في حال واجهت مشكلة في مشاهدة الفيديو، إضغط على رابط المصدر للمشاهدة على الموقع الرسمي
ونحن صغار، كان الكبار يحكون عن السودان باعتباره أرض الخير التي لا تُضاهى، جنة الله في أرضه التي تجري الأنهار من تحتها. يقولون إنك لو ألقيت نواة تمر في تربته الخصبة، ستنبت وتتحول إلى نخلة باسقة.
هذه الصورة البسيطة المتداولة في الوجدان الشعبي، لم تكن مجرد مبالغة؛ إنما عكست حقيقة أن السودان يمتلك ملايين الأفدنة من الأراضي الزراعية الخصبة، وموارد مائية هائلة، وثروة حيوانية قلَّ نظيرها.
ومنذ ستينيات القرن الماضي، شاعت تسمية السودان باسم "سلة غذاء العالم"، في إشارة إلى مشروع الجزيرة الذي مثّل أحد أكبر المشروعات الزراعية المروية في العالم، وأضيفت إلى هذه الوفرة ثرواته المعدنية والنفطية لاحقًا. هكذا بدا كأن السودان يملك كل مقومات النهوض.
لكن تلك الثروة لم تتحول إلى رخاء، فالأرض الخصبة أضحت مساحات معطلة، وتكررت موجات المجاعة على مدار عقود.
أما اليوم فيقف السودان على حافة واحدة من أسوأ أزمات الجوع في العالم وفق برنامج الغذاء العالمي ، إذ يحتاج ثلثا سكانه إلى مساعدات إنسانية عاجلة، ويواجه الملايين خطر الموت جوعاً. إنها المفارقة السودانية: بلد غني بالموارد، غير أن وفرتها تحوّلت إلى عبءٍ يقوده نحو الانقسام والتأخر، بدلًا من التنمية.
تبدو خريطة السودان للوهلة الأولى كأنها قصة وفرة نادرة: أراضٍ خصبة، أنهار وجداول، ماشية لا تُحصى، وثروات معدنية هائلة. لكن المفارقة أن كل هذه النِعم لم تُترجم إلى تنمية.
الزراعة كانت دائمًا قلب الحكاية، فمشروع الجزيرة، الذي أنشأته الإدارة البريطانية عام 1925، بين ضفتي نهري النيل الأزرق والأبيض، ويمتد على مساحة تقارب 2.5 مليون فدان (نحو مليون هكتار)، أنتج في ذروته ما يزيد عن نصف مليون طن من القطن عالي الجودة سنويًا، إلى جانب الحبوب والبذور الزيتية والفول السوداني والقمح والسمسم والذرة الرفيعة والدخن والخضراوات، ليجسد حلم أن يكون السودان سلة غذاء أفريقيا والعالم.
لكن بمرور الوقت، انهارت بنيته التحتية، وتراجعت إنتاجيته، وتحول من مشروع قومي إلى مساحة شبه مهملة، نتيجة غياب الصيانة وتوقف التمويل والدعم الحكومي، ما أجبر المزارعين على هجر القمح والاعتماد على محاصيل أقل تكلفة.
وزادت الحرب من عمق الأزمة، حيث سيطرت قوات الدعم السريع على أجزاء واسعة من المشروع خلال العامين الماضيين، ما فاقم معاناة المزارعين وأوقف أي أمل في إحياء البنية الزراعية.
وعلى غراره تمتد أراضي الفشقة الخصبة شرقًا، ومراعي السافانا الغنية في الغرب والجنوب، كأمثلة أخرى على الموارد الزراعية التي لم يُستفد منها بالقدر المطلوب. فبحسب وزارة المعادن وإدارة معلومات الطاقة الأميركية، تبلغ المساحة الصالحة للزراعة في السودان نحو 73.5 مليون هكتار (حوالي 39% من جملة مساحة البلاد)، بينما يُستغل نحو 28.7 مليونا فقط.
لكن الأرض وحدها لا تكفي، فالمورد الموازي هو المياه التي تمثل العمود الفقري لأي نهضة زراعية. ورغم وفرة المصادر المائية، يُصنَّف السودان ضمن البلدان التي تعاني من الفقر المائي.
