آخر الأخبار

من يقف وراء التهجير السري للغزيين؟ تحقيق استقصائي للجزيرة يكشف الخفايا

شارك

في تقاطع على أطراف المواصي في خان يونس ، يعرفه أهل المنطقة باسم "فيش فريش" Fish Fresh، كانت العائلات تأتي إلى هذا المطعم المطل على البحر في ساعات الغداء والعشاء لتنسى الحصار الخانق ولو لساعات. لكن صارت العائلات تلتقي هناك في الثالثة صباحا، لا لتناول سمك غزة اللذيذ، لكن للخروج من القطاع، بعد أن دُمر المطعم، وتحول إلى محطة سفر سرية.

في الثالثة صباحا من أحد أيام الشتاء القارس كان عشرات الفلسطينيين ينتظرون، وبينهم كان بشير، القادم من رفح، والذي لم يعد يملك من حياته سوى الثياب التي يرتديها وهاتفه الذي يحمله. كان بشير، مثل غيره، قد تلقى تعليمات عبر تطبيق واتس آب جاءته من كيان يطلق على نفسه اسم " المجد أوروبا ". وعد هذا الكيان بتحقيق ما عجزت عن توفيره وكالات الإغاثة الدولية، وحكومات دول الطوق، وقرارات الأمم المتحدة ، وتدخلات الوسطاء، وعد بإيجاد طريق للخروج من جحيم الحرب.

مصدر الصورة شركة فلاي ليلي من الشركات التي شاركت في نقل الغزيين إلى خارج القطاع (شترستوك)

لم تبد تلك محاولة إسرائيلية للتهجير، فبشير بالفعل يريد النجاة من مآسي الحرب، وقد أخبروه أن لا أحد سيجبره على ألا يعود، فلم يوقع تعهدا بالرحيل، وهو ينتظر فقط أن يبني حياته في الخارج ليعود إلى غزة من جديد. وفي سبيل ذلك فقد دفع مثل غيره أكثر من 4 آلاف دولار لمقعده في الحافلة والطائرة. ومع صعوده إلى الحافلة التي ستقله إلى معبر كرم أبو سالم، مخلفا وراءه الأطلال التي دمرها الاحتلال، لم يكن يدري أنه يُخدع، وأن رحلته تلك هي مجرد صورة أخرى لخطة النكبة الجديدة التي تريدها إسرائيل بلا عودة.

اقرأ أيضا

list of 2 items
* list 1 of 2 هل ستنفجر فقاعة الذكاء الاصطناعي قريبا؟
* list 2 of 2 سؤال القرن الحالي.. هل الفلسفة ضرورية للعلم؟ وهل ماتت حقا؟ end of list

هذا ما كشفه التحقيق الاستقصائي الرقمي للجزيرة الذي يحمل عنوان "من يقف وراء التهجير الناعم للغزيين؟" حيث تتبع فريقها عمليات تهجير سرية ومنظمة لسكان قطاع غزة شملت حتى الآن المئات منهم نحو 3 دول في أفريقيا وآسيا.

مصدر الصورة رقم هاتف وبريد الكتروني لتحفيز الغزيين على الهجرة (الجزيرة + وكالات)

ويكشف التحقيق الاستقصائي، الذي يستند إلى مصادر حصرية ومعلومات موثقة وتقارير إعلامية دولية وإسرائيلية، شبكة مُعقّدة ومُنظمة تقف وراء عمليات نقل مئات الفلسطينيين من قطاع غزة إلى هذه الدول، تورطت فيها جمعية "المجد"، وما يُسمى بمكتب "الهجرة الطوعية" الإسرائيلي الذي أُنشئ حديثا.

"الصهيوني الطيب" في وزارة الدفاع

في يوم من أيام مايو/أيار 2025، ومن مكتب مكيف في أحد الطوابق العلوية بمقر وزارة الدفاع الإسرائيلية (الكرياه) في تل أبيب ، يجلس العقيد المتقاعد يعاكوف بليتشتاين، يتابع باهتمام صورا أمامه تُظهر أطفالا مع عائلاتهم يتكدسون في حافلة تجتاز حدود قطاع غزة. بدا الأطفال سعداء في الصور، فلأول مرة منذ 19 شهرا لا يسمعون صوت الزنانات فوق رؤوسهم ولا يخشون من صاروخ إسرائيلي مفاجئ من شأنه أن يحولهم إلى رقم ضمن الضحايا.

مصدر الصورة كوبي بليشتاين، انتقل من وزارة الخارجية إلى وزارة الطاقة ثم مصلحة السجون والآن يشرف على تهجير الفلسطينيين (وكالات)

ففي الوقت الذي كانت فيه كل مكاتب وزارة الدفاع تدير وتشرف على عمليات عسكرية مدمرة ضمن حرب الإبادة الإسرائيلية للتعامل مع المعضلة الأمنية التي تشكلها المقاومة الفلسطينية لإسرائيل، كان بليتشتاين (المعروف باسم كوبي) يشرف على حرب من نوع آخر، يسعى فيها لحل المعضلة الديمغرافية التي يشكلها الفلسطينيون جميعا لإسرائيل!

إعلان

قبل ذلك اليوم بأقل من شهرين، وفي نهاية آذار/مارس، كان وزير الدفاع الإسرائيلي يسرائيل كاتس قد عين بليتشتاين مسؤولا عن "مديرية الهجرة الطوعية"، لتنسيق تهجير الفلسطينيين من قطاع غزة. أراد الإسرائيليون أن يبدو مكتب بليتشتاين هو المنفذ الوحيد وسط كل النيران التي حاصروا بها الفلسطينيين في غزة.

مصدر الصورة الطائرة التابعة لشركة Fly Lili في مطار رامون 27 مايو 2025 فلايت رادار (الجزيرة + وكالات)

على شاشة الحاسوب أمام بليتشتاين، تمر القوائم القادمة من شركة "المجد أوروبا" بسلاسة غير معتادة. فخلال فترة قصيرة لم تتعد 6 أسابيع، تحول الترتيب مع مكتب تنسيق أعمال الحكومة (كوغات) إلى إجراء روتيني بسيط. ولم تعد هناك حاجة للشاحنات العسكرية التي تكدس فيها الفلسطينيون في مايو/أيار عام 1948 زمن النكبة الأولى. اليوم يكفي تخفيف القبضة الأمنية بعض الشيء، وتوقيع عقد مع شركة طيران متعثرة لتنفيذ المهمة.

