آخر الأخبار

ما مستقبل السودان بعد أهوال الفاشر؟

شارك

في حال واجهت مشكلة في مشاهدة الفيديو، إضغط على رابط المصدر للمشاهدة على الموقع الرسمي

بقع حمراء زاهية على رمال ساخنة غيرت لون الأرض وصبغتها بالأحمر، مجموعات من الأجساد البشرية متناثرة على نطاق واسع من منزل إلى منزل وبجوار مركبات عسكرية.

المشهد ذاته يتكرر في باحة مستشفى الأطفال الذي تحول إلى مقر احتجاز، وعلى الساتر الترابي الذي سبق أن شيدته قوات الدعم السريع حول المدينة لتضييق الحصار عليها بما يشير إلى عمليات قتل جماعي واسعة النطاق.

اقرأ أيضا

list of 3 items
* list 1 of 3 النبوءة التي قادت عبد الفتاح البرهان ليصبح رجل السودان الأقوى
* list 2 of 3 القصة الكاملة لسقوط الفاشر
* list 3 of 3 ماذا يريد حميدتي والدعم السريع من السودان؟ end of list

هكذا بدت الفاشر من الفضاء بعد ساعات فقط من السيطرة عليها من قبل قوات الدعم السريع يوم 26 أكتوبر/تشرين الأول الماضي وذلك وفقا لتقرير أصدره مختبر الشؤون الإنسانية بجامعة ييل الأميركية معتمدا على صور الأقمار الصناعية والبيانات المفتوحة المصدر لتحليل الأحداث التي أعقبت السقوط.

نعم سقطت الفاشر ولكن ربما الأدق أنها صمدت أطول مما كان متوقعا، حاضرة دارفور وأرض السلاطين والحضارة الضاربة في عقود الزمان صدّ فيها بجسارة الجيش السوداني متمثلا في الفرقة السادسة مشاة بمساندة حركات الكفاح المسلح الدارفورية والمقاومة الشعبية حوالي 270 هجوما شاملا استخدمت فيه قوات الدعم السريع أسلحة متنوعة من مدرعات حديثة ومسيرات إستراتيجية ومدفعية وأنظمة دفاع جوي، واستعانت بمرتزقة من خارج السودان ومدربين عسكريين من خارج أفريقيا كلها.

عانت فاشر السلطان لما يقرب من عام ونصف تحت حصار خانق أكل فيه الناس أعلاف الحيوانات ثم جلودها بعد أن نفد الطعام ليواجهوا مجاعة حقيقية، فضلا عن الموت الذي كان يأتيهم من كل مكان بالقصف بالمسيرات وبالضرب بالمدفعية، عُزلت الفاشر تماما عن العالم الخارجي حتى إن الحديث عنها إعلاميا كان قليلا.

بعد السقوط، تصدرت الفاشر وسائل الإعلام ومحركات البحث التي ضجت بالحديث عن الفظائع ومنشورات الانتهاكات الجسيمة والتعذيب والقتل، وكأن العالم يحاول أن يعتذر عن تجاهله طوال مدة الحصار بالحديث الآن عن الدماء التي أريقت، أو لعله كان لا بد أن تتصدر صورة الدماء لا صورة البطولة والصمود واجهة المشهد الأخير.

إعلان

تراكمت الأدلة على الفظائع التي ارتكبت في الفاشر عبر ثلاثة مصادر رئيسية: أولها صور الأقمار الصناعية التي تحدثنا عنها في المقدمة، وثانيا روايات الناجين إذ كانت شهادات من استطاع النجاة بأعجوبة تصف جحيما لا يمكن تخيله وأعمال تصفية أثناء النزوح، وهي شهادات مروعة رواها هؤلاء بعد نزوحهم إلى بلدة طويلة التي تبعد 60 كيلومترًا عن الفاشر وتخضع لسيطرة حركة تحرير السودان بقيادة عبد الواحد نور، بعد أن أصبحت مركزا إنسانيا يؤوي أكثر من 600 ألف نازح فروا من هجمات قوات الدعم السريع، تحدث الناجون عن عمليات قتل ونهب واسعة ارتكبتها قوات الدعم السريع عقب سيطرتها على المدينة.

أما ثالثًا -وهي التي كانت الأوسع انتشارا- فهي مقاطع فيديو صورها الجناة وشاركوها على مواقع التواصل الاجتماعي أو في مجموعات دردشة خاصة، حتى إن ما نشره قائد ميداني واحد هو العميد الفاتح عبد الله إدريس وشهرته أبو لولو دفع الخارجية الأميركية لفتح نقاش مع قيادة الدعم السريع حوله حسب تصريح مسؤول بالخارجية الأميركية للشرق بلومبرغ بعد أن اجتاحت فيديوهاته وسائل التواصل الاجتماعي وهو يتفاخر بقتل ألف شخص بمفرده.

وقد قدرت الواشنطن بوست أنهم ألفا شخص، مما جعل وسائل الإعلام تطلق عليه "وجه الموت"، وقد ظهر قبل ذلك وهو يمارس انتهاكات في أماكن أخرى قبل الفاشر ليعلن الدعم السريع اعتقاله لاحقا في مشهد دعائي مصور، وليصدر قائد ثان في الدعم السريع وهو شقيق حميدتي عبد الرحيم دقلو ما قال إنه قرار قيادي لعناصره بالالتزام الصارم بالقانون وقواعد السلوك والانضباط العسكري.



شملت الصور والفيديوهات مشاهد نزوح لنساء وأطفال ومسنّين سيرا على الأقدام وسط رمال ساخنة وشمس حارقة، وإعدامات ميدانية لعزّل، وأخرى لألعاب يمارسها الجنود يأمرون فيها الأسرى بالجري ثم يقتلونهم، وتتبع بالقصف للنازحين حيث لاحقت مركبات قتالية تابعة لقوات الدعم السريع مجموعة كبيرة من الرجال الفارين سيرا على الأقدام وأطلقت النار عليهم. يلاحظ أن عددا من هذه الفيديوهات كان يتضمن موسيقى خلفية على غرار تيك توك وتعليقًا صوتيًّا دعائيًّا، فضلا عن فيديوهات عززتها شهادات الناجين بأن الرجال ينقلون في شاحنات ويقتادون بعيدا وأن مئات منهم محتجزون لدى قوات الدعم السريع.

أما في المستشفى السعودي فكانت المشاهد صادمة، إذ يظهر أحد المقاطع نحو اثنتي عشرة جثة ملقاة على الأرض، بينما يطلق جندي من قوات الدعم السريع النار على ناج مسنّ، وصرح مدير منظمة الصحة العالمية ، تيدروس أدهانوم غيبريسوس، بأنه "مُفزَع ومَصدوم بشدة من التقارير التي أفادت بمقتل أكثر من 460 مريضًا ومرافقًا لهم في مستشفى الولادة السعودي بالفاشر".

وبحسب نيويورك تايمز كان المستشفى السعودي هو الملاذ الأخير للعديد من المدنيين الجائعين أو المصابين في المدينة. وقد أفادت تنسيقية لجان المقاومة بالفاشر بأن كل الجرحى والمصابين داخل المستشفى السعودي وعنابر «درجة أولى» و«الجامعة» و«الداخلية» قد تمت تصفيتهم جميعًا من قبل ميليشيا الدعم السريع بطرق بشعة، وقُتلوا وهم بين الحياة والموت.

إعلان

يشير ما سبق إلى أن عدد القتلى في ارتفاع، ومن المرجح أن هذه المقاطع المروعة، التي تظهر مئات الجثث، لا تمثل سوى رأس جبل الجليد من إجمالي الحوادث التي وقعت بناء على الأدلة المتوفرة وتلك التي لا تزال قيد التحليل، ومن المرجح أيضا أن العدد النهائي للضحايا لن يعرف قريبا، وربما لن يرى النور إلا بعد شهور أو حتى سنوات ريثما تتبدل الأوضاع على الأرض بما يسمح لفرق العمل الحقوقية والإنسانية بالتحرك بحرية، فكما حدث في وقائع مشابهة داخل السودان نفسه، إبان حربي دارفور الأولى والثانية، وكذلك حرب الجنوب، لم تكشف الحقائق إلا متأخرة، حين خرجت الأرقام لتصدم الجميع بمئات الآلاف من القتلى.

من جانبه قدر مرصد حرب السودان أوليًّا عدد القتلى بالآلاف (3000 أو أكثر)، كما توصل باحثون في مختبر الأبحاث الإنسانية بجامعة ييل إلى استنتاجات مماثلة. وقد اتهم التقرير الصادر عن ذات المختبر قوات الدعم السريع بارتكاب أفعال قد ترقى إلى مستوى جرائم الحرب، وجرائم ضد الإنسانية، و"عملية تطهير عرقي ممنهجة ومقصودة”.

