وضعت مرحلة ما بعد الربيع العربي قوى التغيير والإصلاح في المنطقة، أمام تحديات كبرى. فالحلم بالتغيير والتحول السياسي في بلدان المنطقة، والذي بدا مع انطلاق الربيع العربي من تونس، قاب قوسين أو أدنى أن ينبسط حقيقة وواقعا، وأن يتجلى حريات وتعددية، ويتجسد مؤسسات دستورية منتخبة، ونظاما سياسيا تشاركيا يعبر عن إرادة المواطنين وتطلعاتهم، تحول بسبب إخفاقات ذاتية وإكراهات خارجية إلى كابوس، أو "خريف عربي".
جرت عقب نكسة "الربيع العربي" مياه كثيرة تحت الجسر. جدت أحداث كبيرة. ووقعت تحولات عميقة في المشهد، أشرت كلها على أن موجة الربيع العربي انتهت فعليا، وانطفأ معها الزخم الشعبي الذي كان رافعتها الأساسية، وانحسرت وحوصرت قواه السياسية، التي لعبت لعقود الدور الأساسي في ديناميكية المجتمع، معارضة واحتجاجا، تدافعا وتوافقا.
ومع استمرار مسار الثورة المضادة، كديناميكية لتقويض الربيع العربي بكل محمولاته، تبدو البلدان التي عاشت تلك التجربة عرضة لتحولات كبيرة، مثيرة للاهتمام، تستوجب وقفة جادة من جميع الفاعلين المعنيين بأوضاع بلدانهم، أمنا واستقرارا.
أخطر ما تعانيه تونس ظاهرة "الاحتباس الأيديولوجي"، التي تسود القوى السياسية، وعدم قدرتها على كسر هذا القفص الحديدي، الذي يبدو في ظاهره أفكارا حداثية وتقدمية أو إصلاحية ودينية ووحدوية، بينما ينكشف باطنه حالة من الانغلاق والتكلس، والدوران في حلقة مغلقة
أولا: من الواضح أن منظومة الحكم التي قوضت المسار الديمقراطي وحلت محله، كما هو الشأن في تونس، قد فعّلت كل أدواتها الصلبة منها والناعمة، وحشدت كل أجهزتها، من أجل تفكيك ما أنجزته تجربة الانتقال الديمقراطي من قوانين ومؤسسات وفلسفة حكم، أساسها التعددية سياسة، والتشاركية حكما، والحقوق والحريات مبادئَ، والتداول السلمي على السلطة.
وأحلت هذه المنظومة القائمة على أنقاض منظومة كانت واعدة، سلطة مطلقة ومنظومة أمنية أو شبه عسكرية. فاستهدفت مبدأ فصل السلطات، وحولت القضاء لمجرد وظيفة، ومنحت الرئيس سلطات مطلقة، فاستولى على السلطة التشريعية إلى جانب التنفيذية. بينما أقصت هذه المنظومة المتغولة، الأحزاب السياسية وحاصرتها، وهمشت منظمات المجتمع المدني وسلطت عليها القضاء، مكتسحة ومحتكرة ومستولية على كل الفضاء العام. ويمكن القول إن انقلابا كاملا جرى على كل مكتسبات ومنجزات مسار ديمقراطي كان ثمرة جهود وطنية جماعية وتشاركية.
ثانيا: المؤكد اليوم أن تحميل المسؤولية عما حصل من ردة عن التحول الديمقراطي، لجهة واحدة أو تفسيره بعامل واحد سيكون- لا شك- قاصرا وتعسفا مجانيا.
فما حصل من ردة تعاضدت فيه عناصر ذاتية وأخرى موضوعية، وساهمت فيه عوامل داخلية وأخرى خارجية كانت سطوتها أحيانا أعتى وأشد تأثيرا وحسما من العناصر الداخلية نفسها.
ولعل تشابه مآلات التجارب في بلدان الربيع العربي المختلفة، يؤكد هذه الحقيقة. والحرص على تثبيت هذه الحقيقة، إنما يندرج في إطار السعي لالتماس أفق مستقبلي، يتجاوز الجدل والتلاوم المرضي بين مختلف القوى السياسية والاجتماعية والنخب، والذي تحول إلى عائق في وجه محاولات الاستئناف والنضال المشترك من أجل التغيير لاستعادة التجربة الديمقراطية، وكصمام أمان وأرضية صالحة للإقلاع الاقتصادي والتنموي، تحقيقا للعدالة الاجتماعية والحكم الرشيد.
ثالثا: في تونس كما في غيرها، وبقدر الخراب الاجتماعي والسياسي والاقتصادي والأخلاقي الذي خلفته منظومة الحكم المطلقة، بقدر عجز القوى السياسية على استشعار المخاطر الإستراتيجية لهذا الخراب على البلاد، وعلى تماسك النسيج المجتمعي ومناعته.
