في حال واجهت مشكلة في مشاهدة الفيديو، إضغط على رابط المصدر للمشاهدة على الموقع الرسمي
تشهد منطقة شرق المتوسط في الآونة الأخيرة تحركات استراتيجية عميقة، قد تعيد ترتيب أوراق النفوذ في المنطقة. القاهرة وأنقرة أطلقتا مناورات بحرية مشتركة، فيما بدأت مصر خطوات عملية لتدريب قوات الأمن الفلسطينية تمهيدًا لما يُعرف إعلاميا بـ"غزة الجديدة".
تعاون الدولتين يأتي بعد سنوات من الخلافات، ويشير إلى تقارب سياسي وعسكري متسارع، في وقت تتابع فيه إسرائيل هذه التحركات بقلق، خشية أن يكون مقدمة لتحالف إقليمي جديد قد يعيد التوازنات التقليدية شرق المتوسط.
وفي هذا السياق، شددت القاهرة على ضرورة إنشاء قوات فلسطينية تحت سيطرة السلطة، مع منع أي دور للفصائل المسلحة، بما فيها حركة حماس، كخطوة لتعزيز استقرار غزة وضمان إدارة متكاملة للقطاع.
المناورات العسكرية المصرية التركية
أوضحت تصريحات الخبير العسكري والإستراتيجي سمير راغب، خلال حديثه لـ"التاسعة" على سكاي نيوز عربية أن هذه المناورات البحرية ليست مجرد تدريبات روتينية، بل تعكس أعلى مستويات التعاون العسكري بين دولتين محوريتين في شرق المتوسط.
وأكد راغب أن هذا التعاون يعكس مستوى متقدم من العلاقات السياسية بين القاهرة و أنقرة، ويعتبر مؤشرا على إمكانية بناء تحالفات إقليمية جديدة، بما يخدم الأمن الجماعي ويوازن النفوذ التقليدي لإسرائيل في المنطقة.
وأشار راغب إلى أن البحرية المصرية والتركية تصنفان من الأقوى في البحر المتوسط، سواء من حيث القوة النارية أو حجم القطع البحرية، مؤكدا أن البحرية المصرية تمتلك تاريخا عريقا من التفوق الاستراتيجي يمتد حتى ما قبل إنشاء إسرائيل، وهو تفوق حافظت عليه الدولة المصرية عبر العقود، ويشكل عنصرا حاسما في أي تحالف إقليمي مستقبلي.
وأضاف راغب أن التعاون البحري لا يقتصر على الاستعداد للحروب، بل يشمل تأمين العمليات المدنية، بما فيها حماية محطات الطاقة البحرية، مراقبة المناطق الاقتصادية، تنفيذ عمليات البحث والإنقاذ، والتصدي للقرصنة.
وأوضح أن هذا التعاون يعد تمهيدا لتطوير القدرات الجوية المشتركة، ما يعزز قوة الردع الإقليمية ويقلل من احتمال التصعيد العسكري.
التحالفات الإقليمية وأثرها على إسرائيل
يرى راغب أن التحالفات الإقليمية غالبا ما تنشأ بناء على شعور مشترك بالتهديد أو رغبة في التقدم، وهو ما ينطبق على التحالف المحتمل بين مصر و تركيا.
وأوضح أن إسرائيل، التي اعتادت التفوق الإستراتيجي في شرق المتوسط، تراقب هذه التحركات بقلق، إذ قد تؤدي الشراكات الجديدة إلى إعادة رسم التوازنات بعيدا عن هيمنتها التقليدية.
وأكد الخبير العسكري أن القاهرة تعمل كوسيط دولي وإقليمي، مع الحفاظ على مصالحها التاريخية والاستراتيجية، ما يجعلها طرفا قادرا على التأثير المباشر في مجريات الصراعات دون الانخراط المباشر في نزاعات مفتوحة مع إسرائيل.
غزة الجديدة والأمن الفلسطيني
تعتبر مسألة تدريب قوات الأمن الفلسطينية محورا رئيسيا في جهود مصر لضمان استقرار غزة، حيث أعلنت القاهرة أنها ستعمل على إنشاء قوة فلسطينية موحدة، تحت سيطرة السلطة، مع منع أي دور للفصائل المسلحة.