وقارن ناثانيال ريموند، المدير التنفيذي للمجموعة البحثية، مستوى العنف في المدينة بالساعات الأربع والعشرين الأولى من الإبادة الجماعية في رواندا، حيث قال في تصريح نقلته الغارديان بالتعاون مع وكالة الصحافة الفرنسية: "ما زلنا في بداية موجة العنف. لم أر قط مستوى من العنف ضد منطقة كالذي نشهده الآن. هذا لا يقارن إلا بجريمة قتل على الطريقة الرواندية في الساعات الأربع والعشرين الأولى"، وأضاف: "إن مستوى وسرعة وشمولية العنف في دارفور لا مثيل له، القتل شمل حتى المتطوعين".

وهو ما أكدته لجان مقاومة الفاشر عبر تصريح منفصل حيث أفادت عن "استشهاد عدد كبير من عناصر مبادرات التكايا والمتطوعين بالمدينة، الذين كانوا يعملون في تقديم الدعم والمساعدات للمدنيين وسط المعارك الدائرة".

وفقًا للأمم المتحدة فرّ أكثر من مليون شخص من الفاشر منذ بداية الحرب، ولا يزال حوالي 260 ألف مدني، نصفهم من الأطفال، عالقين دون أي مساعدة. وأفادت المنظمة الدولية للهجرة أن 36,000 شخص إضافي فروا من الفاشر خلال الأيام الثلاثة الأولى بعد اجتياحها سيرا على الأقدام نحو طويلة ومليط وكبكابية ووجهات أخرى. وقد وصل العديد منهم مصابين بجروح وجوعى ويعانون من الجفاف، حاملين معهم قصصا عن الرعب والعنف وفقدان أحبائهم.

كما أفادت منظمة أطباء بلا حدود ، التي لديها فريق طبي في طويلة أن الناجين بينهم العديد من الأطفال الذين يعانون من سوء التغذية، ونساء حوامل في حالة حرجة، وعشرات المصابين جراء إطلاق النار أو العنف.

أنهى تقرير جامعة ييل الأميركية تقريره عن مجازر الفاشر بهذه الجملة: "قد تستطيع دول العالم القول إنها لم تتمكن من منعه، لكنها لا تستطيع الادعاء بشكل معقول أنها لم تكن تعرف"، وهي جملة تستحق أن تخلد في ذاكرة البشرية لترويَ بطولة فاشر السلطان وعار من تركوها تسقط في آن واحد.

إن سقوط الفاشر ليس مجرد حدث عابر ولكنه نقطة تحول إستراتيجي في الحرب الدائرة منذ عامين ونصف، وإن تبعات السقوط تتعدى السياق المحلي وتطرح مزيدا من الأسئلة المعقدة حول مستقبل السودان.

قراءة في الردود على سقوط الفاشر

تتابعت الردود بعد مشاهد السقوط الدموية، داخليًّا خرج الفريق أول عبد الفتاح البرهان قائد الجيش ورئيس مجلس السيادة في كلمةٍ متلفزة قصيرة مؤكدًا أن الانسحاب من الفاشر كان "ضروريا" بسبب ما تعرضت له المدينة من تدمير ممنهج، وأوضح أن قيادة الجيش ولجنة الأمن بالفاشر قررتا المغادرة بعد تقديرات رأت أن البقاء سيعرض المدنيين لمزيد من القتل والتدمير، وأنه تمت الموافقة على القرار لانتقال القوات إلى "مكان آمن" بهدف حماية المدنيين وتقليل الخسائر، وختم البرهان حديثه بنبرة تعبوية قائلًا "قواتنا قادرة على تحقيق النصر وقلب الطاولة واستعادة الأراضي" مضيفا "نحن عازمون على أن نقتص لكل شهدائنا".

إعلان

على النهج ذاته من تأكيد الصمود والوعد بالنصر جاءت كلمة رئيس الوزراء المعين منذ أربعة أشهر فقط كامل إدريس الذي دعا المنظمات الدولية إلى التدخل لحماية الفاشر مؤكدا أن ما ارتكب فيها "يشكل جرائم حرب وتطهيرا على أساس عرقي".

وبالروح نفسها ألقى جبريل إبراهيم وزير المالية ورئيس حركة العدل والمساواة ومني أركو مناوي حاكم إقليم دارفور ورئيس حركة تحرير السودان خطابين مصورين بصفتهما قائدين للحركتين اللتين تمثلان العمود الفقري للقوة المشتركة التي ساندت الجيش داخل الفاشر، وقد أعلنا منذ نوفمبر/تشرين الثاني 2023 خروجهما عن الحياد بعد تصاعد انتهاكات الدعم السريع في دارفور حيث قواعدهما القبلية.

لكن ما ميز خطابي مناوي وجبريل إلى جانب ظهورهما بالزي العسكري في مشهد لافت كان إقرار الأول بوجود أخطاء وإخفاقات تتحملها قيادة الدولة والقوة المشتركة، وتحدُّث الأخير بنبرة غير معهودة عن تحمل القوات النظامية والمساندة جميعا "كفلا من مسؤولية عجزنا عن نجدة الفاشر" وعن ضرورة "إجراء مراجعة للأداء لتقويم أي اعوجاج شاب التخطيط أو التنفيذ".

أما على الجانب الآخر فقد جاء الخطاب المصور لحميدتي هذه المرة مختلفا عن عادته، إذ بدا أكثر هدوءا واتزانا، فيما يمكن اعتباره أفضل ظهور إعلامي للرجل منذ اندلاع الحرب، وأراد أن يظهر بهيئة المنتصر المتواضع وبلغة رجل الدولة فأعلن أن السيطرة على الفاشر جاءت "حفاظًا على وحدة السودان".

كما أقر بوقوع تجاوزات ميدانية وأعلن تشكيل لجنة تحقيق بشأنها، ودعا سكان المدينة إلى العودة إلى منازلهم، مشيرا إلى تفاوض سري جرى بين الدعم السريع والجيش في الأيام السابقة، ولكنه لم يستطع منع نفسه كالمعتاد من توجيه أصابع الاتهام نحو أطراف خارجية تدعم الجيش واصفا إياها بأنها "دول ترعى الإرهاب" فيما بدا مغازلة لموقف واشنطن ضد طهران، فقد سبق أن تحدث مسعد بولس صهر ترامب وكبير مستشارية لشؤون أفريقيا عن ترحيبه بقطع الجيش السوداني للعلاقات معها.

ولما ذكره بولس في مقابلة مع الشرق الأوسط من أن "بند الإخوان المسلمين خطّ أحمر بالنسبة لأميركا والرباعية"، محذرًا في ذات اللقاء الذي جاء بعد سقوط الفاشر من خطر تقسيم السودان على غرار النموذج الليبي، وفي حديث آخر إلى قناة العربية أكد بولس تقديم خطة طريق ضمن إطار الرباعية لطرفي النزاع قبل سقوط الفاشر بأيام تشمل هدنة إنسانية لمدة 3 أشهر، وأنها ما زالت قيد البحث محذرا لأول مرة من إجراءات أخرى قد تتخذها الولايات المتحدة في حال رفضها.

وقد جاء أقسى التصريحات الأميركية على لسان جيم ريتش رئيس لجنة العلاقات الخارجية في الكونغرس الذي قال إن “الأهوال في الفاشر لم تكن عرضية، بل كانت خطة الدعم السريع منذ البداية”.

وأضاف أن هذه القوات ارتكبت تطهيرًا عرقيًّا وانتهاكات تفوق الوصف، داعيا إلى تصنيفها رسميا "منظمةً إرهابية أجنبية"، مؤكدا أن "الولايات المتحدة لن تكون آمنة ولا مزدهرة ما دامت قوات الدعم السريع تذبح الآلاف".

توالت بيانات الإدانة والتأكيد على وحدة السودان من الجامعة العربية ومصر وقطر والسعودية، وكان بيان القاهرة هو الأوضح بين مواقف دول الجوار المباشرة في حين تفرد بيانا الدوحة والرياض بتسمية قوات الدعم السريع صراحة بوصفها طرفا مسؤولا عن الانتهاكات التي رافقت سقوط الفاشر.

كما تواصلت الإدانات من الأطراف الإفريقية، وفي مقدمتها جنوب إفريقيا والاتحاد الإفريقي، إلى جانب مجلس السلم والأمن الإفريقي التابع له.

أما المواقف الأوروبية، فقد جاءت متأخرة ثلاثة أيام كاملة، وتفاوتت نبرتها بين التنديد والتحفظ، حيث أصدر الاتحاد الأوروبي في 29 أكتوبر/تشرين الأول بيانا أدان فيه "وحشية قوات الدعم السريع" وما وصفه بـ"الاستهداف الإثني للمدنيين" عقب سيطرتها على الفاشر.

