات النقد المختلفة وقدرتها الشرائية، قبل أن يراه معتلاً في زمن الاضطراب والتقلب والحرب، وصولاً إلى حال اللاقيمة، ورقة بالية بألوان ورسومات باهتة، أكثر كلفة في طباعتها مما تعنيه، وزودت بأصفار كثيرة وقدرة شرائية أقل، “أموال بلا بركة على كثرتها”، كما يقول.

ولادة السوق السوداء

لكن متى وكيف استبدل الجنيه السوداني من بعد قوة ضعفاً؟… الأسباب كثيرة، فكان للنقد السوداني حظ من التقلب الذي عاناه هذا البلد المبتلى بالاضطراب على كثرة ما فيه من نعم وخيرات، ولعل أحوال النقد السوداني أخذت مسار التبدل بدءاً من نهاية سبعينيات القرن الماضي، إذ ظلت سوق سعر الصرف واحدة منذ النشأة مدعومة بتولي بنك السودان المركزي عمليات بيع وشراء العملات الأجنبية، مع استعداد للتدخل في أي وقت على جانبي العرض والطلب منعاً لتغيير سعر العملة عن المستوى المحدد، حتى عام 1979 الذي شهد ولادة سوق موازية للصرف بعد تعديل لائحة التعامل بالنقد الأجنبي لتشمل حرية حيازة إدخال وإخراج النقد الأجنبي من دون قيود، بحسب ورقة بحثية لأستاذ الاقتصاد في جامعة النيل الأبيض السودانية صلاح محمد إبراهيم، بعنوان “أثر سياسات سعر صرف الجنيه السوداني على أسعار المستهلك ومعدلات التضخم”.

بحسب ما يؤرخ الباحث تاريخ ظهور السوق الموازية ومسببات تلك الولادة، يقول إنها نشأت عام 1979 إثر اختلال المالية واتساع عجز الموازنة من 30 مليون جنيه عام 1973 إلى ما يفوق 150 مليون جنيه في 1975، مما أدى إلى لجوء الحكومة إلى الاستدانة من القطاع المصرفي، وأصبح معدل التضخم السائد في السودان أعلى من معدلات التضخم في الأقطار التي يتعامل معها تجارياً، بالتزامن مع ارتفاع فاتورة الواردات من 118 مليون جنيه سوداني للفترة ما بين 1970-1973 إلى 250 مليوناً في 1975، مما فاقم من العجز في ميزان الحساب الجاري من متوسط 19 مليون جنيه إلى 150 مليوناً، ولتغطية هذا العجز لجأت الحكومة إلى الاقتراض الخارجي غير الميسر، مما أدى إلى ارتفاع ديون السودان الخارجية من 162 مليون جنيه بنهاية 1972 إلى 390 مليوناً بنهاية يوليو (تموز) 1975، وزادت معها خدمة الديون كنسبة من إيرادات العملات الأجنبية من 17 في المئة إلى 27 في المئة.

الجنيه بـ1.30 للدولار

ويتحدث إبراهيم عن رحلة أفول الجنيه السوداني عقب تلك الفترة، إذ سجل سعر صرف الجنيه السوداني 1.30 للدولار الواحد حتى عام 1984، قبل أن يخفض سعر الصرف الرسمي بنسبة 48 في المئة ليصبح الدولار بـ2.5 جنيه سوداني، وتواصلت بعدها سياسة خفض سعر الصرف حتى عام 1986 ليسجل بنهايته 4.90 جنيهاً للدولار، ثم خفض آخر بنسبة 45 في المئة في العام التالي، وخفض ثالث بنسبة 62 في المئة بحلول عام 1988، ثم تواصل هبوط الجنيه بين 1990 و1996 كجزء من حزمة سياسات للإصلاح الاقتصادي، استهدفت معالجة مشكلات ميزان المدفوعات ومنح العملة السودانية قيمة أكثر واقعية أمام العملات الأخرى.

ويضيف الباحث أن عام 1997 شهد استئناف الخرطوم العلاقات مع صندوق النقد الدولي بصورة جزئية من دون مساعدات مالية، وجرى الاتفاق آنذاك على اعتماد “سعر الصرف الزاحف”، وفيه تخفض السلطات النقدية من قيمة العملة بمقدار صغير أسبوعياً أو يومياً، واتسم سعر الصرف حتى عام 2002 بمرونة نسبية، بخاصة مع إلغاء بنك السودان المركزي تحديد سعر الصرف وسماحه للبنوك التجارية بتحديده وفق آليات العرض والطلب، على أن تتولى سلطة إصدار النقد (المركزي) إعداد متوسط ترجيحي للبنوك، مع استحداثها آلية التدخل في سوق النقد الأجنبي عبر شراء وبيع العملات الأجنبية من وإلى البنوك وشركات الصرافة.

انفصال الجنوب السوداني

في بداية الألفية، سجل سعر الجنيه السوداني 2.40 للدولار، ثم 2.59 للدولار عام 2001، لكن في 2002 كان الاتفاق مع صندوق النقد الدولي ضمن برنامج الإصلاح الاقتصادي أن يطلق سراح الجنيه السوداني مرناً على نحو مُدار، بما يضمن استقرار سعر الصرف، وكان سعر الجنيه السوداني آنذاك 2.63 للدولار الواحد رسمياً مقابل 2.68 في السوق الموازية، ومع تحسن موقف الاحتياط الأجنبي ارتفع سعره بنهاية أكتوبر (تشرين الأول) من عام 2005 إلى 2.31 للدولار الواحد، وفي نهاية العام التالي سجل 2.17 جنيه للدولار.