وفقا لموقع "فاناك ووتر" (Fanack Water) المتخصص في بيانات الموارد المائية، فإن فالأمطار وحدها التي تهطل على السودان تُقدّر بحوالي 440 مليار متر مكعب سنويًا، لكن ما يتبقى فعليًا للاستعمال لا يتجاوز 30 مليارا فقط: 18.5 مليارا من حصة النيل (وفق اتفاقية 1959)، و7 مليارات من الأنهار والجداول مثل القاش، خور أربعات، وادي ازوم، خور أبو حبل، و4 مليارات من المياه الجوفية.
وبقسمة هذا الرقم على عدد السكان (45-50 مليون نسمة)، لا يحصل الفرد إلا على أقل من 700-760م³ سنويًا، أي دون خط الفقر المائي العالمي (1000م³ للفرد).
هذا إضافةً إلى معوقات مزمنة مثل عدم انتظام الأمطار، الفيضانات، تراكم الطمي، تآكل ضفاف الأنهار، والتلوث، فضلًا عن ضعف المؤسسات والحوكمة وقصور إنفاذ القوانين. ورغم وجود مخزون جوفي هائل يُقدّر بنحو 900 مليار م³، فإن الاستغلال الفعلي منه محدود. وهناك أيضًا مقترح لاسترداد 6 مليارات م³ إضافية عبر إصلاح المستنقعات في دولة جنوب السودان ، لكنه مكلف اجتماعيًا وبيئيًا.
وإلى جانب الزراعة، يزخر السودان بثروة حيوانية هائلة تُعد من الأكبر في القارة. فبحسب تقرير رسمي صادر عن وزارة الثروة الحيوانية السودانية عام 2022، يضم السودان نحو 32 مليون رأس من الأبقار، و41 مليون رأس من الأغنام، و32 مليون رأس من الماعز، إلى جانب قرابة 5 ملايين جمل، أي ما مجموعه أكثر من 110 ملايين رأس.
وتتوافق هذه الأرقام مع تقديرات أخرى صادرة عن المجموعة الاستشارية للبحوث الزراعية الدولية (CGIAR) بالتعاون مع الوكالة الأميركية للتنمية الدولية (USAID) وبدعم من الاتحاد الأوروبي، والتي قدّرت حجم القطيع السوداني بأكثر من 105 ملايين رأس، وبذلك يقف السودان في مصاف الدول الأفريقية الثلاث الكبرى من حيث حجم الثروة الحيوانية، إلى جانب إثيوبيا ونيجيريا.
لكن رغم هذه الوفرة، فإن معظم الإنتاج يُصدَّر خامًا دون أي قيمة مضافة، ما يفقد السودان فرصًا حقيقية لبناء صناعات غذائية وجلديّة يمكن أن تضاعف العوائد وتوفر آلاف الوظائف في بلد مأزوم اقتصاديًا.
والأخطر أن هذه الموارد لم تعد مجرد جزء من شبكة توريد إقليمية تؤمّن البروتين الحيواني الرخيص للحواضر الإقليمية، بل غدت ضمن استراتيجيات أوسع للسيطرة والهيمنة، فقد تُستخدم كذريعة لتأجيج صراعات أو حتى إشعال حروب إقليمية حولها، ما يحوّلها إلى ساحة للتنافس المُدار لصالح الأسواق الخارجية أكثر من خدمة الداخل.
وتزداد المفارقة السودانية وضوحًا مع دور الشركات متعددة الجنسيات، لاسيما في قطاع الزراعة. فقد ارتكزت هذه الشركات على نماذج إنتاج نيوليبرالية تركز على المحاصيل التصديرية وإنتاج الأعلاف للأسواق الخارجية، بينما تُرك ملايين السودانيين في مواجهة انعدام الأمن الغذائي .
ويبرز هنا مثال شركة كنانة للسكر، التي تُعد من أكبر المجمعات الزراعية الصناعية في أفريقيا، وجرى تصنيفها في موسم 2008/2009 كأكبر منتج عالمي للسكر الأبيض عالي النقاء، إذ تمتد كنانة على مساحة تقارب 165 ألف فدان، بطاقة إنتاج تبلغ نحو 400 ألف طن سنويًا، وقد تأسست بشراكة بين الحكومة السودانية ومستثمرين عرب، إلى جانب مساهمين أجانب.