يبتسم كوبي بليتشتاين وهو يراجع الصور وأسماء المهجرين، فالعملية تسير بدقة لوجستية مذهلة. ففي حين فشلت كل وحدات الجيش في إجبار الفلسطينيين على الهجرة في نكبة جديدة، حوّل مكتب بليتشتاين التهجير القسري إلى خدمة مدفوعة الأجر، يدفع فيها الفلسطيني الضحية ثمن ترحيله، ويشكر الجلاد على فتح البوابة.

مصدر الصورة ما يسمى بمكتب الهجرة مسؤول عن تشجيع هجرة الغزيين (الجزيرة + وكالات)

وبينما كان بليتشتاين ينظر إلى الأفق حيث تلمع أبراج عزريلي التي تبدو مكتملة ونظيفة وخالية من الدماء، كان يشعر برضا حقيقي. فهو لا يرى نفسه مجرما بل مهندسا يعيد تشكيل الواقع الفلسطيني على الصورة التي يريدها اليمين الإسرائيلي، يستخدم اليأس الذي زرعه الاحتلال عبر أعوام طويلة من العسف والخسف لدفع الآلاف نحو الخيار الوحيد: الرحيل بلا عودة.

في نفس الوقت، وعلى بعد أقل من 70 كيلومترا، كان الجنود الإسرائيليون في معبر كرم أبو سالم على حدود قطاع غزة قد جردوا أكثر من 50 فلسطينيا من كل شيء. حقائبهم وذكرياتهم وحتى أسماؤهم التي استبدلت بأساور ورقية ملونة حول معاصمهم تسمهم كما توسم البضائع. وبعد عدة ساعات، ورغم الإرهاق الشديد، والإحساس بالإذلال الذي لم يخفت لثانية واحدة، شعر الركاب بالارتياح بمجرد أن لاحت أضواء مطار رامون الذي سيطيرون منه إلى أوروبا. لا يعرف هؤلاء مصيرهم بعد، لكنهم يعرفون أنهم دفعوا ثمنه مقدما من دمهم وأموالهم.

أندونيسيا هي إحدى الوجهات التي روج لها لتستقبل الغزيين رغم نفي حكومة جاكرتا (مواقع التواصل الاجتماعي)

كان هؤلاء الفلسطينيون هم التجربة الأولى. فقبل ساعات فقط، كانوا قد تلقوا رسالة عبر تطبيق واتساب تُبلغهم بمكان تجمع سرّي داخل القطاع عشية السفر. لبّى 57 فلسطينيا النداء وتوجهوا بالحافلات إلى معبر كرم أبو سالم حيث خضعوا لتفتيش أمني، ثم إلى مطار رامون، ليركبوا طائرة مستأجرة من شركة طيران رومانية تدعى "فلاي ليلي" (Fly Lili). أقلعت الرحلة (رقم FL7000) متجهة إلى بودابست في المجر. وهناك تم تفريق المجموعة على رحلات أخرى أوصلتهم إلى ماليزيا وإندونيسيا. كانت تلك أولى الرحلات الموثقة في هذا المخطط، وبدا أنها مرّت بهدوء حينها دون ضجة تذكر.

إعلان

راجعنا رحلات شركة "Fly lili" ووجدنا أنه كان لها رحلة بالفعل من إيلات إلى بودابست في المجر في 27 مايو. وعلمنا أن رقم الرحلة كان FL7000 وهو رقم لم تسجل عليه أي رحلة مشابهة، على عكس رحلات الطائرة الثانية المكررة.

رصدنا تقريرا يتحدث عن شركة " Fly l ili " في فبراير/شباط الماضي، يشير إلى أن الشركة بدأت بتوسيع نطاق عملياتها وتسيير رحلات إلى تل أبيب، ما يثير الشكوك حول تعامل الشركة مع إسرائيل.

إعلان عن بدء الشركة الرومانية رحلاتها من إسرائيل في فبراير/شباط 2025 (الجزيرة)

وبعد مرور شهر واحد فقط، أعلن مكتب الهجرة في إسرائيل عن بدء نقل الغزيين في نفس الشهر إلى دول أفريقيا وآسيا كما في شركة فلاي يو، كما توجد اتهامات ضد الشركة بنقل مرتزقة إلى الكونغو.

تكرر السيناريو مرة ثانية في أكتوبر/تشرين الأول الماضي، خرجت ثلاث حافلات تقل 150 فلسطينيا من داخل غزة عبر كرم أبو سالم. هذه المرة استقلوا طائرة مستأجرة تابعة لشركة رومانية أخرى هي "فلاي يو" (FlyYo)، التي أقلعت بهم إلى نيروبي عاصمة كينيا. من نيروبي، انتقل الركاب إلى طائرة ثانية مستأجرة من شركة تدعى "Global Aviation" لتكمل بهم الرحلة إلى جوهانسبرغ، جنوب أفريقيا . سُمِح لهؤلاء بالدخول فقد كان الإسرائيليون قد استطاعوا التنسيق مع أطراف في جنوب أفريقيا مكنتهم من إتمام العملية.

وفق البيانات الملاحية التي رصدتها منصات التتبع، انطلق الفوج في 27 أكتوبر/تشرين الأول 2025 من جنوب إسرائيل باتجاه نيروبي، على متن طائرة Airbus A320 تحمل التسجيل YR-ADD وتديرها شركة FlyYo الرومانية (الجزيرة + وكالات)

أما في المرة الثالثة فكان الأمر مختلفا. فبعد أن توقفت عجلات الطائرة في مطار جوهانسبرغ، في ذلك اليوم من نوفمبر/تشرين الثاني 2025، أبقيت أبواب الطائرة موصدة، وظل أكثر من 150 فلسطينيا محتجزين لساعات طويلة داخل الطائرة الرابضة في مدرج المطار. وعلى المدرج، وقف أفراد الأمن في حيرة. فقد فوجئ المسؤولون في جنوب أفريقيا بوصول هذا العدد من الفلسطينيين دون تنسيق مسبق، وبدون ختم خروج على جوازاتهم.