وشكّل انفصال الجنوب السوداني عن شماله في 2011 محطة مفصلية في تاريخ الجنيه، إذ كان سعره 2.66 للدولار قبل أن يتراجع في العام التالي إلى 4.41 للدولار، وهو العام الذي اتخذ فيه البنك المركزي للسودان حزمة من الإجراءات التصحيحية بهدف تخفيف آثار انفصال الجنوب الغني بالنفط عن الشمال. ثم تراجعت العملة السودانية إلى 5.69 للدولار عام 2013 و5.97 للدولار في 2014، وصولاً إلى 10 جنيهات للدولار الواحد عام 2015 ثم إلى 52 جنيهاً للدولار في 2018، و87 للدولار خلال عام عزل الجيش للرئيس السابق عمر البشير، ليقفز السعر إلى 262 جنيهاً للدولار في 2020.

فقدان صادرات البترول

أما “العوامل المؤثرة في سعر صرف الجنيه السوداني”، فكانت موضع دراسة الباحث أبوبكر عبدالله الطيب خلال الفترة ما بين 2001 و2020 والتي لخصها في ورقة بحثية منشورة بالعنوان نفسه في مجلة الزرقاء للبحوث بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، ويعدد منها انفصال الجنوب الثري بالنفط عام 2011 وفقدان الخرطوم جزءاً كبيراً من صادرات البترول مقابل ارتفاع الواردات، وصعود كلفة إنتاج الصادرات التي تحوي مدخلات إنتاج مستوردة في الأساس، إضافة إلى تأرجح الصادرات الزراعية للبلاد من دون أن تشهد طفرات في الحجم والعائد، مع فقدان السودان جزءاً من نصيبه في السوق العالمية لبعض السلع مثل الصمغ العربي والكركديه والسمسم بسبب مشكلات في الإنتاج والتسويق، مما قاد إلى انخفاض إيرادات الصادرات 15 في المئة بحلول عام 2018.

بحسب ما يبدو جلياً عند مطالعة الأرقام، اقتفى التضخم في السودان أثر سعر صرف الدولار أمام الجنيه ولاحقه ارتفاعاً، فصعد من 4.60 في المئة عام 2000 ليصل إلى ما يزيد على 300 في المئة بحلول عام 2023، مع زيادة سعر العملة السودانية رسمياً إلى 581 جنيهاً للدولار الواحد، واتساع الفجوة مع السعر الموازي الذي يزيد على 1500 جنيه للدولار، مما أسهم بدوره في معدلات تضخم قاسية بلغت عام 2020 نحو 99 في المئة وقفزت بحلول العام التالي صوب 304 في المئة ثم 154.9 في المئة عام 2022 و76.9 في المئة بنهاية 2023.

على خلفية تدهور قيمة الجنيه في السوق السوداء وانفلات الأسعار وارتفاع معدلات البطالة، خرج السودانيون في الـ19 من ديسمبر (كانون الأول) عام 2018 مطالبين بإسقاط النظام، وعشية عزل الرئيس السابق في الـ11 من أبريل (نيسان) 2019، سجل سعر العملة الوطنية 53 جنيهاً للدولار في السوق الموازية، قبل أن ينفرط عقده بعد ذلك وصولاً إلى 450 للدولار في عهد حكومة عبدالله حمدوك الذي أدى يميناً دستورية في أغسطس (آب) 2019.

قفزات بأجور العاملين

عملت الحكومة الانتقالية على ترميم الجنيه المتآكل وكبح جماح التضخم ومنح السودانيين مقدرة أكبر على الشراء، فأقرت زيادات غير مسبوقة قفزت بأجور العاملين إلى ما يقارب سبعة أضعاف، حين رفعت في مايو (أيار) 2020 الحد الأدنى للأجور من 425 جنيهاً في الشهر إلى ثلاثة آلاف جنيه دفعة واحدة.

وأمام آمال واسعة في معالجة التشوهات والاختلالات في منظومتي الدعم وسعر الصرف، أقدمت الحكومة الانتقالية على تبني برنامج وطني للإصلاح الاقتصادي، تضمن تعويم الجنيه السوداني أملاً في توحيد سعر الصرف والقضاء على نشاط السوق الموازية. ومع اتخاذ قرار التعويم في الـ21 من فبراير (شباط) 2021، ارتفع سعر الدولار من 55 جنيهاً سودانياً إلى 376 جنيهاً في المتوسط، بعدما قفز السعر في السوق السوداء إلى مستويات تجاوزت 400 جنيه.

وفي يونيو (حزيران) 2021، أعلنت السلطات تحريك أسعار الوقود بنسبة 100 في المئة، ثم عززت إجراءاتها بتحرير ثانٍ في سعر الصرف في السابع من مارس (آذار) 2022، سعياً إلى تحسين وضعه أمام العملات الأجنبية، بحسب إفادة بنك السودان المركزي آنذاك، ليصعد سعر الدولار في أول يوم لتنفيذ قرار التحرير في المصارف الرسمية من 467 إلى 530 جنيهاً، بينما بلغ في السوق الموازية 560 جنيهاً، وواصل الارتفاع بعد ذلك ليكسر حاجز الـ700 جنيه.

كان صباح الـ25 من أكتوبر 2021 موعداً تبخرت فيه آمال السودانيين في إصلاح اقتصاد بلادهم مع إعلان المؤسسة العسكرية إنهاء الفترة الانتقالية، وزج قادة الحكومة في السجن، لتبدأ بعدها مسيرة التدهور المتسارع، وفق ....

لقراءة المقال كاملا إضغط هنا للذهاب إلى الموقع الرسمي
الراكوبة المصدر: الراكوبة
شارك الخبر

إقرأ أيضا