غير أن إنتاج هذا القطاع ظل موجهًا للتصدير وجلب النقد الأجنبي أكثر من تلبية احتياجات السوق المحلية. فالسودان، رغم هذه القدرات، يظل مستوردًا صافياً للسكر، إذ يقدَّر الاستهلاك المحلي بحوالي مليون طن سنويًا -وهو من أعلى المعدلات عالميًا- بينما لم يتجاوز الإنتاج المحلي نصف ذلك قبل الحرب.
لقد استوردت البلاد في عام 2023 سكرًا خامًا بقيمة 794 مليون دولار، في حين صدّرت في العام نفسه ما يقارب 1.7 مليار دولار من السكر الخام، بما يعكس مفارقة التصدير والاستيراد في أوضح صورها.
وقد يُبرَّر هذا التوجه بأن التصدير يوفّر عملة أجنبية بينما يُستورد السكر الخام الأرخص، لكن هذا المنطق قصير المدى، إذ يجعل السودان رهينة لتقلبات الأسواق العالمية ويُبقيه معتمدًا على استيراد سلعة أساسية رغم وفرة إنتاجه، بينما لا تستفيد المجتمعات المحلية المحيطة بالمشروعات الزراعية من عوائدها في خدمات أو بنية تحتية أو خفض الأسعار.
هذه المفارقة ليست حكرًا على السودان، بل تمثل نمطًا أوسع في أفريقيا، حيث تتكرر المشاريع الزراعية الكبرى التي تُدار بشراكات متعددة الجنسيات وتخدم الأسواق الخارجية أكثر من الداخل.
وقد وثق الباحث صقر النور في دراسته حول التحول الزراعي في شمال أفريقيا، والباحثة راوية توفيق في تحليلها للشركات متعددة الجنسيات بأفريقيا، أن هذه السياسات النيوليبرالية تكرّس التبعية الغذائية بدلًا من تحقيق الاكتفاء، وتترك المجتمعات المحلية في مواجهة الهشاشة.
وإذا كان ما سبق يعكس وفرة طبيعية، فإن قصة الذهب تكشف وجهًا آخر للمفارقة السودانية. فبحسب البيانات الرسمية الصادرة عن شركة الموارد المعدنية السودانية المملوكة للدولة، بلغ الإنتاج المُعلن عام 2024 نحو 64 طنًا، بصادرات لا تتعدى 1.57 مليار دولار، حيث ما زال التهريب يشكل التحدي الأكبر، إذ صرح مدير الشركة محمد طاهر بأن "نحو نصف إنتاج الدولة يتم تهريبه عبر الحدود"، بينما تقدّر فايننشال تايمز أن الإنتاج الفعلي يصل إلى حوالي 80 طنًا، بما قيمته أكثر من 6 مليارات دولار، لكن أكثر من نصفه يُهرّب عبر شبكات مرتبطة بالنخب العسكرية والمليشيات.
ويؤكد تقرير لمعهد تشاتام هاوس البريطاني أن عائدات السيطرة على المناجم وتمويل النزاع كانت من المحركات الرئيسية للصراع. أما موقع "عاين" فكشف عن مسارات محددة للتهريب تبدأ من مناجم دارفور وشمال السودان، لتتجه عبر طرق غير شرعية نحو ليبيا ومصر وتشاد وجنوب السودان، أو عبر مطارات داخلية إلى دبي، حيث يُعاد دمج الذهب في الأسواق العالمية.
وليست الأزمة في الذهب وحده، فالسودان يحتكر أيضًا النصيب الأكبر عالميًا من إنتاج الصمغ العربي، إذ يوفّر نحو 80% من الإنتاج العالمي لهذا المحصول المستخدم في صناعات الأغذية والأدوية والمشروبات الغازية.