بمراجعة سجلّ الطائرات التي غادرت باتجاه كينيا، تبيّن وجود طائرة تابعة لشركة FLYYO، وهي شركة طيران رومانية تجارية تحت قيادة الرئيس التنفيذي زيف مايبريدج إسرائيلي الجنسية.

بعد قرابة 12 ساعة من الانتظار والاتصالات المكثفة، لاح في الأفق بصيص أمل. ظهر امتياز سليمان، وهو رئيس منظمة خيرية محلية ليعرض التكفل بإقامة المجموعة. أخيرا سُمح للفلسطينيين بالنزول، 130 شخصا دخلوا بجوازات فلسطينية بموجب إعفاء تأشيرة لمدة 90 يوما، في حين كان الآخرون قد غادروا بالفعل إلى وجهات كانت بحوزتهم تأشيرات لها. كان الإسرائيليون قد نجحوا أخيرا، فهناك الآن 150 فلسطينيا صاروا معضلة لطرف آخر!.

بالبحث في سجل طائرات الشركة إحداها تحمل رقم الطائرة التسجيل YR-ADD وبمراجعة سجلها لم يكن لها رحلات من إسرائيل لأفريقيا باستثناء رحلة واحدة بتاريخ 12 نوفمبر/تشرين الثاني.

في مؤتمر صحفي لاحق، قال الرئيس الجنوب أفريقي سيريل رامافوزا عن الضحايا إنهم "يبدو كما لو دُفعوا دفعا للخروج من غزة". وأعلن فتح تحقيق عاجل في كيفية وصول هذا الفوج الفلسطيني بهذه الطريقة. لم تكن تلك سوى فصول البداية في كشف خيوط خطة خفية تُحاك على نار هادئة لتهجير الفلسطينيين بعيدا عن أرضهم، عبر رحلات جوية سرية وتنظيمات وهمية تبين أنها تتبع مباشرة لوزارة الدفاع الإسرائيلية.

التهجير من واتس آب

يكشف تحقيق الجزيرة الرقمي أن البداية لم تكن من "فيش فريش" على شارع الرشيد، ولا حتى من مبنى "الكرياه" في تل أبيب، لكنها كانت في الفضاء الرقمي. ففي عيون أب بائس من مخيم جباليا أو أم نازحة من بيت حانون ، يظهر إعلان "المجد أوروبا" كنقطة ضوء في عتمة خانقة. الإعلان يقود إلى موقع يبدو شرعيا تماما، فهو مصمم بطريقة تحاكي المنظمات غير الحكومية الأوروبية، وهو مليء بصور الأطفال المبتسمين، ويضم بيانات مبهمة حول التنمية في غزة، ويعد بفرص تعليمية في الخارج لأبناء القطاع. يزعم الموقع أن الكيان تأسس في ألمانيا عام 2010، وهي تفصيلة يريد بها الإسرائيليون إضفاء بعض الثقة على عملياته.

موقع "المجد أوروبا" يفتقر إلى أي تسجيل قانوني، رقم قيد خيري، أو عنوان فعلي في أوروبا (الجزيرة)

لكن التحقيق الذي اعتمد على تحليل المعلومات الاستخباراتية من المصادر المفتوحة، يكشف أن هذا التاريخ محض تلفيق. فلم يتم تسجيل عنوان الموقع الإلكتروني للكيان أو منظمة "المجد" إلا في فبراير/شباط 2025، أي أثناء التحضيرات الداخلية في إسرائيل لسياسة الهجرة الطوعية، وقبل شهر واحد من إعلان تعيين كوبي بليتشتاين مديرا لمديرية الهجرة الطوعية. وكشف التحقيق أيضا عن أن كل البيانات التي تم بها تسجيل الموقع الإلكتروني محجوبة خلف خدمات لحماية الخصوصية في أيسلندا، وهو تكتيك متبع للكيانات الشبيهة والمؤسسات التي ترغب في البقاء في الظل.

موقع المجد أوروبا مسجّل حديثا في 2 فبراير/شباط 2025 مع استخدام خدمة إخفاء بيانات المالك (الجزيرة)

اسم "المجد" نفسه هو الاسم الذي تستخدمه المقاومة الفلسطينية لجهاز أمنها المسؤول عن ملاحقة العملاء. وهي تفصيلة مهمة للفلسطينيين في غزة.

إعلان

أما قسم "من نحن" في الموقع، فيضم كلاما كثيرا ولا يقول شيئا. يتحدث عن تمكين المجتمعات، لكنه لا يقول من هم فعلا، فلا يدرج مجلس إدارة، ولا تقارير عن الكيان أو مؤسسيه، ولا حتى عنوانا فعليا يمكن التحقق منه في أوروبا. الموقع الوحيد المحدد هو حي الشيخ جراح في القدس المحتلة، وهو اختيار خبيث وساخر في نفس الوقت. فحي الشيخ جراح هو بؤرة النضال الفلسطيني المقدسي ضد التهجير، وهو الحي الذي تقوم فيه المنظمات الاستيطانية بدعم من المحاكم الإسرائيلية وجيش الاحتلال بطرد العائلات الفلسطينية كرها بعد أن فشلت في تهجيرهم طوعا. بل إن تحقيق الجزيرة كشف عن أن الإحداثيات المذكورة للموقع لا تؤدي سوى إلى مقهى ومستشفى!.

أظهرت خرائط غوغل عدم وجود شركة بهذا الإسم بل يوجد مستشفى ومقهى في الموقع المشار إليه على موقع المنظمة (الجزيرة)

إلى جانب تضارب المعلومات المتعلقة بالمنظمة، تكشف مراجعة المواد البصرية المنشورة على موقعها الرسمي حجم التزييف الذي تلجأ إليه لتضليل الجمهور ومنح نفسها صورة إنسانية غير حقيقية.

فأول ما يلفت النظر هو أن الموقع يستخدم صورا مولّدة بالذكاء الاصطناعي ، وقد أثبتت أدوات تحليل الصور ذلك بوضوح.