إذ تدمن النخب السياسية- رغم ما يتراءى أمامها من خراب وتفكك طال مؤسسات الدولة، وصورة باهتة لتونس على المستوى الخارجي- التخندق في معاقلها الأيديولوجية والحزبية والسياسية المتآكلة، بؤرا وجزرا معزولة عن بعضها البعض، تتراشق تلاوما وتنابزا واتهامات، أكثر من انشغالها بمراجعة مسيرها وحصادها، أو بمواجهة منظومة حكم مطلقة، تنذر بانهيار الاجتماع السياسي، وتنزلق بالدولة إلى نادي "الدول الفاشلة".. منظومة حكم تمثل بكل المقاييس خطرا داهما على البلاد.
لا شك أن أخطر ما تعانيه تونس ظاهرة "الاحتباس الأيديولوجي"، التي تسود القوى السياسية، وعدم قدرتها على كسر هذا القفص الحديدي، الذي يبدو في ظاهره أفكارا حداثية وتقدمية أو إصلاحية ودينية ووحدوية، بينما ينكشف باطنه حالة من الانغلاق والتكلس، والدوران في حلقة مغلقة.
هذا "الاحتباس الأيديولوجي" بمختلف خلفياته، بقدر ما يتحول بوعي أو بدون وعي إلى مظهر من مظاهر خراب العمران، بقدر ما يفوت على البلاد فرصة الاستئناف والعزم على النهوض، إصلاحا وتغييرا وإقلاعا.
رابعا: آن الأوان للنخبة السياسية والاجتماعية والثقافية في البلاد، أن تثور على نفسها، وتعيد اكتشاف نفسها خارج قوقعة الأيديولوجيات الصارمة، والأحزاب غير المتجددة، والرؤى التقليدية المكررة.. آن الأوان أن تتحول فضاءات المجال العام، سياسة واجتماعا وثقافة واقتصادا من ساحات للتجاذب والتصارع والانقسام الأيديولوجي إلى ساحات لخفض التوتر، والتصارع، ومغادرة المعادلات الصفرية القائمة على حرب الفرد ضد الفرد والجميع ضد الجميع، شيطنة وإقصاء وافتراقا.
فالمرحلة اليوم مرحلة النضال الديمقراطي من أجل الديمقراطية، بأفق سياسي رحب، يؤسس لاجتماع سياسي، ويكثف المشتركَ ويحشده في وجه الانقسامات ونوستالجيا الأيديولوجيا: مشتركا متينا وحصينا، لا يلغي ولا يطمس التعدد والتنوع والاختلاف، وإنما يحتفي به ضمن أفق سياسي وطني جامع.
ولئن كان التسلح بالأفكار الكبرى، والأطروحات الأيديولوجية الملهمة، أمرا محمودا، فإن هذه القوى المؤمنة بالتغيير والإصلاح محمولة اجتماعا وسياسة، على الانخراط الجدي في تأسيس اجتماع سياسي، ركيزته تسويات تاريخية لتأمين تشكل وانبساط منظومة حكم واقعية تحقق للناس كرامتهم، وتضمن العدالة الاجتماعية، وإنجازات تنموية واقتصادية حقيقية، تعلي من المواطن وكرامته، وليس من الحزب وأيدولوجيته.
خامسا: المؤكد أن هذا التحول المطلوب تحت عنوان "انعطافة إستراتيجية" من أجل الديمقراطية، يستوجب تحولات في ثقافة النخب السياسية والاجتماعية والثقافية، ينعكس عمليا تحولا وتجددا في طبيعة وبنية الأحزاب السياسية والمنظمات الاجتماعية وتجدد نخبها.
ولا يعني ذلك قطيعة ونكرانا لتضحيات أجيال من الفاعلين السياسيين والاجتماعيين، بل تثمينا وتثويرا لنضالاتهم، وتعهدا لأحلامهم وفق منظور تجديدي إبداعي، أرحب أفقا، وأكثر فاعلية.
سادسا: لم يعد متاحا اليوم التمادي ضمن هذا المأزق التاريخي، المكرس لحالة "انحباس أيديولوجي" قاتلة، باتت اليوم تلوث الفضاء العام بمختلف مستوياته، وتتداعى عليه تعميقا للانقسام وتقويضا لثقافة التعايش، وإجهاضا لتشكل اجتماع سياسي هادئ.
ويقتضي هذا الانعطاف الإستراتيجي المطلوب، تصفية إرث من المفاهيم والمصطلحات البالية، التي لا تقيم اجتماعا سياسيا، ولا تبني أوطانا، ولا تحقق تنمية ولا ازدهارا، ولا تصون حقوقا، ولا تحفظ كرامة.