غير أن تحقيقًا أجرته رويترز، كشف أن كميات كبيرة من هذا المورد الاستراتيجي تُهرَّب من مناطق النزاع عبر الحدود لتمويل الحرب، وعلى رأسها قوات الدعم السريع.
وفي السياق ذاته، يشرح تقرير لشبكة "أتر" كيف تحوّل الصمغ العربي إلى رهينة للنزاع، حيث خرج من قنوات التوزيع الرسمية إلى شبكات تهريب موازية. كما يكشف عن خلل هيكلي متجذر منذ بدايات الدولة الحديثة بالسودان، تسبب في خسائر فادحة لمحصول يلعب دورًا محوريًا في الاقتصاد الوطني، وله أهمية اجتماعية مباشرة لملايين الأسر الريفية التي تعتمد عليه كمصدر أساسي للدخل.
وبحسب وزارة المعادن السودانية وإدارة معلومات الطاقة الأميركية، يجلس السودان أيضا على مخزون ضخم من الموارد الطبيعية غير المستغلة: نحو 1.5 مليون طن من اليورانيوم (ثالث أكبر احتياطي في العالم)، ويحتل المركز 13 عالميًا والثالث أفريقيًا في إنتاج الذهب.
كما تُقدّر احتياطيات الفضة بحوالي 1500 طن، بينما بلغت احتياطيات الذهب نحو 1550 طنًا في عام 2023. وإلى جانب ذلك، يملك السودان قرابة 5 ملايين طن من احتياطيات الحديد والنحاس، في حين يُقدر إجمالي الهدر الناتج عن سوء استغلال هذه الموارد بحوالي 250 مليار دولار.
أما النفط فقد كان حتى عام 2011 عصب الاقتصاد السوداني. فقبل الانفصال، أنتج السودان الموحد نحو 490 ألف برميل يوميًا، وكانت عوائده تمثل أكثر من نصف إيرادات الدولة وما يقارب 90% من صادراتها، بحسب إدارة معلومات الطاقة الأميركية.
ولكن بعد استقلال الجنوب، خسر السودان نحو ثلاثة أرباع احتياطياته النفطية ومعها معظم العائدات، إذ بقي معظم المخزون في أراضي الجنوب. ويُقدر احتياطي السودان حاليا بنحو 1.25 مليار برميل. والأهم أن الخرطوم لم تنجح في إدارة هذا المخزون المحدود أو استثماره بفاعلية، ولم تعوض الفاقد عبر الزراعة أو التعدين، ليظل الاقتصاد هشًا أمام أي صدمة جديدة.
وإلى جانب كل هذه الموارد المادية، يقف المورد الأهم: البشر، بثقلهم الشبابي ورصيدهم الثقافي. فوفق كتاب الحقائق الذي تصدره وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية ، يشكل مَن هم دون سن 15 عاماً حوالي 40% من سكان السودان، ما يعني قاعدة شبابية ضخمة يمكن أن تكون قوة إنتاجية هائلة في المستقبل.
كما تُظهر بيانات البنك الدولي أن نحو 55% من السكان في سن العمل (15-64 عامًا)، وهو ما يعكس وفرة في القوى العاملة حال توافر البيئة السياسية والاقتصادية المستقرة لاستيعابها.
أما التنوع الثقافي والإثني والديني فيمكن أن يشكل رأس مال رمزيًا يعزز الهوية الوطنية الجامعة والانفتاح الثقافي، حيث يضم السودان قرابة 500 مجموعة عرقية، لكنه تحوّل في ظل الانقسامات إلى وقود للصراع وأداة لتمزيق العقد الاجتماعي.
هكذا، تتجمع في السودان كل عناصر النهضة: أرض خصبة، مياه وفيرة، ثروة حيوانية، ذهب، صمغ، نفط، طاقة شبابية، وموقع استراتيجي على البحر الأحمر . لكنها بدلاً من أن تكون رافعة للتنمية، ظلت محاصرة في دائرة الهدر والتهريب والاستغلال السياسي.
يُعرّف "المرض الهولندي" بأنه أحد أهم مظاهر لعنة الموارد، وتقوم فكرته ببساطة على أن تدفق عوائد كبيرة من أحد الموارد الطبيعية -مثل النفط أو الذهب- يؤدي إلى دخول عملة صعبة للبلاد، فترتفع قيمة العملة المحلية، وتفقد القطاعات الأخرى -مثل الزراعة والصناعة- قدرتها على المنافسة.
