سراييفو- بعد ثلاثة عقود على توقيع اتفاقية دايتون التي أوقفت أكثر الحروب دموية في أوروبا الحديثة، يعود الجدل من جديد حول إرث الاتفاق ومآلاته. فبينما يتذكر البوسنيون يوم 21 نوفمبر/تشرين الثاني 1995 باعتباره نهاية سنوات التطهير العرقي والإبادة، يتساءلون اليوم: هل وضعت الاتفاقية حدا للقتال فقط أم جمدت نزاعا لم يُحسم بعد؟
ومع تصاعد الخطاب الانفصالي في جمهورية "صرب البوسنة"، وتعمق الخلافات بين البوشناق والكروات داخل الفدرالية، يتجدد النقاش حول ما إذا كان اتفاق دايتون قد رسم طريقا لبناء دولة قابلة للحياة أم أنه زرع بذور أزمات تتكشف اليوم بوضوح أكثر من أي وقت مضى.
و"معاهدة دايتون" هي اتفاقية سلام وقعها قادة صربيا و كرواتيا و البوسنة والهرسك في عام 1995، وأنهت 3 سنوات من الحرب الأهلية في يوغسلافيا السابقة، وقسمت البوسنة إلى دولتين هما:
منذ عام 1992 وحتى 1994، سيطرت مليشيات صرب البوسنة على 70% من أراضي البوسنة والهرسك، كانت تلك المليشيات مدعومة من صربيا، التي ورثت سلاح وعتاد جيش يوغوسلافيا القوي.
لكن عام 1995 حمل نقاط تحوّل جوهرية بدلت في موازين القوى وغيّرت مجرى الحرب:
نتيجة لهذه العوامل مجتمعة تمكّن الجيش البوسني مع القوات الكرواتية (تحالف الكروات مع البوسنيين بعدما كانوا قد تحالفوا مع الصرب بداية الحرب) من استعادة ما يزيد عن 1600 كيلومتر مربع في أسابيع فقط، حتى وصلوا إلى أعتاب بانيا لوكا عاصمة صرب البوسنة.
كان سقوط بانيا لوكا، أكبر مدينة يسيطر عليها الصرب، حتميا لولا تدخل الولايات المتحدة وإرغام الجيش البوسني على وقف عملياته، والدعوة إلى مفاوضات "دايتون"، خصوصا وأن إدارة بيل كلينتون أرادت تحقيق إنجاز سياسي قبل انتخابات 1996.
قبل اتفاقية دايتون كانت هناك 4 محاولات بارزة للتوصل إلى وقف لإطلاق النار، لكن أيا منها لم يكن مرضيا لجميع الأطراف، وهي:
وثّق الدبلوماسي الأميركي الشهير ريتشارد هولبروك في كتابه "إلى نهاية حرب" (To End a War) السياسات التي اتبعتها واشنطن لفرض خيار التفاوض؛ فقد أرغمت الولايات المتحدة الأطراف المتقاتلة على التفاوض، وهكذا سافر الرئيس البوسني علي عزت بيغوفيتش والرئيس الصربي سلوبودان ميلوسوفيتش والرئيس الكرواتي فرانيو تودجمان إلى ولاية أوهايو للتفاوض.
هذا الإرغام اتخذ منحى أكثر صرامة حينما قامت الولايات المتحدة بعزل -أشبه بالاحتجاز- للمتفاوضين في قاعدة "رايت باترسون" الجوية، بل رصدت هواتفهم ومنعت عنهم الاتصالات الخارجية أو العودة إلى بلدانهم حتى التوصل إلى اتفاق.
واستخدمت إدارة بل كلينتون نفوذها العسكري والوعود بإعادة الإعمار والاعتراف بالكيانات السياسية كأداة ترغيب وترهيب للمتفاوضين.
استمرت المفاوضات من مطلع شهر نوفمبر/تشرين الثاني 1995 وحتى 21 من الشهر نفسه، حينما وقعت الأطراف الثلاثة بالأحرف الأولى على الاتفاقية، وذلك قبل التوقيع الرسمي في باريس يوم 14 ديسمبر/كانون الأول 1995.
يمكن تلخيص ما تضمنته اتفاقية دايتون للسلام ضمن فئات كبرى أهمها:
لا تزال البوسنة والهرسك تعاني من أزمات سياسية كبرى، ووضع اقتصادي شديد السوء جراء البيروقراطية والفساد.
وتتمثل أبرز الأزمات السياسية في استمرار الخطاب الانفصالي من جانب سياسيي صرب البوسنة، وخصوصا من الرجل الأقوى وذي النفوذ الواسع ميلوراد دوديك ، الذي اتخذ خطوات عملية في اتجاه انسحاب جمهورية صرب البوسنة من مؤسسات الدولة كالجيش والقضاء ومصلحة الضرائب، والإعلان عن مؤسسات موازية، مما يهدد اتفاقية السلام برمتها ويقضي على فكرة الدولة البوسنية.
على صعيد آخر، هناك أزمة سياسية في فدرالية البوسنة بين البوشناق المسلمين والكروات الكاثوليك، إذ تجادل الأحزاب الكرواتية بنقص تمثيلها، وتطالب بتعديل النظام الانتخابي بحيث ينتخب البوشناقي ممثله البوشناقي، والكرواتي ممثله الكرواتي، وتروج لفكرة أن الكروات لا يمثلون بشكل صحيح لأن المسلمين هم الأكثرية التي تنتخب الممثلين عنهم.
وتعارض الأحزاب البوسنية هذه الادعاءات، وترفض أي تعديل في النظام الانتخابي وتعتبره ترسيخا عرقيا مفرطا وخطوة نحو "كيان ثالث"، وقد أدى هذا الخلاف مرارا وتكرارا إلى عرقلة تشكيل حكومة الاتحاد وشل المؤسسات الرئيسية.
ولأن لكل جماعة عرقية حق النقض، تشهد البوسنة والهرسك انهيارات متكررة للحكومات، وشللا في البرلمان، وتأخيرا في تشكيل الحكومات بعد الانتخابات (أحيانا لأكثر من عام) وعدم القدرة على إقرار إصلاحات رئيسية.
كما تعاني البوسنة من هجرة واسعة لشبابها، ومن فساد يعوق الإصلاحات ويعرقل الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي ، مما يشير -وفقا لخبراء- إلى أن اتفاقية دايتون نجحت في وقف الحرب، لكنها فشلت في بناء الدولة.
المصدر:
الجزيرة
مصدر الصورة
مصدر الصورة
مصدر الصورة
مصدر الصورة