فالدوران في حلقة مفرغة حول وداخل جهاز مفاهيمي جدلي وإشكالي، على غرار "الدولة المدنية" و"الدولة الدينية" و"العلمانية" و"الإسلامية" و"اللائكية" و"الثيوقراطية" و"الحداثية" و"الظلامية" و"التقدمية" و"الرجعية"، لا يعدو أن يكون مجرد إصرار على "الاحتباس الأيديولوجي"، والدوران حول الذات في دائرة مغلقة، دون تقدم بأي اتجاه.
بينما تحولت كل هذه المفاهيم إلى مجرد مصطلحات جوفاء فاقدة للمعاني الجدية، بل باتت فجأة أشبه بذخيرة للتراشق، وتبادل إطلاق النار، بين المختلفين الأعداء، شيطنة واغتيالا سياسيا، وإبادة أخلاقية وثقافية، وتصفية عرقية.
لم يعد يليق بقوى محمولة على الإصلاح والتغيير، بل وتمثل بشكل أو بآخر طليعة المجتمع ونخبته، أن تستمر متقابضة على مفاهيم أيديولوجية بالية، ترهن كل المشهد العام لها، مؤجلة مواجهة الاستحقاقات الوطنية الحقيقية في التنمية والعدالة الاجتماعية والحكم الرشيد.
سابعا: تبدو النخبة التونسية اليوم محمولة على الانخراط في منعطف تاريخي استثنائي وغير تقليدي، يتحرر من مسلمات الإرث السياسي لتجربة ما بعد الاستقلال ومن كل مقدساتها وتابوهاتها.
لا مناص اليوم من الاعتراف صراحة بتآكل دولة الاستقلال كمؤسسات وكمنظومة بل وحتى كفكرة، وتآكلت معها ثقافتها السياسية، ما يقتضي التأسيس تجديدا، والإقلاع تحررا، والإبداع خيالا.
وليس ذلك خيانة للدولة بل إنقاذا لها من نفسها، وإعادة تأسيسها على غير منوالها التقليدي المتآكل والمستهلك. وتنهض الحاجة ملحة لرؤية سياسية غير تقليدية، تتمحور حول القضايا الحقيقية، قضايا البلاد والمجتمع: منظومة حكم معقولة قابلة للتطوير والتحسين الدائم، ورؤية سياسية متحررة من الأوهام الأيديولوجية والنماذج المستهلكة، ومنوال اقتصادي واجتماعي يعكس آمال الناس، ويستجيب لتطلعاتهم، ويحقق كرامتهم.
ثامنا: إن الانخراط في هذه الانعطافة الإستراتيجية يستوجب مغادرة الأفق الأيديولوجي والاندراج التلقائي في أفق سياسي رحب، وحده سبيل، على طريق تشكيل "الجماعة الوطنية" الحاملة رؤية وطنية شاملة، هي أشبه بالعقد الاجتماعي، عقد هو أشبه ببيان من أجل الديمقراطية، يعلي من شأن الإنسان والأوطان وينبذ الطغيان.
ولكي ينعكس هذا البيان رؤية سياسية، ومشروعا وطنيا، وينبسط سياسات عامة، وأهدافا تنموية، فإنه يحتاج إلى انتقال جيلي، تلتقط فيه نخبة جديدة اللحظة التاريخية، وتتحمل مسؤوليتها الوطنية وواجبها الحضاري.. جيل سياسي جديد، لا يدمن الأيديولوجيات وملهاتها، وإنما قضايا الناس ومعاناتهم، وانشغالات الشباب وتطلعاتهم، جيل استوعب دروس الماضي، وتجارب الأجيال السالفة، وانفتحت بصيرته على أفق جديد، وطريق جديد، ورحلة جديدة.
جيل يؤمن بأن أرقى أشكال الأيديولوجيا، هي إعلاء كرامة الفرد صونا، وتكريس العدالة الاجتماعية واقعا، وحماية حقوق وحريات الناس سلوكا. جيل يتسابق ويسابق الزمن خدمة لبلاده وشعبه. جيل ينتزع شرعيته من الإنجازات التنموية والاقتصادية وتحقيق العدالة الاجتماعية.
خلاصة: إن انكسار الربيع العربي بكل ما حمله من أحلام وآمال لشعوب المنطقة، خلف حالة عامة من خيبة الأمل والإحباط. هذا الانكسار يجب اليوم أن يُستوعب ويتم تجاوزه. إذ إن الاستسلام لهذه الخيبة، سيعمق أزمة بلداننا ومجتمعاتنا، فتفقد الأولى مقومات تماسكها، والثانية عناصر مناعتها.. يجب النظر إلى هذه الخيبة باعتبارها فرصة من أجل الاعتبار واكتشاف الإخلالات.. ومن ثم العزم نهوضا، والتوكل مسيرا.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.
المصدر:
الجزيرة