صفحة المجد أوروبا على فيسبوك تم إنشاؤها في أبريل/نيسان 2025 متأخرة جدا قياسا بادعاء التأسيس منذ 2010 (الجزيرة)

وهذا يعزز الشكوك حول محاولات المؤسسة إظهار واجهة بصرية مُضللة لإضفاء شرعية زائفة على نفسها، خصوصا أن موقع الشركة على خرائط جوجل غير موجود ولا يوجد أي صورة من موقع أو مكاتب الشركة.

إضافة إلى ذلك، نشر الموقع صورا لمخيمات طبية ميدانية وأرفقها بادعاء أنه يقدم خدمات صحية للمتضررين، مشيرا إلى امتلاكه 15 عيادة متنقلة وأكثر من 200 متخصص في القطاع الطبي.

غير أن البحث العكسي كشف أن الصورة تعود إلى خيمة أقامها المستشفى الكويتي في خان يونس، كما لم يظهر أي مصدر مستقل يؤكد الأرقام أو الأنشطة التي تدّعيها المؤسسة.

كما أن المؤسسة أدرجت قصة إنسانية تحت عنوان إجلاء امرأة تُدعى "منى" من الحرب في سوريا عام 2013، مستخدمة صورة لها في مدينة مزدحمة.

مؤسسات التهجير استخدمت صورا وقصصا مختلقة أو مسروقة لتضليل الرأي العام (الجزيرة + وكالات)

لكن البحث العكسي كشف أن المرأة اسمها في الحقيقة عبير خياط، وأن خروجها من سوريا تم في عام 2018، مع أن مصدر الصورة الأصلي منشور في موقع Middle East Eye وأنها خرجت في 2012.

وهذه الأمثلة توضح كيف تعتمد المؤسسة على صور وقصص مختلقة أو مسروقة لتضليل الرأي العام وإضفاء شرعية إنسانية زائفة على نشاطها، في حين أن الأدلة تثبت عكس ذلك تماما.

في القسم الخاص بالمسؤولين، يقدّم موقع المجد أوروبا اسمين على أنهما الشخصان القائمان على أنشطة المنظمة. التحقيق كشف أن أحدهما شخصية وهمية

ولعل العنصر الأكثر إثارة للقلق في الوجود الرقمي لكيان "المجد" هو طاقم عمله. يدرج الموقع شخصا اسمه "عدنان" كمنسق للقدس و"مؤيد" كمدير لمشروع غزة. لكن باستخدام أدوات كشف متقدمة تعتمد على تقنيات الذكاء الاصطناعي والتعلم العميق أكد المحللون أن صور "عدنان" ومعظم الآخرين المذكورين على الموقع مولّدة بواسطة الذكاء الاصطناعي بشكل شبه مؤكد. التشوهات التقنية واضحة لمن يعرف أين يبحث. فالتناظر غير طبيعي، وهناك خلل ظاهر حول الأذنين، والسمات العامة للملامح التي لا تنتمي لعرق محدد بل تهدف لجذب الجميع. "عدنان" شخصية وهمية صُنعت لطمأنة الفلسطينيين بأنهم يتعاملون مع منظمة بشرية متعاطفة مع قضيتهم، لا مع ممثلين لجيش الاحتلال الإسرائيلي .

مؤسسات التهجير اعتمدت أحيانا صورا لإعلانات دعائية على أنها لأشخاص حقيقيين (الجزيرة + وكالات)

ويلف الغموض البنية المالية لهذا الكيان، فحساباته مصممة للالتفاف حول النظام المصرفي في غزة. إذ تتلقى العائلات تعليمات بالدفع عبر عملات مشفرة، أو إيداع النقود لدى سماسرة الحوالة، ويدفع الأشخاص بين ألفين و6 آلاف دولار للشخص الواحد. لأسرة واحدة من أسر غزة، يمثل هذا المبلغ ثروة قد تعني بيع أراض أو إنفاق مدخرات العمر أو الاقتراض من الأقارب في الشتات. ولا يقود مسار التحقيق في هذه الأموال إلى جمعية خيرية أو وكالة إغاثة، بل إلى شبكة من الشركات الوهمية المرتبطة بإسرائيل.

الرجل الحقيقي وسط الوجوه المزيفة

استطاع تحقيق الجزيرة إزاحة الستار عن طبقات من الخداع المؤسسي للكيان المسمى "المجد أوروبا" ليكشف عن شبكة من الكيانات التي تحمل بصمات استخباراتية صرفة. وفي القلب من هذه الشبكة نجد شخصا حقيقيا يحمل الجنسيتين الإسرائيلية والإستونية، يُدعى تومير جانار ليند، أو باسمه المستعار: توم ليند.

تومر ليند (يسار) المؤسس والرئيس التنفيذي للشركة وكشف التحقيق أن الشخصيات الباقية كلها وهمية (الجزيرة)

تومير ليند شخصية حقيقية بالفعل، لكنها مراوغة. ففي حين يظهر اسمه في السجلات التجارية للشركات التي أسسها، فإن بصمته الرقمية قد عولجت بعناية لتبقى خفية عند التدقيق. فالرجل مسجل كمدير لشركة "تالنت غلوبس" (Talent Globus OÜ)، وهي شركة سُجلت في إستونيا في يوليو/تموز 2024. وتُعد إستونيا، المعروفة ببرنامج الإقامة الإلكترونية، ولاية قضائية مفضلة لرواد الأعمال غير المقيدين بمكان، ولكنها أيضا ملاذ لمن يسعون للحصول على غطاء من الشرعية الأوروبية لعمليات تدار من أماكن أخرى.

إعلان

يكشف السجل التجاري لشركة "تالنت غلوبس" عن شركة برأس مال مدفوع قدره 301 يورو فقط. ليس لدى الشركة قاعدة موظفين حقيقية، ولا مقر فعلي سوى عنوان وكيل التسجيل، وتتمتع بوصف غامض ينص على أنها تنفذ "أنشطة خدمات شخصية أخرى". ومع ذلك، فإن هذا الكيان الصغير يشكل العمود الفقري التشغيلي لاستئجار طائرات إيرباص وتنسيق لوجستيات دولية معقدة تشمل حكومات متعددة لتهجير الفلسطينيين.