وسعت فرنسا إلى تبني خطاب أكثر توازنًا، إذ نددت بالهجوم وأعربت عن قلقها من "فظائع محتملة"، داعية الطرفين إلى "التفاوض المباشر".

في المقابل، بدا الموقف البريطاني أكثر حزما، حيث أكدت وزيرة الخارجية إيفيت كوبر أن قيادة الدعم السريع ستحاسب على أفعال عناصرها في الفاشر، مشيرة إلى وقوع "انتهاكات عديدة" في المدينة.

أما على صعيد المنظمات فقد قال فولكر تورك، المفوض السامي لحقوق الإنسان بعد يوم من سقوط المدينة إن هناك خطرا متزايدًا من "انتهاكات وفظائع بدوافع عرقية" في الفاشر. وقال مكتبه إنه "يتلقى تقارير مقلقة متعددة تفيد بأن قوات الدعم السريع ترتكب فظائع، بما في ذلك إعدامات بإجراءات موجزة".

إعلان

وقالت مفوضية الأمم المتحدة لحقوق الإنسان إن هناك تقارير عن "إعدامات بإجراءات موجزة لمدنيين حاولوا الفرار، مع وجود مؤشرات على دوافع عرقية للقتل"، وفي مؤتمر صحفي رقمي عُقد بعد يومين من سقوط الفاشر، قالت جاكلين ويلما بارليفليت، رئيسة المكتب الفرعي لمفوضية الأمم المتحدة لشؤون اللاجئين في بورتسودان، إن قلة من العاملين في المجال الإنساني شهدوا وضعًا بهذا السوء طوال مسيرتهم المهنية الطويلة في المجال الإنساني"، مشيرةً إلى "انتشار القتل بدوافع عرقية وسياسية".

وبالطبع مع كل كارثة هناك قرار لمجلس الأمن جرى ضرب الحائط به، ففي الثالث عشر من يونيو/حزيران 2024، أصدر مجلس الأمن قراره رقم 2736، بخصوص مدينة الفاشر، ودعا إلى حوالي تسعة أمور على رأسها: دعوة قوات الدعم السريع لرفع حصارها عن الفاشر، ودعوة الأطراف الخارجية لوقف دعمها، وإلزام الأطراف المتحاربة بضرورة الالتزام بإعلان جدة الموقع بين القوات المسلحة والدعم السريع في مايو/أيار 2023، إضافة إلى حث المجتمع الدولي على سد فجوة التمويل الخاصة بخطة الاستجابة الإنسانية.

وبعد نحو أربعة أيام من اجتياح المدينة عقد مجلس الأمن جلسة طارئة اعتدنا عليها في مثل هذه الأمور وخرج ببيان متوقع واعتيادي يدين ما جرى ويذكر بالقرار 2736 الذي تم تجاهله ويحمل قوات الدعم السريع المسؤولية ويعبر عن قلقه "إزاء تزايد خطر ارتكاب فظائع واسعة النطاق، منها فظائع بدوافع عرقية" في حين أبلغ السفير الهادي إدريس مندوب السودان الدائم بالأمم المتحدة مجلس الأمن بأنه "لم يعد هناك مدنيون في الفاشر".

وبين من اعتبر ما جرى انتصارا عسكريا، ومن اعتبره انتكاسة مؤقتة، ومن رآه كارثة إنسانية شاملة، ومن حذر من أنه يفتح الباب أمام سيناريو التقسيم على النموذج الليبي معتبرا مقاربته لحل الأزمة فرصة أخيرة للسلام يظل السؤال الأعمق يطل برأسه: لماذا حدثت كل هذه الانتهاكات أصلًا؟ وهل كانت مجرد انفلات في الميدان، أم كان مقصودًا أن تخرج بهذا الشكل الصادم ضمن إستراتيجية مدروسة؟

مصدر الصورة

منهج التوحش.. قراءة في منطق الحرب عند الدعم السريع

ما جرى في الفاشر من انتهاكات وجرائم إنسانية لم يكن استثناء في سلوك قوات الدعم السريع، بل امتدادا لنمط مارسته منذ أن كانت تعرف باسم الجنجويد قبل نحو عشرين عاما.

فخلال حربي دارفور الأولى 2003 والثانية 2014، وُجِّهت لتلك الميليشيات -التي كانت مدعومة من الحكومة- اتهامات بارتكاب جرائم حرب واسعة النطاق شملت القتل الجماعي والاغتصاب المنهجي والنهب، خصوصا ضد المجموعات العرقية غير العربية في دارفور، وفق ما وثقته تقارير الأمم المتحدة والمنظمات الحقوقية الدولية.

ومع انتشار الهواتف المحمولة تحول التوثيق إلى أداة جديدة للوحشية إذ تعمدت هذه القوات تصوير فظائعها ونشرها، فعلى سبيل المثال خصصت هيئة الإذاعة البريطانية (BBC) قبل 6 أشهر فيلما وثائقيا مدته ساعة كاملة مليئًا بصور وفيديوهات من هواتف جنود الدعم السريع أنفسهم يوثق حجم العنف الممنهج في دارفور.

ما حدث في الفاشر لم يكن مفاجئًا، بل كان امتدادا طبيعيا لحرب مستعرة منذ أكثر من عامين ونصف، خلفت وفق بعض التقديرات التي نشرت قبل عام نحو 150 ألف قتيل و14 مليون نازح، لتصبح أكبر أزمة نزوح وإنسانية في العالم. هذا الدمار الشامل غيّر وجه السودان تماما، وجعل البلاد في حاجة إلى سنوات طويلة للعودة إلى ما كانت عليه قبل 15 أبريل/نيسان 2023.

فمنذ أيامها الأولى، ارتكبت قوات الدعم السريع جرائم موثقة، أبرزها ما حدث في مدينة الجنينة عاصمة ولاية غرب دارفور حيث قتل نحو 15 ألف شخص من قبيلة المساليت على أساس عرقي، كما أقدمت الميليشيا على تصفية الوالي خميس أبكر بعد اعتقاله حيا.

وطوال عامين ونصف تكررت أنماط الانتهاكات ووقع بعضها لأسباب لا تبدو معقولة مثل ما حدث في 30 قرية من ولاية الجزيرة من قتل واغتصاب وكان فقط انتقاما لانشقاق القائد الميداني أبو عاقلة كيكل وانضمامه للجيش وفقا لتقرير هيومن رايتس ووتش الصادر في نوفمبر/تشرين الثاني العام الماضي، وما حدث في قرية ود النورة في أغسطس/آب 2024 حينما تم الهجوم على القرية الصغيرة بالأسلحة الثقيلة مما أدى إلى مقتل ما يزيد على 100 إنسان في ساعات معدودة وفقا لتحقيق بي بي سي بل إن هناك انتهاكات تجري حاليا بالتزامن مع سقوط الفاشر، إذ شهدت ولاية شمال كردفان فظائع مشابهة عقب سيطرة الدعم السريع على مدينة بارا وبلدتي الزريبة وأم دم حاج أحمد شمال الأبيض.

ووفقا لتقارير شبكة أطباء السودان، أعدمت القوات هناك 47 شخصًا، بينهم تسع نساء، داخل منازلهم بتهمة الانتماء للجيش، وقد تداول الأهالي قائمة بأكثر من مئة مفقود منذ اجتياح المدينة. كما أعربت اللجنة الدولية للصليب الأحمر عن أسفها لمقتل خمسة متطوعين من الهلال الأحمر أثناء الأحداث في بارا.

إذن نمط التوحش لدى قوات الدعم السريع متجذر تاريخيا ومتوقع، الجديد فقط هو تصدر مشهد الفاشر محركات البحث مما أجبر العالم على النظر. ساعد في ذلك هدوء الأوضاع في غزة، في كشف لسلوك هرمية الاهتمام التي أصبحت تحكم المجال العام وهي إشكالية لا بد من التعامل معها بجدية.

مصدر الصورة القائد الميداني في قوات الدعم السريع عبدالله إدريس "أبو لولو" (منصة إكس عبر حساب @HassanB16621695)

تستخدم قوات الدعم السريع العنف المتوحش هنا سلاحًا لأهداف محددة منها كسر الإرادة المدنية وإضعاف الجيش السوداني. كما أن هذا السلوك يهدف إلى إفراغ المناطق من السكان الموالين للجيش، مما يمنح قوات حميدتي سيطرة ميدانية كاملة ويمنع إعادة التنظيم العسكري. كما يصور النهب كتشجيع لتجنيد آخرين فضلًا عن دوره في دورة تمويل الحرب.