النتيجة أن الاقتصاد يصبح أكثر اعتمادًا على هذا المورد وحده، ويتحول إلى اقتصاد ريعي هش. هذه الظاهرة، التي اكتُشفت أول مرة في هولندا بعد طفرة الغاز في ستينيات القرن 20، تكررت بوضوح في السودان، وبالتحديد فيما يتعلق بالنفط قبل عام 2011، ثم الذهب بعده، حيث أضعفا القطاعات المنتجة التقليدية وجعلا البلاد أسيرة لمورد قابل للزوال السريع.
ومن هنا جاء ما اصطلح عليه الاقتصاديون باسم "لعنة الموارد"، وهي وفرة طبيعية تتحول إلى عبء. أول من صاغ المصطلح كان البريطاني ريتشارد أوتي عام 1993، حين لاحظ أن الدول الغنية بالنفط والغاز والمعادن لم تحقق نتائج أفضل من نظيراتها الفقيرة، بل أحيانًا أسوأ، ثم جاء بول كولير ليضيف بُعدًا آخر: الموارد في الدول الهشة تزيد من احتمالات اندلاع الحروب الأهلية، إذ تتحول إلى غنيمة تتنازعها المليشيات والنخب.
أما جيفري ساكس فركّز على دور المؤسسات، معتبرًا أن الموارد لا تصبح "لعنة" إلا عندما تُدار في ظل نظم سياسية ضعيفة أو فاسدة. ولم تكن هذه النظرية وليدة التنظير وحده؛ بل خرجت من ملاحظة دول غنية بالموارد -مثل نيجيريا وفنزويلا والكونغو- بقيت غارقة في الأزمات المزمنة رغم ثرواتها النفطية والمعدنية الهائلة.
وإذا أسقطنا هذه العدسة على السودان، سنجد نموذجًا أكثر وضوحًا للمفارقة: بلد غني بكل شيء تقريبًا -أراضٍ خصبة، ذهب، نفط، مياه، ماشية، وصمغ عربي- لكنه يعيش اليوم واحدة من أسوأ الكوارث الإنسانية في العالم.
ولا شك أن حرب 15 أبريل/نيسان 2023 عمّقت الأزمة، لكن جذورها راسخة في بنية الدولة السودانية الحديثة. ولا ننسى أن ثورتي 1985 و2018 اللتين أطاحتا ب جعفر النميري وعمر البشير كان من أسبابهما الجوهرية تردي الأوضاع المعيشية في البلاد، وهو ما تكشفه بوضوح المؤشرات الاقتصادية والاجتماعية.
فبحسب برنامج الأمم المتحدة الإنمائي (UNDP)، احتل السودان المرتبة 176 من أصل 193 دولة في مؤشر التنمية البشرية لعام 2023، وهو مؤشر مركّب من معدلات جودة الصحة والتعليم وكفاية الدخل للمواطنين. ويقدّر البنك الدولي أن نسبة السكان تحت خط الفقر في السودان ارتفعت إلى أكثر من 71% بعد اندلاع حرب 2023، مقارنةً بحوالي 33% قبل الحرب .
أما معدلات الارتفاع في المستوى العام للأسعار (التضخم) فقد بلغ مستويات تاريخية، متجاوزًا 400% في يوليو/تموز 2021، قبل أن ينكمش مؤخرًا إلى حدود 100% بفعل انكماش النشاط الاقتصادي خلال الحرب، بحسب بيانات الجهاز المركزي للإحصاء السوداني. كما ارتفعت معدلات البطالة من 32% في عام 2022 إلى نحو 47% في عام 2024.
أما في الخدمات الأساسية، فالصورة تزداد قتامة: أكثر من 40% من السكان محرومون من مياه شرب آمنة، وفي عام 2023 تمتع قرابة 60% فقط بالكهرباء وفقا لبيانات البنك الدولي.