التدريب الطبي أصبح يثير الشكوك بكونه جزء من برنامج التهجير (الجزيرة + وكالات)

وفي حين يظهر تومر ليند في السجلات الرسمية كمؤسس ومدير تنفيذي، يدرج الموقع الإلكتروني للشركة أسماء ومناصب تبدو براقة: ديفيد تشين (رئيس الاستشارات)، ماريا رودريغيز (مديرة التوظيف العالمي)، وجيمس تومسون (رئيس قسم التكنولوجيا). لكن البحث المعمق الذي أجراه فريق التحقيق كشف حقيقة هؤلاء "الموظفين":


* جيمس تومسون (James Thompson): عند إجراء بحث عكسي عن صورته باستخدام أدوات متخصصة مثل TinEye، ظهرت أكثر من 330 نتيجة مختلفة. الصورة ليست لخبير تكنولوجيا، بل هي صورة "موديل" تُستخدم بشكل متكرر في قوالب المواقع الجاهزة كصورة "زبون" (Customer Feedback). تظهر الصورة ذاتها باسم "مايك هادرسون" في مراجعة لشركة، وباسم "مايكل" في موقع آخر، مما يؤكد أن "جيمس" لا وجود له. أظهر البحث العكسي أكثر من 1002 نتيجة للصورة المستخدمة لهذا الاسم.
* ماريا رودريغيز (Maria Rodriguez): لم يتم العثور على أي حساب حقيقي لها على منصات التواصل الاجتماعي المهنية. كشف البحث العكسي عن 277 نتيجة لنفس الصورة. تبين أن المصدر الأصلي للصورة هو منصة Unsplash (المتخصصة في الصور المجانية عالية الجودة)، وقد نُشرت الصورة في نوفمبر/تشرين الثاني 2019 بواسطة حساب باسم "Christina"، أي قبل تأسيس شركة "Talent Globus" بسنوات، وتُستخدم بشكل واسع كصورة رمزية في المقالات الإخبارية والمواقع الطبية.
* ديفيد تشين (David Chen): أظهر البحث العكسي أكثر من 1002 نتيجة للصورة المستخدمة لهذا الاسم. أبرز النتائج تظهر الصورة كـ"زبون" يقدم شهادة (Testimonial) لموقع مؤسسة تعليمية في بيرو، ومواقع أخرى لا حصر لها. الخدمة مخصّصة فقط لسكان قطاع غزة المقيمين داخل القطاع (الجزيرة + وكالات)

خلاصة الهيكل الوهمي: استنادا إلى هذه النتائج، ثبت أن تومر ليند هو الشخص الوحيد الحقيقي في هيكل الشركة، في حين أن بقية "الأعضاء" هم مجرد صور مخزنة (Stock Photos) وأسماء مستعارة تهدف لخلق انطباع زائف بوجود شركة عالمية كبرى. هذا النمط يعزز فرضية أن الشركة ليست سوى واجهة (قشرة) تُستخدم لتمرير العمليات المالية واللوجستية المشبوهة لشبكة "المجد"، تماما كما تفعل الأجهزة الاستخباراتية عند إنشاء شركات واجهة لعمليات محددة.

يعزز التاريخ التجاري لتومير ليند الشكوك حول نشاط الشركات الوهمية. ففي المملكة المتحدة ، كان مدرجا كمدير لشركة تحمل الاسم الغريب "ISRAAAEL LTD"، والتي حُلت في عام 2020، وشركة "HERE Z WELL LTD"، وهي وكالة إعلانات تواجه حاليا مقترحا بالشطب في فشلها بتقديم حساباتها المصرفية. كما أن شركة "MAXIMUM RENT LIMITED"، وهي مشروع آخر له، قد حُلت بعد فترة قصيرة.

سجلات الشركة في استونيا تظهر فقط اسم تومر ليند في مجلس إدارتها (الجزيرة + وكالات)

وبالنظر إلى السياقات، فإن هذه كلها على الأرجح تبدو واجهات لعمليات ربما تكون استخباراتية بدأت وانتهت. فهذا النمط من الشركات ذات رأس مال رمزي، وأسماء عمومية، ودورات حياة قصيرة، هو سمة مميزة لما يسمى في عالم الاستخبارات: "الشركات المحترقة" (Burners)، وهي كيانات تجارية تُشكل لعملية محددة ومؤقتة ثم يتم التخلص منها. وهي تخدم غرض توقيع العقود، وحمل الحسابات المصرفية، وحماية المستفيدين الحقيقيين من المسؤولية القانونية.

أظهر التحقيق أن رأس مال شركة "Talent Globus" كان 301 يورو وحجم مبيعات الشركة في الربع الثالث 47,289 يورو (الجزيرة)

إن الكشف عن أن مواطنا إسرائيليا هو من ينسق خروج الفلسطينيين هو الخيط الأول الذي يفكك سردية "المساعدات الإنسانية" التي يقدمها كيان "المجد" للفلسطينيين. فوفقا للقانون الإسرائيلي، يُمنع المواطنون الإسرائيليون من دخول غزة أو إجراء تعاملات تجارية مع "كيانات معادية" دون موافقة رسمية صريحة من الدولة. لذلك ولكي يدير تومير ليند شبكة تتواصل مع الفلسطينيين في غزة وتجمع الأموال منهم، وترتب نقلهم عبر الحواجز العسكرية الإسرائيلية، لا بد أنه يعمل بأوامر مباشرة من المؤسسة الأمنية الإسرائيلية.

وقد أكدت صحيفة "هآرتس" الإسرائيلية هذا الرابط، حيث ذكرت أن وزارة الدفاع "أحالت" شركة "المجد" إلى وحدة التنسيق الحكومية. إن انخراط شخصية مثل ليند يحول طبيعة العملية برمتها كما كشف التحقيق. فهو يشير إلى أن "المجد" ذراع مخصخصة لسياسة دولة الاحتلال، تسمح للحكومة الإسرائيلية بتسهيل الهجرة الجماعية مع الحفاظ على إمكانية الإنكار عند اللزوم. فإذا ساءت الأمور، كما حدث في نوفمبر/تشرين الثاني الماضي في جنوب أفريقيا، يمكن للحكومة أن تلقي باللوم على شركة خاصة وتغسل يديها من الفوضى التي خلفتها بإطراق دولي وصمت مثل الذي يسمح لها بغسل يديها من الدماء.