سقوط الفاشر مثال حي على اختلاف تركيب الميليشيا عن الجيش النظامي، ومحاولات الدمج أو إسباغ الرتب لن تغير جوهر السلوك. وللقارئ أن يقارن بين ذلك وبين مشهد سيطرة الجيش على العاصمة حيث فرت عبر جسر جبل أولياء عائلات محسوبة على قوات الدعم السريع دون اعتراض في دليل إضافي على تمايز الأولويات والولاءات بين الطرفين.

هندسة المشاعر وكي الوعي

يمارس الدعم السريع عميلة هندسة للمشاعر وكيّ للوعي يتمثل فيها بنمط التوحش الإسرائيلي كنموذج فضلا عن الترويع والتهجير، وهذا التأثر المحتمل بالنمط الإسرائيلي ليس مستغربا على حميدتي، فبين الأخير وتل أبيب علاقات طيبة ووثيقة، فقد سبق أن استعان حميدتي أثناء الفترة الانتقالية بالبلاد (2019-2023) لتحسين صورته العامة بالتعاقد مع شركة الضغط الكندية "ديكنز آند مادسون" بقيمة 6 ملايين دولار، وهي الشركة التي عمل رئيسها، آري بن مناشي، ضابطًا سابقًا في الاستخبارات الإسرائيلية.

كما صرّح دقلو في مقابلة تلفزيونية مطلع عام 2020 قائلًا "بصراحة نحن بحاجة إلى إسرائيل، ولسنا خائفين من أحد"، مشيدًا في اللقاء ذاته بـ"التطور الإسرائيلي"، كما أبلغ قائد الدعم السريع الرئيس الإريتري أسياس أفورقي قبل اندلاع حرب 15 أبريل بحاجة السودان لاستيراد تكنولوجيا زراعية من إسرائيل، ولاحقًا كشف موقع "والا" العبري في تقرير له يستند إلى جهات دبلوماسية إسرائيلية أن حميدتي، منذ بداية عملية تطبيع العلاقات بين إسرائيل والسودان، حاول إقامة قنوات اتصال مستقلة مع إسرائيل، من أجل دفع أجندته ورفع أسهمه الخاصة وسط منافسيه من القادة السودانيين خاصة البرهان وحمدوك، وأشار الموقع في هذا السياق إلى لقاءات عقدت في الخرطوم بين ضباط موساد وجنرالات الدعم السريع.

كما ظهرت قبل اندلاع حرب 15 أبريل صور حديثة لصواريخ المدفعية " LAR-160″ الإسرائيلية الصنع بحوزة قوات الدعم السريع رصدتها شركة "Military Africa" المختصة بالصناعات الحربية، وكذلك نشرت صحيفة هآرتس العبرية إفادات حول حصول قوات حميدتي على تقنيات تجسس إسرائيلية عالية التشفير بهدف التعمية على تحركات قواته دون ذكر تفاصيل حول كيفية الحصول عليها.

حرب الإبادة الحضرية نمط عند الدعم السريع

رغم أن الفاشر كانت هدفا لأكثر من حرب منذ إنشائها على يد السلطان عبد الرحمن الرشيد أواخر القرن الثامن عشر لتكون حاضرة سلطنة الفور العريقة التي أنشأها السلطان سليمان أحمد في القرن الخامس عشر، فإنه لم تكن أي من هذه الحروب كحرب الدعم السريع التي هي "حرب إبادة حضرية" تنطفئ بها الحياة مرة واحدة، مع ملاحظة أن قوات الدعم السريع ليست جيشا نظاميا وتصنف بأنها فاعل من غير الدول. في هذا النوع من الحروب على المدن يتحول المجال الحضري إلى ساحة قتال، لا تمييز فيها بين مدني وعسكري، وتوظف كل الوسائل التقنية والمدنية من الرصد إلى الاتصالات إلى الكاميرا لأغراض رصد واستهداف ودعاية.

الكاميرا هنا ليست مجرد أداة توثيق، بل سلاح: تصوير الفظائع وبثها يعظم الرعب ويكسر الروح، إنزال أقصى درجات العنف على خصوم معزولين، تمثيل بالجثث، ثم إنكار لاحق مصحوب بوعود بتحقيقات شكلية. كل ذلك لا يهدف فقط إلى إخضاع الخصم بل إلى ترسيخ الإبادة الجماعية المقصودة وتعظيم أثرها وإعادة تشكيل المدينة على أسس جديدة كمساحة "نظيفة" يمكن الاستثمار فيها اقتصاديًّا وسياسيًّا بعد إفراغها من سكانها الأصليين.

ومع امتداد شبكة الدعم والتمويل عبر أطراف إقليمية، بدا أن الفاشر هدف لهذا المزيج عبر هجوم عسكري ولوجستي وتقني ومعلوماتي، لكنها لم تقهر كليًّا، الفاشر باقية في ذاكرة النازحين شاهدة على أن تلك "الإبادة الحضرية" قد تخرب المدن لكنها لا تقتلع الذاكرة والهوية بسهولة.

مصدر الصورة علف الحيوانات الذي يعرف محليا بالأمباز يتناوله سكان الفاشر ومخيم أبوشوك (الجزيرة)

وبعد أن فصلنا في قضية التوحش لدى قوات الدعم السريع، نصل إلى سؤال آخر من أسئلة الفاشر: كيف سقطت، وما الذي ترتب على هذا السقوط؟ ليس من زاوية المشهد الميداني فحسب، بل من حيث ما يكشفه عن مستقبل الحرب ومآلات السودان بأسره.

معركة واحدة تغير وجه السودان: كيف سقطت الفاشر وما الذي يعنيه سقوطها ميدانيًّا وسياسيًّا؟

ربما فوجئ البعض بمشهد سقوط الفاشر ولكن الواقع أن اجتياح الدعم السريع للمدينة تم بالتدريج وبمعارك متتابعة على مدار عام ونصف تحولت فيه المدينة إلى نقطة اشتباك ساخنة خاصة بعد أن استعاد الجيش السوداني الخرطوم وولايات الشرق والوسط في مارس/آذار الماضي لتصبح معركة الفاشر محورية وفاصلة لطرفي الصراع.

إذ كثف بعدها الدعم السريع هجماته عبر محاور متعددة واستخدم فيها مختلف الأسلحة من مسيّرات ومدفعية وهجوم بري مدعوم بمركبات مدرعة إضافة إلى حصار خانق استخدم فيه سلاح التجويع وعزل المدينة تمامًا عبر بناء حواجز ترابية بطول 57 كيلومترا حولها، إلى أن استطاعت عناصره الدخول إلى أحياء المدينة وسيطرت على مناطق حاكمة وإستراتيجية أو حاصرتها مثل المطار ومقار المكونات العسكرية وعلى رأسها الفرقة السادسة مشاة الحامية الإستراتيجية الرئيسية، وعندما أصبح من المستحيل البقاء اتُّخذ قرار الانسحاب وهو ما أكده البرهان في بيانه المتلفز.

وهو ما تعززه فيديوهات الدعم السريع حيث إنه في معارك سابقة، دأبت قوات الدعم السريع على تصوير مخازن الأسلحة والذخيرة التي استولت عليها كغنائم حرب.

إلا أنها هذه المرة لم تُظهر أي لقطات من هذا القبيل، مما يشير إلى أن بعض وحدات القوات المسلحة السودانية المنسحبة قد نقلت معداتها بطريقة منسقة، وهو ما يعززه تصريح مصادر عسكرية للشرق بلومبرغ بأن الوحدات التابعة للقوات المسلحة التي كانت بالفاشر انسحبت جميعها إلى منطقة طويلة بجبل مرة والحدود الشمالية مع تشاد، هذه الرواية أكدها تحقيق مرصد حرب السودان الذي أوضح أن القوات المنسحبة أعادت تنظيم صفوفها في بلدة كورنوي الواقعة على بعد نحو 200 كيلومتر شمال غرب الفاشر وفي بلدة الطينة الحدودية مع تشاد قبل يومين من السقوط. ولكن مشهد الانسحاب يفتح الباب واسعا نحو التساؤل حول فاعليته أو حول الترتيبات التي كان من المفترض أن تُتَّخذ لحماية المدنيين.

أما عن مسببات السقوط فيمكن إرجاعها إلى أنه من طرف معسكر الجيش والقوات المتحالفة معه لم يتم استغلال تحرير الخرطوم وولايات الشرق والوسط قبل 6 أشهر وما صاحبه من صدمة وعدم اتزان لدى الدعم السريع لتحقيق تقدم نحو الفاشر أو على الأقل تأمين خطوط إمداد فعالة ومتصلة إلى المدينة مما أدى إلى تدهور ميداني لوجيستي وضعف خطوط الإمداد والاكتفاء بتقدم تدريجي حذر نحو وسط كردفان.