أما وفيات الأطفال دون الخامسة فبلغت 50 وفاة لكل 1000 ولادة وفق بيانات البنك الدولي، أي أعلى بنحو 35% من المتوسط العالمي (37 وفاة لكل 1000ولادة)[40]. وهو رقم صادم يكشف حجم التدهور في الخدمات الصحية والإنسانية، والمتوقع أن هذه الأرقام رغم مستوياتها المتدنية قد تدهورت بفعل الحرب.
وعلى صعيد الاستجابة للطوارئ الطبيعية، يُصنّف السودان كخامس أكثر دول العالم عرضة لآثار تغير المناخ، وفقًا لمؤشر التغير المناخي العالمي لعام 2022.
كما أشار مركز دراسات الكوارث والأزمات في أفريقيا إلى أن 151 منطقة في البلاد من أصل 189؛ تُعد شديدة التأثر بالكوارث الطبيعية، خاصة الفيضانات وندرة المياه. ويُفسر ذلك مقتل العشرات وتهدّم قرى بأكملها مع كل موسم للأمطار والفيضانات. غير أن ما يفاقم الأضرار هو ضعف البنية التحتية وغياب أنظمة فعّالة لإدارة الطوارئ، في تجلٍ آخر لهشاشة مؤسسات الدولة.
أحدثُ مثال مأساوي على ذلك وقع في قرية ترسين بمنطقة جبل مرة بولاية وسط دارفور غربي السودان، حيث أدى انزلاق أرضي بفعل الأمطار الغزيرة إلى مقتل أكثر من 1000 شخص. ولم تكن الكارثة انعكاسًا للعوامل الطبيعية فحسب، بل تجسيدًا لغياب سياسات الوقاية والجاهزية في دولة مأزومة.
أما المجاعات، فقد أصبحت جزءًا متكررًا من تاريخ السودان منذ الاستقلال في عام 1956، حيث مرّت بالبلاد 5 موجات كبرى على الأقل، وصولًا إلى الأزمة الراهنة التي وصفها برنامج الغذاء العالمي (WFP) بأنها "الأسوأ في العالم اليوم"، إذ يواجه أكثر من 24 مليون شخص -حوالي نصف عدد السكان- مستويات حادة من انعدام الأمن الغذائي، هذا فضلًا عن أن السودان شكّل مع حرب عام 2023 أسوأ أزمة نزوح ولجوء في العالم، مع أكثر من 12 مليون نازح ولاجئ، بحسب المنظمة الدولية للهجرة (IOM).
ورغم عودة قرابة مليوني نازح بعد استعادة الجيش للعاصمة ومناطق استراتيجية في الشرق من قبضة قوات الدعم السريع، فإن حجم الدمار وغياب الخدمات الأساسية يشكلان تحديًا هائلًا. في الوقت نفسه، تفشّت الكوليرا والأوبئة الأخرى على نحو غير مسبوق، بحسب منظمة الصحة العالمية (WHO) ومنظمة أطباء بلا حدود .
وهكذا تتجلى لعنة الموارد السودانية: وفرة تُنتج هشاشة بدلاً من تنمية، وثروات تتحول إلى وقود لصراعات مسلحة بدلاً من أن تكون رافعة للتنمية والاستقرار.
من الصعب فهم مأزق السودان المعاصر دون العودة إلى إرث الاستعمار البريطاني. فقد صاغ البريطانيون الاقتصاد السوداني على أسس ريعية، قائمة على إنتاج محاصيل نقدية محددة، مثل القطن الذي شكّل العمود الفقري لمشروع الجزيرة، والصمغ العربي، إلى جانب صادرات الماشية، وذلك لتلبية احتياجات الأسواق العالمية ومصانع الإمبراطورية البريطانية، دون أن يضعوا أساسًا لبنية إنتاجية متكاملة داخل البلاد تفضي إلى تنمية حقيقية ومستدامة.
بجانب ذلك، فرضوا سياسات مثل "المناطق المقفولة" في جنوب السودان وجبال النوبة ودارفور، التي عمّقت الانقسامات بين المركز والهامش، ورسخت دولة غير متوازنة الهوية والموارد. هذه البنية الهشة انتقلت إلى ما بعد الاستقلال، فظل السودان دولة موجهة للتصدير، منقسمة اثنيا وجهويًا، بلا عقد اجتماعي جامع.