حسابات مؤيد صيدم الذي يقدّمه الموقع بصفته "مدير المشروع" تبيّن أنه يتبنى خطابًا معاديًا لحركة حماس ويميل إلى تأييد السلطة الفلسطينية.

المنسق الفلسطيني

في حين تعتمد "المجد" على شخصيات رقمية مزيفة مثل "عدنان"، كشف تحقيق الجزيرة عن دور قام به مواطن فلسطيني. يبرز مؤيد صيدم كالشخصية الحقيقية الوحيدة والوجه العلني الفلسطيني لشبكة النكبة تلك. صيدم، وهو مواطن غزاوي كان يعمل سابقا في الأوساط الرياضية كبطل في مصارعة الذراعين ومدرب لياقة بدنية، تحول فجأة إلى المنسق الرئيسي لعمليات التهجير من مقره الحالي في إندونيسيا.

تكشف خلفية صيدم عن مفارقات صارخة، فعلى الرغم من عمله السابق كضابط شرطة في حكومة غزة، حسبما قالت صحيفة إلبايس الإسبانية، تنضح حساباته على مواقع التواصل بالنقمة على حركة "حماس" وتحميلها مسؤولية الإبادة الإسرائيلية، متبنيا الخطاب المتماشي مع السردية الإسرائيلية التي تظهر في المنشورات التي تسقطها المسيرات، أو في المنشورات التي يكتبها بعض الفلسطينيين في مناطق السلطة الفلسطينية أو في الخارج على مواقع التواصل.

الصورة التي يظهر بها مؤيد تتطابق بالشكل واللون مع طائرة تحمل الرقم التسجيلي YR-LIC تتبع لشركة lili، وهي نفس الطائرة التي خرجت في رحلة من إيلات إلى بودابست في 27 مايو/أيار الماضي -ذكرناها أعلاه-، وأقلت مواطنين من غزة (مواقع التواصل)

إحدى النقاط الأكثر إثارة للريبة في ملف صيدم هي طريقة خروجه من القطاع. ففي 16 يونيو/حزيران 2025، نشر صيدم صورة له وهو يقف مبتسما بجانب طائرة تابعة لشركة Fly Lili الرومانية على مدرج مطار رامون الإسرائيلي. التحليل البصري للصورة (زوايا الظل والشمس) ومطابقتها مع سجلات الطيران يرجح أنه غادر على متن الرحلة نفسها التي نقلت فوجا من الغزيين في مايو/أيار، مما يشير إلى أنه كان من أوائل المجربين لهذا المسار الآمن الذي لا يفتح إلا للمرضى بطلبات خاصة أو للمنسقين الأمنيين.

ومن مقر إقامته الجديد في جاكرتا، وتحديدا من أماكن فاخرة مثل مطعم "Cloud Lounge"، الذي كشفه تحقيق الجزيرة اعتمادا على تحليل الصور التي ينشرها صيدم، يدير الرجل مجموعات "واتساب" مغلقة تضم العائلات الراغبة في النجاة. فيها يرسل التعليمات الدقيقة التي يحصل عليها من الإسرائيليين عن نقاط التجمع، وتوقيت الحافلات، وآليات الدفع.

كشف التحقيق عن وجود مؤيد في إندونيسيا بعد تحليل صورة نشرها على فيسبوك في 28 أكتوبر/تشرين الأول الماضي (مواقع التواصل)

يعترف صيدم صراحة بأن التنسيق يتم بالكامل مع الجيش الإسرائيلي، مبررا ذلك بأنها "إجراءات أمنية ضرورية"، واصفا عمله بـ"الإنساني" لإنقاذ من يستنجدون به، في حين تظهر صور عائلته التي سبقته بالخروج عبر حملات تبرع وهم يلتحقون بالمدارس في إندونيسيا.

حقيقة "الصهيوني الطيب"

إذا كان تومير ليند ومؤيد صيدم وكيان "المجد" يوفرون الآلية للخروج، فإن السياسات والقرارات تتم من ذلك المكتب في الطابق العلوي من مقر القيادة العسكرية الإسرائيلية في تل أبيب. كانت 80 عاما كفيلة بتحويل العصابات الصهيونية إلى دولة ومؤسسات، وهو ما عنى تحويل النكبة في 1948 إلى تهجير بيروقراطي "طوعي" في 2025.

ففي مارس/آذار الماضي، وفي ذروة حرب الإبادة على غزة، وافق مجلس الوزراء الأمني الإسرائيلي (الكابينت) على إنشاء هيئة إدارية جديدة داخل وزارة الدفاع أطلق عليها مديرية الهجرة الطوعية، أو كما تسمى أحيانا مديرية "المغادرة" الطوعية.

التحقيق الاستقصائي الرقمي الخاص بالتهجير من غزة
المصدر: al majd europe

الاسم بحد ذاته وكأنه قادم من رواية 1984 لجورج أورويل، فكلمة "طوعية" توحي بالقدرة والاختيار والحرية. ولكن في السياق الذي نعلمه جميعا، حيث يخير الفلسطيني بين الموت قصفا أو تجويعا أو بردا في الخيام، لا يبقى معنى لمعنى "الطوعية". وكما قال الوزير اليميني المتطرف في حكومة نتنياهو بتسلئيل سموتريتش ، فالطوعية "حالة تفرضها (إسرائيل)، حتى يقولوا (الفلسطينيون) أريد الرحيل".

ويشير تحقيق الجزيرة إلى أن دليل ذلك أن مديرية التهجير تلك لم توضع تحت سلطة وزارة الداخلية أو الخارجية، بل وزارة الدفاع. ومهمتها محددة واضحة في تسهيل مغادرة الفلسطينيين من غزة إلى دولة ثالثة، ومن أجل ذلك فهي مكلفة بإزالة العقبات في الموانئ والمطارات والمعابر الحدودية لضمان التدفق الفلسطيني في اتجاه واحد، خارج فلسطين .