ربما كان الرهان هو أن الإسقاط الجوي للإمداد سيمكن المدينة من الصمود -وهو ما نجح الدعم السريع في تحييده لاحقا- حتى يتم تحرك كتلة صلبة من قوات الجيش والقوات المساندة من الشرق إلى الغرب بدلا من القيام بمناورة فيها مجازفة بالانطلاق إلى الفاشر دون تأمين كردفان مما يسمح للدعم السريع بالالتفاف.

أما الخطاب السياسي فغلب عليه الحديث عن إعادة إعمار الخرطوم والمناطق المحررة مما أدى إلى ضعف التحشيد المعنوي، والشعور بأن الحرب انتهت بسبب طغيان مركزية وفرحة تحرير العاصمة إضافة إلى حدوث شقوق في تماسك الجبهة الداخلية الداعمة للجيش خصوصا بعد تصاعد الحديث عن السلام الذي يلاحظ أنه كلما كثر الحديث عنه حدثت انتكاسة ميدانية مثلما حدث وقت السيطرة على ود مدني قبل أن يتم تحريرها، ذلك لأن الجيش حشد كل معسكره خلف هدف إستراتيجي صفري واحد وهو اقتلاع الدعم السريع بالقوة العسكرية فقط.

مصدر الصورة خريطة موضح عليها إقليم دارفور (الجزيرة)

على الجانب المقابل فالفاشر تقع في المجال العملياتي ومنطقة النفوذ العسكري للدعم السريع بدارفور حيث يقع مركز ثقل قواته الإستراتيجي وبنيتها العسكرية الصلبة، وقد سيطرت على 4 ولايات منها من أصل 5 في أول أيام الحرب وخطوط إمدادها متصلة داخليا وخارجيا عبر تشاد وليبيا وأفريقيا الوسطى، واستغلت البطء والتراخي من جانب الجيش في تدعيم صفوفه بالسلاح والقوة البشرية، ووصلت تعبئتها لمرتزقة جدد إلى تجنيد مرتزقة من كولومبيا، وحصلت على إمداد لوجيستي كبير.

فقد نقلت صحيفة "وول ستريت جورنال" عن تقارير استخبارية أميركية متطابقة، معلومات تؤكد إمداد طرف إقليمي لميليشيا الدعم السريع بالسلاح في السودان، بما في ذلك طائرات مُسيّرة صينية متقدّمة من سلسلة “رينبو” وأسلحة خفيفة وثقيلة وذخائر وراجمات صواريخ ومدفعية ووسائط نقل ميدانية. تُفيد الصحيفة الأميركية بأن تقارير لوزارة الحرب الأميركية ومكتب الاستخبارات في وزارة الخارجية رصدت ارتفاعا ملحوظا في الإمدادات لصالح الدعم السريع.

وتذكر أن بعض هذه الشحنات سلكت طريقها عبر الصومال وليبيا قبل إدخالها برا إلى السودان، إضافة إلى مسارات قديمة عبر تشاد. هذه الشحنات ـوفق المصادر الأميركيةـ منحت ميليشيا حميدتي -المتهمة بجرائم الإبادة- جرعة قتالية مكّنتها من الصمود وإعادة الهجوم بعد خسارة الخرطوم في مارس/آذار الماضي.

هذا الدعم والإمداد كانا حاسمين وقد اختصر ذلك الباحث الأول في برنامج أفريقيا في مركز الدراسات الإستراتيجية والدولية وضابط الاستخبارات والدبلوماسي الأميركي السابق كاميرون هودسون في عبارة بسيطة قائلا "إنه لولا هذا الدعم لانتهت الحرب"، كما شمل التسليح أسلحة ومعدات عسكرية من بريطانيا كشفت عنها الغارديان في تحقيق حديث نقلا عن تقريرين قدما إلى مجلس الأمن الدولي ، وكذلك كشفت فرانس 24 في أبريل/نيسان الماضي عبر تحقيق من 5 أجزاء مسار وصول أكثر من مئة ألف من قذائف الهاون عيار 81مم الشديدة الانفجار البلغارية إلى الدعم السريع بتيسير من طرف إقليمي.

كما نشرت الواشنطن بوست تحقيقا في أكتوبر/تشرين الأول الماضي عن اكتشاف ذخائر صربية كذلك، وشملت الأسلحة أنظمة دفاع جوي متطورة إذ أفاد تقرير نشره موقع "Clash Report " أن طرفا إقليميا قام بتوريد أنظمة دفاع جوي قصيرة المدى من طراز " FK-2000″، صينية الصنع، إلى قوات الدعم السريع في السودان، عبر الأراضي التشادية.

نجحت قوات الدعم السريع عبر هذا الإمداد النوعي في تحييد سيطرة الجيش السوداني على السماء وفرض معادلة جوية جديدة عبر إطلاقها مسيّرات إستراتيجية عمدت من خلالها إلى حرب استنزاف استهدفت خلالها تمركزات الجيش والبنية التحتية المدنية السودانية عبر الوصول لأهداف حيوية في عمق مناطق سيطرة الجيش مثل ميناء بورتسودان ومحطات كهرباء سد مروي ومطار الخرطوم بهدف إرباك حسابات قيادة الجيش وطرح شكوك حول قدرته على فرض السيادة حتى في المناطق التي حررها.

إن سقوط الفاشر ومالها من رمزية تاريخية في السودان له تبعات سياسية وميدانية عميقة، سياسيا بالسيطرة على الفاشر تمكنت قوات الدعم السريع من السيطرة على جميع عواصم ولايات دارفور الخمس وهي مساحة جغرافية شاسعة تمثل ضعف سوريا وتماثل فرنسا أو إسبانيا، وفرضت سلطتها بشكل كامل على الإقليم الذي يعد الحاضنة القبلية لقوات الدعم السريع كما تمثل المدينة عنصر قوة في سعيها لإضفاء الشرعية على "حكومة السلام والوحدة" التي شكلتها في يوليو/تموز الماضي وجعلت لها عاصمة مؤقتة في نيالا عاصمة ولاية جنوب دارفور، فقوات الدعم السريع تدرك تماما ووفقا لأمثلة عديدة في العالم أن عدم الاعتراف الدولي والرسمي الذي يعقبه تبادل سفراء لا يعني عدم التعامل الفعلي والتعاطي سياسيا وأمنيا واقتصاديا مع من يفرض السيطرة بالأمر الواقع على الأرض التي شكلتها مؤخرًا.

في المقابل يضع السقوط ضغطا سياسيا على بورتسودان خصوصا في إطار إعادة ترتيب تحالفاتها الداخلية وإعادة النظر في علاقاتها الخارجية وانفتاحها نحو التفاوض الذي اكتسب زخما مؤخرا، فالسيطرة على الفاشر تعني أنه على أرض الواقع هناك حقيقة جديدة وأن السودان الآن منقسم فعليًّا إلى نصفين متنافسين وتضيف تعقيدا على المشهد التفاوضي مع أفضلية للدعم السريع.

أما ميدانيا فهذا التطور انتصار لمشروع الدعم السريع، وهو يتحرك بالحرب إلى مربع جديد كليا لم يتم اختباره من قبل، ويقدم دفعة معنوية هائلة لقوات حميدتي تنذر بعودتها لتمسك زمام الأمور، فالآن تبدلت الخريطة العسكرية للطرفين المتحاربين في السودان بسيطرة قوات حميدتي على المنطقة الممتدة من المثلث على حدود السودان مع ليبيا ومصر مرورا بالمالحة حتى “أم دافوق” في جنوب دارفور على الحدود مع دولة جنوب السودان إلى جانب معظم مناطق جنوب وغرب كردفان.

ومع السيطرة شبه الكاملة لقوات الدعم السريع على إقليم دارفور ووجود دوافع لإكمال هياكل "الحكومة الموازية" تسعى هذه القوات إلى نقل القتال داخل مناطق تمركزات الجيش السوداني في إقليم كردفان. ونقل نشطاء مدنيون من إقليم كردفان لشبكة عاين المحلية، تحريك قطع حربية وحشود عسكرية في جنوب وغرب كردفان لقوات الحركة الشعبية برئاسة عبد العزيز الحلو وقوات حميدتي لشن هجمات على الجيش السوداني في ثلاث مدن رئيسية تشمل كادوقلي والدلنج والأبيض عاصمة ولاية شمال كردفان.

وقد حدث بالفعل تمدد للدعم السريع بالتزامن مع السيطرة على الفاشر وأعاد السيطرة على مدينة بارا الإستراتيجية شمال الأبيض الواقعة على طريق الصادرات الإستراتيجي الرابط بين الخرطوم العاصمة وشمال كردفان.