ومع مرور الزمن، لم تُكسر هذه الحلقة، بل أعيد إنتاجها بأشكال أكثر حدة، نتجت عنها جولات طويلة من الصراعات، وتعمقت مع عسكرة الاقتصاد، حيث برز ما يمكن أن نسمّيه مفهوم "الحرب كاستثمار"، إذ لم تعد الحرب في السودان مجرد طارئ أو عارض سياسي، بل تحولت إلى بنية اقتصادية بحد ذاتها.
فمن خلال مفهوم "التراكم عبر نزع الملكية" لديفيد هارفي، يمكن قراءة كيف حوّلت النخب العسكرية والمليشيات الموارد العامة -خاصة الذهب- إلى أرباح خاصة عبر العنف والنهب.
ويضيف مارك دافيلد أن اقتصاديات الحرب نفسها تصبح وسيلة لإدارة الهشاشة، حيث تُستخدم العسكرة كأداة لضبط مجتمع مأزوم بدلًا من تطويره. أما سينثيا إنلو، فتذكرنا بأن العسكرة لا تُعيد فقط إنتاج علاقات القوة بين الدول، بل في داخل المجتمعات نفسها أيضا، حيث تُستغل النساء والفئات المهمشة كجزء من ماكينة الحرب.
هذه الأطر النظرية تشرح الواقع السوداني الراهن، فالحرب الحالية تمثل تطبيقًا مباشرًا لها، إذ تتجلى في ممارسات قوات الدعم السريع التي سيطرت لسنوات على مناجم الذهب في إقليم دارفور وغيره، واستخدمت العائدات في تمويل آلتها العسكرية بدعم من شبكات إقليمية ودولية.
غير أن الدعم السريع ليس حالة استثنائية، بل هو أداة ضمن منظومة أوسع؛ صنيعة لمؤسسات الحكم التي رعته واستفادت من خدماته، قبل أن يتغير توازن القوة بين الطرفين. ومن ثم، لا يمثّل الدعم السريع سوى مثال بارز لشبكة أعقد من النخب المدنية والعسكرية التي جعلت من الحرب آلية معاصرة لإدارة الاقتصاد.
وقد ساعد عدم الاستقرار السياسي وهشاشة المؤسسات على استمرار هذه الحلقة، فمنذ الاستقلال عام 1956، شهد السودان نحو 35 انقلابًا عسكريًا، ما جعل البلاد بمثابة مختبر للانقلابات. نجحت 6 انقلابات من هذه المحاولات، في حين مُنيت 12 محاولة بالفشل، وأُحبِطت 17 أخرى مسبقًا.
وبينما اقتصرت بعض هذه الانقلابات على نقل السلطة من قائد عسكري إلى آخر، أدّت انقلابات أخرى إلى إنهاء فترات قصيرة من الحكم الديمقراطي (1956-1958، و1964-1969، و1985-1989)، ما جعل السودان إحدى أكثر الدول تقلبًا سياسيًا في العالم، وأصبح الانقلاب أداة سياسية شبه طبيعية لإدارة السلطة في البلاد، ولم تنجح أي حكومة في بناء مؤسسات مدنية راسخة، بينما ظل الفساد ينخر في القطاعات الحيوية، من الذهب إلى الزراعة.
ولم يقتصر الأمر على الانقلابات أو الفساد بمعناه التقليدي، بل اتخذ شكلًا أكثر رسوخًا فيما يمكن تسميته بالزبائنية السياسية، حيث تحوّلت موارد الدولة من الأراضي الزراعية والوظائف العامة إلى أدوات لشراء الولاءات القبلية والسياسية.
ومع مرور الزمن، أصبح السودان بأسره سوقًا للزبائنية، تُوزَّع فيه الامتيازات مقابل الولاء، في نمط متكرر استنسخته النخب المدنية والعسكرية على حد سواء.