لرئاسة هذه المديرية، عين وزير الدفاع يسرائيل كاتس، كوبي بليتشتاين، وهو عقيد متقاعد في الجيش الإسرائيلي وبيروقراطي سبق له أن شغل منصب المدير العام لوزارة الخارجية ووزارة الطاقة. الرجل إذن يعرف كيف يدير المشاريع وكيف يخاطب الدبلوماسيين وكيف يفاوض ويضغط لتحقيق ما يريد. إن هدف نقل الفلسطينيين الذي كان يوما موضوعا حساسا يخشى المتطرفون اليهود من التلفظ به في الأوساط الليبرالية ، تحول إلى هدف سيادي برعاية الحكومة التي تعقد اتفاقات سلام وطاقة غير مسبوقة مع بعض محيطها العربي.

تحت قيادة بليتشتاين، تتلقى المديرية قوائم الأسماء من كيانات مثل "المجد"، وتمررها عبر الفحوصات الأمنية لجهاز الشاباك ، وتنسق حركتها مع وحدة التنسيق الحكومية، وبالتأكيد تضمن المديرية أن يغادر الأشخاص الذين ترغب إسرائيل في مغادرتهم، أولئك الذين يملكون المال، والمهارات، والعائلات الشابة التي تشكل المستقبل الديمغرافي لغزة.

ورغم أن مديرية التهجير تتبع وزارة الدفاع، إلا أن الوزراء اليمينيين المتطرفين مثل سموتريتش هم أهم مهندسي سياساتها. كان سموتريتش صريحا منذ اللحظة الأولى حين أشار إلى إفراغ غزة من سكانها باعتباره "الحل الإنساني الصحيح". وقد قدم رؤية يتم فيها تقليص عدد الفلسطينيين إلى "100 ألف أو 200 ألف" شخص، أي تهجير بنسبة 90%. لا يفعل سموتريتش ذلك بدافع الأمن القومي فقط، بل هو واجب "مشيحاني ديني"، وخطوة أساسية لإعادة تأسيس المستوطنات اليهودية في القطاع التي أجبرت المقاومة إسرائيل على إخلائها عام 2005.

يشير تحقيق الجزيرة إلى أن مديرية التهجير تستخدم القانون الدولي كسلاح ضد نفسه من خلال الحديث عن المغادرة على أنها طوعية، للالتفاف حول اتفاقيات جنيف التي تحظر التهجير القسري، والذي كان اليهود قد عانوا منه لسنين قبيل وأثناء الحرب العالمية الثانية .

كوبي بليتشتاين على علاقة الوزيرين المتطرفين كاتس وسموتيريتش

بالطبع، لا يمكن أن تصمد هذه "الطوعية" أمام أي تحقيق جاد. فمن خلال خلق بيئة قاهرة من القتل وتدمير البنية التحتية ومحطات المياه والكهرباء والمستشفيات وتصنيع مجاعة حقيقية وقصف " المناطق الآمنة "، كل ذلك يجعل من كلمة "الطوعية" مجازا ساخرا عن المقابل الموضوعي للحياة المستحيلة. لذلك فإن الأموال التي يحصل عليها صيدم والإسرائيليون ليست أجرة على خدمة السفر، بل فدية لإطلاق سراح أسرى حرب.

النكبة في نسختها الجديدة

الرحلة من "فيش فريش" تسلط الضوء على السيطرة الكاملة التي تمارسها إسرائيل على حياة الفلسطينيين وأجسادهم.

يشير تحقيق الجزيرة إلى أنه بمجرد تأكيد الدفع بالعملات المشفرة ومنح مديرية التهجير موافقتها، تُستدعى العائلات إلى نقاط التجمع. ومنها يصعدون إلى حافلات معروفة تعمل داخل الغلاف العسكري الإسرائيلي. من هناك، يُنقل الفلسطينيون إلى معبر كرم أبو سالم، وهناك يظهر الإذلال وسرقة الممتلكات، أي يظهر الإسرائيلي على حقيقته التي عرفها الفلسطينيون لـ80 عاما.

يجبر المسؤولون الإسرائيليون الجميع في المجموعة المسافرة على التخلي عن حقائبهم. وهناك تُركوا بلا مستلزمات نظافة أو أدوية أو ملابس بديلة. لقد جردهم الإسرائيليون من بلادهم ومعها كل ما يملكونه، ولم يُسمح لهم بالاحتفاظ إلا بجوازات سفرهم وهواتفهم، أي ما يكفي فقط لخروجهم وضمان ألا يعودوا!

هذا الإذلال يفصل المسافرين عن غزة تماما. فهم ينتقلون من بلادهم إلى مكان آخر بلا ماض ولا ممتلكات ولا شيء سوى "حياة" مجردة.

من كرم أبو سالم، ترافق الحافلات مركبات عسكرية عبر صحراء النقب . لم ير الفلسطينيون هذا المشهد منذ 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023، حين كسروا السجن لأول مرة. لكن المشهد خارج النوافذ قاحل، هذه صحراء فلسطين التي هُجروا منها وعبرها. يمرون عبر الأسوار وأبراج المراقبة، متعمقين في أراضيهم التي سُرقت منهم لعقود. الوجهة هي مطار رامون الدولي، الواقع في وادي تيمنا قرب إيلات.

في المطار يتم التعامل مع الفلسطينيين القادمين من غزة عبر قنوات خاصة معزولين عن الإسرائيليين أو السياح القلائل الذين تقلصت أعدادهم مع تصاعد حرب الإبادة. لا يختم الإسرائيليون جوازات سفرهم، وغياب الختم يمحو الدليل على أنهم خرجوا عبر إسرائيل! حينها سيكون على الحكومة الإسرائيلية أن تقول إن هؤلاء الناس لم يغادروا إسرائيل أو عبرها، لقد ظهروا في كينيا، وغياب الختم ودليل الخروج يسمح لإسرائيل بإنكار مسؤولية ترحيلهم ويُعقّد أي مطالبة مستقبلية بحق العودة، فلا دليل على أنك كنت هنا أصلا!

أما طريقة نقلهم فقصة أخرى. فقد كشف تحقيق الجزيرة عن طائرات معينة استُخدمت في هذا المسار. إحدى الرحلات كانت مشغلة بواسطة "FlyYo"، وهي شركة طيران رومانية (تسجيل الطائرة YR-ADD). رحلة أخرى نفذتها "Global Aviation"، وهي شركة جنوب أفريقية (تسجيل الطائرة ZS-GAC)، تعمل تحت غطاء رحلات روتينية عارضة.