السيطرة على بارا جاءت بعد نحو شهر ونصف فقط من استعادتها من قبل الجيش لأول مرة منذ اندلاع القتال كما استولت الدعم السريع على بلدتي أم دم حاج أحمد والزريبة، وهو ما يهدد بحصار الأبيض وبانفتاحها ميدانيا نحو العاصمة والشمالية والنيل الأبيض والمناطق المحررة حديثا منذ 6 أشهر فقط مما قد يعيد المشهد الميداني إلى نقطة بدايته وقت انطلاق الصراع قبل عامين ونصف عندما كان يشهد سيطرة واسعة للدعم السريع، هذه التطورات الميدانية وضعت الجيش أمام تحد قاس، إذ يتطلب الأمر منه قلب الطاولة ودفع محور العمليات غربًا مثلما كان الحال قبل أيام قليلة.

أما على الطرف الآخر فقد نشرت صحيفة سودان تريبيون أن هيئة الأركان بالجيش أرسلت مجموعة من كبار القادة العسكريين إلى غرفة العمليات المركزية في مدينة الأبيض بولاية شمال كردفان. وقالت مصادر عسكرية للصحيفة إن قادة العمليات في هيئة الأركان انتقلوا إلى الأبيض فيما يبدو أنه تغيير جديد في خطة إدارة الحرب. كما أعلنت اللجنة العليا للاستنفار، التعبئة العامة في جميع ولايات السودان وبدء تجهيز معسكرات التدريب والتسليح في كل ربوع البلاد.

ترى الدكتورة أماني الطويل أنه من المنظور العسكري، يبرهن سقوط مدينة الفاشر على أن طبيعة الحرب في السودان قد تخطت الحدود التقليدية للسيطرة المكانية الكلاسيكية. فالصراع لم يعد يدور حول الاحتفاظ بمواقع ثابتة أو السيطرة على العواصم الإدارية لفترة طويلة، بل تحول إلى ما يمكن وصفه بـحرب استنزاف طويلة المدى.

هذه الحرب تدار من خلال آليات معقدة، تعتمد على تشكيل تحالفات متبدلة وسريعة التغير، وتنفيذ عمليات عسكرية نوعية ومباغتة، تعتمد بشكل أساسي على التفوق في عنصري الحركة والمرونة، وعلى قدرة جمع وتحليل المعلومات الاستخبارية. هذا التفوق في الحركة والمعلومات أصبح أكثر أهمية وتأثيرًا من التفوق التقليدي الذي توفره حيازة السلاح الثقيل.

وعلى الرغم من التقدم الذي أحرزته قوات الدعم السريع وسيطرتها على الفاشر التي تعدّ مدينة إستراتيجية، فإنه من الخطأ استنتاج أن هذا التطور يمثل نهاية لقدرة الجيش السوداني على الاستمرار في الصراع. فالجيش لا يزال يمتلك حتى الآن القدرة النارية الثقيلة الكافية لإحداث فرق في الميدان. والأهم من ذلك، أنه يمتلك شبكة من التحالفات الميدانية المعقدة، التي تشمل القوات المشتركة من الحركات المسلحة التي كانت قد وقعت اتفاق جوبا للسلام والتي تعد دارفور قاعدتها القلبية الأساسية.

إذن يمكن القول إنه بعد سقوط الفاشر تعقدت الخريطة الميدانية والسياسية في السودان وامتدت التبعات إلى خارج السودان كذلك وهو ما سنناقشه في المحور التالي.

ما بعد الفاشر.. تداعيات إقليمية ودولية متشابكة

يحتل السودان موقعا محوريا في خريطة القارة الأفريقية، فهو بوابة أفريقيا جنوب الصحراء، ويتقاطع جغرافيًّا وسياسيًّا مع ثلاثة أقاليم جيوسياسية رئيسية: القرن الأفريقي والساحل وحوض بحيرة تشاد.

مصدر الصورة خريطة السودان (الجزيرة)

إلى جانب ذلك يعد السودان أحد دولتي مصب نهر النيل، وله ساحل طويل على البحر الأحمر ويجاور سبع دول أفريقية مما يجعله نقطة التقاء لمصالح إقليمية ودولية متشابكة، هذا الموقع مقرونا بعدد سكانه الكبير وتنوعه الإثني وتداخل قبائله عبر الحدود فضلا عن موارده الوفيرة جعل من السودان نقطة ارتكاز إستراتيجية لا يمكن تجاهلها.

ومن نظرة أولية على المواقف الدولية من تطورات الحرب الجارية يمكن ملاحظة وجود إجماع مبدئي على وحدة السودان وسلامة أراضيه وهو موقف يتماشى مع القانون الدولي ويستند إلى تجارب سابقة فاشلة للتقسيم كما حدث في جنوب السودان أو لإعادة الهندسة الخارجية كما في الصومال. بناء على ذلك ينظر إلى بقاء السودان موحدا بوصفه عامل استقرار للنظامين الإقليمي والدولي وضمانا لمصالح القوى المتداخلة في أزمته، وفيما يلي تحليل لأبرز الأطراف الإقليمية والدولية ومواقفها من المشهد السوداني.

تعد مصر المتضرر الأكبر من تصاعد التوتر في السودان وموقفها من أعقد المواقف الإقليمية، إذ يظل الشأن السوداني شأنا مصريا والعكس صحيح، بحكم الجغرافيا والتاريخ وتشابك المصالح. وقد عكست الزيارة العاجلة لوزير الخارجية السوداني للقاهرة عقب سقوط الفاشر هذا الإدراك المشترك لحساسية اللحظة، بجانب الضغط الاقتصادي الناجم عن تدفق اللاجئين تمثل احتمالات انهيار الدولة السودانية أو انقسامها تهديدا إستراتيجيا مباشرا للأمن القومي المصري، سواء على مستوى الأمن المائي المرتبط بمجرى النيل، أو أمن البحر الأحمر أو حتى الأمن الداخلي.

تتضافر هذه التهديدات مع التوترات على المحور الشرقي حيث الإجرام الإسرائيلي المستمر والهشاشة الليبية غربا، وتصاعد النشاط الحركات المسلحة في الساحل الأفريقي بزعامة تنظيم "نصرة الإسلام والمسلمين"، وفي القرن الأفريقي بفضل تنظيم الشباب المجاهدين وكلاهما ينتمي لتنظيم القاعدة فضلًا عن وجود متنامٍ لتنظيم الدولة في كلا المنطقتين بما ينذر باحتمالات تمدد هذه الظاهرة وتشكُّل طبقة جديدة من التعقيدات التي تواجه السياسة المصرية في محيطها الأفريقي.

وتأتي هذه التطورات بينما تسعى القاهرة إلى استعادة نفوذها في حوض النيل والقرن الأفريقي بعد سنوات من الغياب، نتج عنها تراجع الدور المصري في ملف سد النهضة وظهور مساع إثيوبية متكررة للوصول إلى منفذ إستراتيجي على البحر الأحمر وتقويض ترتيبات تقاسم مياه النيل التاريخية عبر الدفع باتفاقية عنتيبي.

ومن زاوية أوسع، فإن الاضطراب في السودان يعتبر تطورا إيجابيا لصالح "نظرية شدّ الأطراف" التي صاغها دافيد بن غوريون -أول رئيس وزراء لإسرائيل- في خمسينيات القرن الماضي، القائمة على إضعاف دول الطوق العربي لإسرائيل عبر تطويقها بعلاقات متينة مع دول غير عربية، وذلك بالانتقال إلى آلية إضافية تتمثل بإشعال بؤر توتر وإزعاج على الحدود المباشرة لتلك الدول.

ومن هذا المنظور، فإن سقوط الفاشر يحمل دلالات إستراتيجية أعمق: فالموقع الجغرافي للمدينة، عند تماس تشاد وأفريقيا الوسطى وسيطرة الدعم السريع على مثلث العوينات الحدودي الرابط بين السودان ومصر وليبيا، يجعلها بوابة محتملة لتدفق السلاح والمرتزقة نحو الحدود الغربية والجنوبية الغربية لمصر.

ومع اتساع النفوذ العسكري واللوجستي لقوات الدعم السريع، تتزايد المخاوف المصرية من احتمالية تمدد قوى إقليمية منافسة، بما يحدث اختلالا في التوازنات الأمنية والجيوسياسية ويهدد الأمن القومي المصري بشكل مباشر.