ويقدّم الباحث أليكس دي وال إطارًا نظريًا لذلك تحت عنوان "السوق السياسي"، موضحًا أن السياسة السودانية لا تُدار عبر مؤسسات رسمية أو قواعد قانونية بقدر ما تُدار عبر صفقات مالية وتحالفات آنية بين النخب وقادة الأجهزة الأمنية وزعماء القبائل. وبهذا المعنى، تتحول الدولة إلى ساحة للمقايضة والزبائنية المستمرة، بدلًا من أن تكون إطارًا جامعًا لإدارة الصالح العام.
هذه الأزمة البنيوية انعكست في الشروخ المجتمعية وأزمة الاندماج الوطني. فالمركز ظل يهيمن على السلطة والثروة، بينما تُركت مناطق مثل دارفور والشرق والنيل الأزرق في الهامش، ما قاد إلى تفجير الصراعات، والتي كان من أبرز تجلياتها انفصال الجنوب عام 2011.
وفي قلب كل ذلك، برزت إشكالية العلاقات المدنية-العسكرية. فمنذ الاستقلال، لم ينجح السودانيون في ترسيم حدود واضحة بين المجالين، بل عمدت النخب السياسية نفسها إلى تسييس الجيش، عبر إنشاء تنظيمات داخله، وتحويله إلى رافعة للتنافس السياسي، ومن ثم ترسخت هيمنة الجيش على الدولة والاقتصاد.
ومع صعود قوات الدعم السريع بات السودان في وضع فريد: جيشان متوازيان، كلاهما يسيطر على موارد استراتيجية ويقحم نفسه في السياسة والاقتصاد، فضلاً عن عشرات المليشيات التي كان بعضها صنيعة مؤسسات الدولة ذاتها.
ومع تعمق هذه الأزمة في بنية الدولة السودانية، بدا الباب مفتوحًا أمام القوى الإقليمية والدولية لملء الفراغ، وتحولت إلى قابلية للاستقطاب والاختراق الخارجي. هذه التدخلات لم تكن لتترسخ لولا القابلية الداخلية، إذ وفرت الانقسامات والهشاشة المؤسسية أرضًا خصبة لتحويل السودان إلى ساحة تنافس إقليمي ودولي.
هكذا يتضح أن السودان لم يتخلف صدفة، بل نتاج تضافر عوامل عدة: إرث استعماري انقسامي، هشاشة سياسية ومؤسسية، زبائنية سياسية، انقسامات اجتماعية عميقة، تدخلات إقليمية ودولية، وهيمنة عسكرية على الدولة والاقتصاد. والنتيجة أن الموارد التي كان يفترض أن تكون أساسًا للنهضة، تحولت إلى محركات للتفكك والفوضى.
تكشف التجربة السودانية أن وفرة الموارد الطبيعية ليست ضمانة للتقدم، بل قد تتحول إلى مفارقة مؤلمة: بلد غني بالثروات، لكنه فقير في التنمية والاستقرار. ويبقى السؤال مفتوحًا: هل يمكن أن يكسر السودان لعنة الموارد؟
الإجابة ليست سهلة، لكنها ممكنة إذا توافرت شروط أساسية: بناء مؤسسات مدنية قوية، ضبط العلاقة بين المدنيين والعسكريين، إدارة رشيدة للموارد، مكافحة الفساد، وتعزيز الشفافية، برنامج عدالة انتقالية فعال، والتوافق حول عقد اجتماعي جامع لكل السودانيين. يضاف إلى ذلك ضرورة تحويل الوفرة الطبيعية إلى اقتصاد منتج ينعكس على حياة المواطنين لا على شبكات النفوذ.
لكن هذه الشروط ستظل مرهونة قبل كل شيء بإرادة السودانيين أنفسهم، فالحل داخلي أولًا وأخيرًا. التحديات ماثلة أمامهم: بداية خطر استمرار الحرب بأطوار جديدة حتى بعد توقفها، إلى احتمال إعادة إنتاج الانقسامات، وصولا إلى سيناريو التقسيم الثاني.
ومع ذلك، فإن نفس الموارد التي غذّت الصراع قد تكون أيضًا نقطة الانطلاق لبناء مستقبل مختلف، لو أحسن السودانيون إدارتها في إطار وطني جامع.