يصعد الركاب هذه الطائرات غالبا دون معرفة وجهتهم النهائية. فقد غيروا الوجهة إلى جنوب أفريقيا، ولم يخبروا أحدا حسبما قال بعض الفلسطينيين الذين كانوا على متن الرحلة. تدور الشائعات في المقصورة بلا إمكانية للمعرفة أو التأكد، فيعتقد البعض أنهم ذاهبون إلى إندونيسيا، وآخرون إلى أوروبا أو ماليزيا أو أستراليا. إنهم معلقون في الهواء، حرفيا ومجازيا.

تحقيق الجزيرة كشف مسار الرحلة من إيلات حتى نيروبي (الجزيرة)

وبتتبع مسار الطائرات، كشف تحقيق الجزيرة أن مسار الرحلات متعمد. تطير الطائرات غالبا إلى نيروبي، كينيا أولا. محطة التوقف هذه آلية "غسيل". بالمرور عبر نيروبي، يتم فصل الركاب عن نقطة سفرهم الأولى من مطار رامون. وعندما يصعدون الرحلة التالية إلى جوهانسبرج أو أي مكان آخر، فسيكونون قادمين من كينيا، الدولة الأفريقية الشقيقة، وليس من مطار رامون في الأرض المحتلة.

اكتشاف الكمين

في 13 نوفمبر/تشرين الثاني 2025، هبطت طائرة "غلوبال أفييشن" المستأجرة والقادمة من نيروبي في جوهانسبرغ وعلى متنها 153 فلسطينيا. كان من المفترض أن يكون وصولا هادئا، وعملية نقل ناجحة أخرى ضمن سياسة التخفف من سكان غزة. وبدلا من ذلك، تحولت الواقعة إلى حادثة دبلوماسية كشفت المخطط برمته. فوجئ مسؤولو الحدود في جنوب أفريقيا إذ لم يكن لدى الركاب تذاكر عودة، ولا حجوزات فندقية، ولا تأشيرات. والأكثر قلقا أن جوازات سفرهم كانت تفتقر إلى أختام الخروج من بلدهم الأصلي، وبالنسبة لضباط الجوازات، فإن هذا أحد أبرز المؤشرات إلى جرائم الاتجار بالبشر أو الهجرة غير الشرعية.

لمدة 12 ساعة، بقيت الطائرة جاثمة على المدرج. في الداخل، تدهورت الظروف. قال أحد من كان على متن الطائرة للصحفيين "كان الحر لا يطاق. كان هناك الكثير من الأطفال يتصببون عرقا ويصرخون ويبكون". أصبح الركاب، الذين هربوا من نار الحرب وسجن غزة الكبير، سجناء من جديد في أنبوب معدني، ترفضهم الدولة التي أملوا أن تكون ملاذهم.

تم تجنب الكارثة الإنسانية على المدرج فقط بتدخل من منظمة مجتمع مدني اسمها "وقف المانحين" وهي أكبر منظمة غير حكومية للاستجابة للكوارث في جنوب أفريقيا. وحشد مؤسسها، الدكتور امتياز سليمان، علاقاته السياسية وموارده. وضمن إقامة ورعاية الركاب. كشفت الحادثة الخداع الذي يكمن في قلب عملية الاستخبارات الإسرائيلية التي في واجهتها كيان "المجد". فقد أخبر الركاب المسؤولين الجنوب أفريقيين أنهم ضُللوا بشأن وجهتهم أو قانونية وصولهم.

مسار الرحلة من نيروبي في كينيا إلى جوهانسبرغ في جنوب أفريقيا (الجزيرة)

يبقى من المهم الإشارة إلى الحجم الهائل للإيرادات الناتجة عن هذا النمط من التهجير. فإذا كانت رحلة واحدة تحمل 150 راكبا يدفعون في المتوسط 3 آلاف دولار، فإن تلك الرحلة تولد 450 ألف دولار من الإيرادات. ومع التقارير التي تتحدث عن إتمام رحلات متعددة وعن وجود آلاف الفلسطينيين على قوائم الانتظار، فإن العملية تستنزف ملايين الدولارات من قطاع غزة.

هذه حرب اقتصادية أخرى تقوم بها إسرائيل وتستهدف آخر ما تبقى من أصول لدى الفلسطينيين الذين يعانون المجاعة بفعل الحصار وحرب الإبادة. تبيع العائلات الذهب، وتقترض من الأقارب في الخارج، وتسيل سندات الأراضي للدفع للمخابرات الإسرائيلية أو لشركة "المجد". بهذه الطريقة تتدفق الأصول والأموال خارجة من غزة إلى حسابات الشركات الوهمية في إستونيا أو غيرها.

المقارنة مع نكبة 1948 لا مفر منها. فالنكبة كانت صاخبة خشنة وخرج الفلسطينيون مع عزيمة لا تلين بالعودة، أما الآن، فنحن أمام نكبة نيوليبرالية، مخصخصة، وممولة بالكامل من قبل الضحايا المهجّرين.

يظهر تحقيق الجزيرة أن إسرائيل تقوم بالفعل بتنفيذ خطة سموتريتش. فوفقا لرؤيته، لن يتم إفراغ قطاع غزة عبر حدث واحد أو نكبة كبرى، بل عبر التقطير المستمر لسكانه عبر رحلات مثل رحلة جنوب أفريقيا وكيانات مثل المجد.

لذلك فعندما تغرب الشمس على الفلسطينيين في قطاع غزة، ستستمر رسائل واتساب تصل على هواتفهم لتخبرهم أن بإمكانهم الخروج طوعا إذا أرادوا، فقط عليهم أن يبيعوا كل شيء، وأن يتركوا مفاتيح بيوتهم هذه المرة. فلن تسمح إسرائيل بأحفاد يحملون مفاتيح أجدادهم ليطالبوا بحق العودة، لأن إسرائيل تؤكد أن هذا الخروج ليست إلا "مغادرة طوعية"!.

لقراءة المقال كاملا إضغط هنا للذهاب إلى الموقع الرسمي
الجزيرة المصدر: الجزيرة
شارك

أخبار ذات صلة



حمل تطبيق آخر خبر

إقرأ أيضا