ورغم تمسك القاهرة حتى الآن بسياسة الحذر المعلنة مع تأييد وحدة وسلامة أراضي السودان ومؤسسات الدولة المتمثلة في الجيش السوداني ورفض أي كيانات موازية في مقاربتها للأزمة، فإن سقوط الفاشر يدفعها إلى إعادة تقييم خياراتها الإستراتيجية خصوصا في ظل عضويتها في اللجنة الرباعية المعنية بالملف السوداني، وهكذا تجد مصر نفسها أمام معادلة دقيقة: الحفاظ على دور الوسيط التقليدي في الأزمة السودانية دون الانزلاق إلى مواجهة مكلفة وفي الوقت ذاته تأمين حدودها الجنوبية ومنع تسلل الفوضى أو الجماعات المسلحة عبرها.

تأتي إريتريا مباشرة بعد مصر في مصفوفة الدول الأكثر تأثرا بالتوتر في السودان، بحكم حساسيتها المفرطة اتجاه التحولات الجيوسياسية في القرن الأفريقي، وهو ما يشكل محفزا إضافيا لتصاعد منحنى العلاقات بين البلدين مؤخرا إلى جانب ملف البحر الأحمر.

من منظور أسمرا، تشكل قوات الدعم السريع ومعها المنظمة الديمقراطية لعفر البحر الأحمر جزءا من محور إقليمي ناشئ يسعى إلى إعادة رسم توازنات القرن الأفريقي تقوده إثيوبيا بتطلعاتها المستمرة نحو الوصول إلى البحر في ظل توتر متزايد بين البلدين خلال الأشهر الأخيرة.

ويعد العفريون حلقة الوصل الجغرافية بين إثيوبيا وجيبوتي، ويعيش قسم كبير منهم داخل إريتريا على سواحل البحر الأحمر، وتشمل مناطقهم مصوع وعصب والأخيرة بها الميناء الذي اعتبر آبي أحمد أن فقدانه "خطأ تاريخي" لبلاده.

ومن وجهة نظر إريترية، فإن أديس أبابا على وفاق ضمني مع الدعم السريع، بينما يشهد الإقليم تصاعد نشاط المنظمة الديمقراطية لعفر البحر الأحمر، وهي حركة مسلحة مناهضة لحكم أسياس أفورقي، مما يرجح أن تستخدم من قبل إثيوبيا كذريعة لتحقيق هدفها البحري أو غطاء سياسي لحرب محتملة تحت شعار "دعم استقلال العفر".

وإذا ما تمكنت قوات الدعم السريع من تطوير موقعها الميداني والتقدم شرقا نحو المثلث الحدودي بين إثيوبيا وإريتريا والسودان، فستجد أسمرا نفسها بين فكي كماشة: من الشرق البحر الأحمر، ومن الغرب والجنوب تمدد التحالف الإثيوبي العفري مع الدعم السريع، لهذا تبنت أسمرا موقفا مساندًا للجيش السوداني، بوصفه الحاجز الطبيعي أمام هذا التمدد، وذهبت في دعمها إلى حد فتح أراضيها لتدريب متطوعين سودانيين في مؤشر على عمق القلق الإريتري من أي اختلال جديد في ميزان القوى على حدودها الغربية.

أما إثيوبيا، فموقفها يظل غامضًا وملتبسًا، فقد استقبلت الجنرال محمد حمدان دقلو (حميدتي) بحفاوة رسمية في أديس أبابا خلال نهاية العام الأول من الحرب في خطوة فُسّرت على نطاق واسع باعتبارها رسالة دعم ضمني للدعم السريع.

وبحسابات المصالح فإن هشاشة السودان تصب في صالح الحسابات الإثيوبية على أكثر من مستوى، فهي من جهة تعزز آمال أديس أبابا في تثبيت سيطرتها على أراضي الفشقة الخصبة المتنازع عليها، ومن جهة أخرى تفتح المجال لتفاهمات ميدانية غير معلنة مع الدعم السريع لضبط الحدود المشتركة مع إريتريا وقطع خطوط التواصل بين ميليشيات الفانو الأمهرية وفصيل من الجبهة الشعبية لتحرير تيغراي ونظام أسياس أفورقي، وهي أطراف تتهمها أديس أبابا في مذكرة رسمية للأمم المتحدة بالتنسيق ضدها.

كما أن استمرار الاضطراب في السودان يضعف الموقف المصري في ملف مياه النيل، نظرا إلى ما يمثله السودان من عمق تفاوضي وإسناد إستراتيجي للقاهرة في مواجهة إثيوبيا، بهذه الحسابات يبدو أن أديس أبابا تفضل إطالة أمد الأزمة السودانية دون حسم نهائي، ريثما تعيد رسم موازين القوى في محيطها الحدودي والنهري على نحو يخدم طموحاتها البحرية والسياسية معا.

أما تشاد، فقد وجدت نفسها في قلب الجدل الإقليمي حول الحرب السودانية، فالحكومة السودانية اتهمت رسميا نجامينا بفتح أراضيها أمام تدفق الإمدادات العسكرية إلى قوات الدعم السريع، ورغم نفي تشاد فإن هذه الاتهامات عززتها تقارير حقوقية وأممية، كان آخرها ما كشفته صحيفة الغارديان البريطانية عن تقرير سري للأمم المتحدة يشير إلى تورط تشادي في تسهيل مرور الأسلحة إلى قوات حميدتي عبر الحدود.

ورغم أن قبيلة الزغاوة التي ينتمي إليها الرئيس محمد إدريس ديبي (كاكا)، تشكل العمود الفقري لحركات الكفاح المسلح في دارفور مثل العدل والمساواة وتحرير السودان/مناوي، وهي حركات تساند الجيش السوداني، فإن ديبي يبدو وكأنه اختار اصطفافا براغماتيا مؤقتا لصالح الدعم السريع، وهو اصطفاف تمليه حسابات بقاء نظامه في مواجهة ضغوط اقتصادية داخلية وأخطار محتملة من قبل حركات المعارضة داخل تشاد.

فمن جهة، يسعى كاكا إلى تأمين دعم اقتصادي وسياسي من داعمي حميدتي الإقليميين، ومن جهة أخرى، يجد في انتقال مقاتلين من المعارضة التشادية للقتال في صفوف الدعم السريع وسيلة للتخلص منهم مؤقتا أو نهائيا.

هكذا، يبدو أن ديبي الابن يحاول تحقيق مصلحة آنية عبر التماهي مع مشروع الدعم السريع وداعميه الإقليميين لتثبيت أركان حكمه، وفي الوقت نفسه التخلص من معارضيه المسلحين عبر تصديرهم إلى جبهات القتال داخل السودان مقابل خطر مؤجل متمثل في تصاعد التململ من عشيرته الزغاوة ذات الثقل في نظامه.

أما على الجبهة الشمالية الغربية للسودان، فإن العلاقة المتنامية بين كتائب "سبل السلام" الليبية المحسوبة على معسكر حفتر وقوات الدعم السريع من حيث المصالح الاقتصادية والارتباط بطرق التجارة بالذهب والسلاح والبشر الممتدة عبر هذه الحدود تضيف بعدًا آخر لشبكة المصالح المتداخلة بين دارفور وتشاد وليبيا الشرقية إلى جانب أفريقيا الوسطى التي أشار تقرير أممي إلى أنها أصبحت مركزا لوجيستيا لدعم قوات حميدتي، حيث تتحول الحرب السودانية تدريجيا إلى ساحة مفتوحة لتقاطع أجندات إقليمية معقدة.

أما دولة جنوب السودان فقد تضررت بشدة من الحرب رغم تمسكها بالحياد. وتشعل المسائل المتعلقة بمواطني البلدين المنتشرين في أراضي كل منهما التوتر بين بورتسودان وجوبا بين الحين والآخر. ومع هشاشة الوضع السياسي الداخلي في جنوب السودان يتعمق الضرر الاقتصادي إذ يعتمد اقتصاد جوبا على النفط الذي يتوقف تصديره مع كل انقطاعٍ لخط الأنابيب الوحيد الذي يربطها بالعالم بفعل الصراع في السودان.

أما على المستوى الإقليمي، فهناك دول ترتبط مصالحها المباشرة بأمن البحر الأحمر واستقرار القرن الأفريقي مثل تركيا والسعودية وقطر، تدرك أن تقسيم السودان أو انهياره سيخلق فراغا إستراتيجيا يهدد استثماراتها وممراتها البحرية ويقوض مشاريعها في المنطقة، لذلك تتبنى هذه الدول موقفا داعما لوحدة السودان وحل سياسي يبقي على تماسك الدولة دون الإضرار بتوازناتها الإقليمية.

وعلى الصعيد العالمي، نشطت واشنطن دبلوماسيًّا ضمن الرباعية، واستضافت قبل ساعات من سقوط الفاشر وفدا حكوميا سودانيا رسميا ضم وزير الخارجية ونائب مدير المخابرات ومدير الاستخبارات العسكرية، ونقلت سودان تريبيون أن الوفد تلقى مقترحا أميركيا لإنهاء الحرب يشمل ترتيبات فنية بشأن قوات الدعم السريع، تقوم على دمج القوات السابقة للحرب فقط ضمن منظومة جيش موحد وتسريح باقي عناصر الدعم السريع، ويعكس ذلك مقاربة واشنطن الأوسع في عهد ترامب، القائمة على تبريد الأجواء وتقليص الانخراط المباشر مع الحفاظ على مصالحها الاقتصادية والجيوسياسية، فاهتمامها بالسودان يتركز أساسا على تأمين البحر الأحمر وإدارة دقيقة لمصالح حلفائها ذات الانخراط المباشر في الصراع ومنع التمدد الصيني والروسي أو تحول الإقليم إلى ممر للظاهرة الإرهابية، ولهذا تتمسك بوحدة السودان ممثلا في الجيش.

أما الصين فتبقى على نهجها التقليدي في الحياد البراغماتي، تنتظر توازن القوى لتتعاون مع المنتصر اقتصاديًّا، في حين أن روسيا عبر شبكة فاغنر ووريثها الفيلق الأفريقي حافظت على علاقات مع الطرفين، فتقاربت ميدانيا مع الدعم السريع ووقعت في الوقت ذاته مذكرات تعاون دبلوماسية واقتصادية مع الجيش مع إعادة الحديث عن قاعدة روسية على سواحل السودان بالبحر الأحمر تحسبا لأي تسوية قادمة.

عبر التحليل السابق يتبين أن الصراع في السودان وتطوراته انعكست بعمق على دول الجوار والمحيطين الإقليمي والدولي في مرحلة دقيقة تقف فيها المنطقة بأسرها على برميل بارود يوشك على الانفجار من البحر الأحمر إلى المحيط الأطلسي ، مرورا بحوض بحيرة تشاد والكونغو في حين يبقى السودان في قلب العاصفة.

اختزال فاقم الأزمة ودعوة إلى فهم أعمق

عانى السودان، بعد استقلاله عام 1956 عن الحكم البريطاني المصري 1898-1956 من عدد من الصراعات في جنوبه وغربه وشرقه، تسببت حرب الجنوب وحدها في مقتل مليوني شخص قبل انفصال الجنوب عام 2011، وتسببت الحرب في دارفور بغرب البلاد في مقتل 300 ألف شخص فيما بين 2003 و2019 طبقا لإحصاءات الأمم المتحدة، وفضلا عن ذلك فإن النزاعات القبلية قبل الحرب الحالية أدت إلى مقتل أكثر من 250 ألف شخص.

أما الحرب الحالية فقد تسببت حتى الآن في مقتل نحو 150 ألف شخص، وتشريد 15 مليونا آخرين كما أدت إلى حدوث انتهاكات واسعة بما يشمل القتل خارج نطاق القانون والاحتجاز التعسفي واغتصاب النساء والفتيات والأطفال ونهب الممتلكات العامة والخاصة وتوقف مشاريع الإنتاج الزراعي والصناعي، وخرج نحو ١٩ مليون طفل من التعليم، ودُمرت البنى التحتية، وأدت الحرب إلى انهيار العملة السودانية مقابل العملات الأخرى بأرقام لم تحدث في التاريخ.

لهذا التاريخ الدموي في السودان والتدمير الذاتي لكل شيء جملة من الأسباب منها عدم الاستقرار السياسي وتعدد الجيوش والحكم العسكري وهشاشة الاقتصاد، ليس بسبب عدم الموارد بل للفشل في إدارتها والفساد الممنهج في أجهزة الدولة وغيرها من الأسباب، بيد أن العجز الأكبر عن صياغة عقد اجتماعي وسياسي وطني جامع وإدارة التنوع السياسي والاجتماعي والديني وبروز خطاب الكراهية بين مكونات المجتمع يعد العامل الأهم لما وصلت إليه البلاد من راهن أمني وعسكري وسياسي وتمزق في النسيج الاجتماعي، تضاعف أضعافا مضاعفة بعد اندلاع الحرب بين القوات المسلحة السودانية وقوات الدعم السريع. واستثمرت الأخيرة في كل ما سبق محاولة ترويج خطاب الهامش في مواجهة سلطة المركز.

يشير الباحث عبد الباقي ناجي في موقع جيسيكا إلى أن الأزمة السودانية تقدّم غالبا من خلال عدسات غربية تختزل تعقيداتها في ثنائيات مبسطة: عربي/أفريقي، شمالي/جنوبي، أو "حرب جنرالين". هذا الاختزال -كما يوضح- يتجاهل الأبعاد الخارجية ودور المرتزقة والإمدادات القادمة عبر الحدود، ويعيد إنتاج فهم استشراقي يبرر العجز الدولي، وينتقد ناجي أيضا سطحية التعاطي الأميركي مع الملف السوداني بتكليف شخصيات تفتقر للخبرة، مثل مسعد بولس، معتبرا أن تبسيط الصراع لا يفسد التحليل فقط، بل يعيق الحلول الواقعية، داعيا دول الجوار إلى تجاوز النظرة الغربية الكسولة وفهم جذور الحرب بوصفها قضية إقليمية مصيرية.

وفي سياق تفكيك مشهد الأزمة السودانية كذلك لا بد من إعادة قراءة مشروع الدعم السريع بوصفه ظاهرة سياسية عسكرية ذات امتداد إقليمي سواء من حيث كونه مشروعا مدعوما من أطراف خارجية أو من حيث قابلية تكراره في بيئات مشابهة. فالتسطيح الذي يختزل التجربة في شخص قائد متمرد حسب معسكر أو "صوتٍ للهامش" حسب المعسكر الآخر يغفل طبيعتها المركبة، فنحن أمام قوات شبه نظامية تمتلك تسليحا نوعيا، وشبكات تمويل وتحالفات خارجية تمتد إلى أطراف إقليمية ودولية، فضلا عن حاضنة اجتماعية صلبة في مناطق سيطرتها، وعمق إستراتيجي داخل الفضاء العربي الأفريقي يؤمن لها تدفقا بشريا وعسكريا مستمرا.

بهذا المعنى، يمكن النظر إلى حميدتي كنموذج لفاعل إقليمي جديد مدعوم خارجيا، وقابل للتكرار في دول أخرى تتقاطع فيها هشاشة الدولة مع شبكات النفوذ والمال والسلاح. نموذج قد يتحول إلى مشروع عابر للحدود يجمع "عرب الشتات" في أقطار الساحل والصحراء والقرن الأفريقي، ويعيد رسم التوازنات الجيوسياسية في المنطقة، ويتقاطع مع عالم جديد تبرز فيه أدوار فاعلين من غير الدول أو الجيوش النظامية تمتلك أدوات تأثير حاسمة.

مما سبق يتضح أن سقوط الفاشر ليس حدثا معزولا، بل تجلّ لفشل السودان في تأسيس عقد اجتماعي وسياسي جامع منذ نشأته الحديثة، كما يذكرنا الباحث حسان الناصر عبر موقع الصالون وهو يستحضر فكر فيلسوف السودان أبو القاسم حاج حمد في موسوعته "السودان: المأزق التاريخي وآفاق المستقبل"، فقد رأى حاج حمد أن الدولة السودانية نشأت خارج إرادة مكوناتها الاجتماعية وأن الطائفية أدت دور الوسيط بين الاستعمار والمجتمع مما جعلها أداة هيمنة لا تمثيل. أما النخب السودانية، فقد ورثت دولة صنعت جغرافيا في مصر واقتصاديا في بريطانيا دون أن تمتلك أدوات إعادة بنائها، ليبقى السودان كيانًا هشًّا تتكرر داخله الأزمات ذاتها: حرب وفقر ونزوح وانقسام اجتماعي وسياسي مزمن.

سيناريوهات المستقبل

من الصعب التنبؤ بمستقبل السودان وسط هذا الكم من التشابكات والتعقيدات، فكل السيناريوهات تبقى مفتوحة من احتمال التقسيم إلى استمرار حرب استنزاف طويلة أو هدنة مؤقتة تفضي إلى سلام مرحلي هشّ. أما السلام الحقيقي الذي يليق بالسودان، فلا يزال بعيدًا، ذلك السلام الذي يقوم على عقد اجتماعي وسياسي واقتصادي جديد يكتبه كل السودانيين وعلى علاقات خارجية متوازنة ومصالحة وطنية في إطار عدالة انتقالية شاملة تفتح الطريق أمام سودان حر تسوده القيم التي نادى بها الثوار في ديسمبر 2018 (حرية، سلام، وعدالة).

الجزيرة المصدر: الجزيرة
شارك

أخبار ذات صلة



حمل تطبيق آخر خبر

إقرأ أيضا