وأوضح راغب أن الهدف من تدريب هذه القوات لا يقتصر على الجانب العسكري، بل يشمل تعزيز الاستقرار السياسي والاجتماعي، وتهيئة الظروف لتطبيق المقترحات الدولية المتعلقة بالسلطة الفلسطينية، بما في ذلك المقترح الأميركي الذي تبنته إدارة بايدن لاحقا.
وأشار إلى أن التدريب بدأ منذ مايو من العام الماضي، وتضمن مراحل متعددة من التأهيل العسكري والأمني، في مناطق مختلفة، بما في ذلك بعض المناطق التي لم يعلن عنها رسميا، بهدف تجهيز القوات لتكون جاهزة لأي تطبيق عملي للمقترحات الأمنية والسياسية في غزة.
وأكد الخبير أن مصر لا تسعى لدور استعراضي، بل إلى أدوات عملية لحل المشكلات، مع الحفاظ على التوازنات الإقليمية، ومنع أي طرف خارجي من استغلال الفراغ الأمني والسياسي في القطاع.
التوازنات الإقليمية والتحالفات الجديدة
من منظور جيوسياسي، يشير راغب إلى أن شرق المتوسط أصبح نقطة محورية للتوازنات الإقليمية، إذ تشهد المنطقة تحولات كبيرة على مستوى التحالفات التقليدية.
التحالف المصري التركي قد يمثل بديلا عمليا للتحالفات السابقة، ويعيد توزيع النفوذ بعيدا عن الهيمنة التقليدية لإسرائيل.
وأوضح الخبير أن هذا التحالف لا يهدف إلى مواجهة إيران أو أي دولة أخرى مباشرة، بل يركز على الأمن الجماعي والاستقرار الإقليمي، ما يسمح لمصر وتركيا بالقيام بدور فعال في إدارة الصراعات ومنع انفجار الأزمات، خصوصًا في غزة وشمال سوريا.
وأشار راغب إلى أن التحالفات الجديدة تمثل قوة ردع استراتيجية، تُعيد الحسابات الجيوسياسية لصالح الأطراف الإقليمية، وتفتح المجال لإعادة التفكير في توزيع النفوذ في شرق المتوسط، بعيدًا عن الهيمنة التقليدية لدولة واحدة.
الدروس التاريخية والتحديات المستقبلية
بحسب تحليل راغب، شهد الشرق الأوسط تحالفات قائمة على مصالح قصيرة الأجل وحسابات ضيقة غالبا ما خدمت التفوق الإسرائيلي، فيما يفتقد اليوم إلى توازن حقيقي.
التجارب السابقة، مثل حرب أكتوبر 1973، أظهرت قدرة القوى الإقليمية على التأثير في مجريات الأحداث، لكن بشكل محدود ومؤقت.
اليوم، يمتلك كل من مصر وتركيا القدرة على بناء تحالفات استراتيجية طويلة الأمد، قادرة على ضبط الصراعات الإقليمية وإعادة توزيع النفوذ، مع ضمان عدم التصعيد العسكري المباشر ضد إسرائيل، وفي الوقت نفسه منع أي طرف خارجي من استغلال الفراغ السياسي والأمني في المنطقة.
وأكد راغب أن نجاح هذا التحالف يعتمد على إدارة دقيقة للعلاقات مع الدول الخليجية والدول الإقليمية الأخرى، بما فيها إيران، دون أن يؤدي ذلك إلى صدام مباشر، مع التركيز على تحقيق الأمن الجماعي والاستقرار السياسي.
نحو شرق متوسط مستقر ومتوازن
توضح التطورات الأخيرة في شرق المتوسط أن المنطقة أمام مرحلة حساسة تتطلب قراءة دقيقة للتوازنات العسكرية والسياسية. المناورات البحرية المصرية–التركية، إلى جانب تدريب القوات الفلسطينية، تشير إلى تحرك استراتيجي متكامل يهدف لتعزيز الأمن الجماعي، وضمان الاستقرار السياسي، وإعادة تشكيل التحالفات الإقليمية بما يخدم مصالح الدول الكبرى في المنطقة.
ويعتبر التحالف المصري–التركي، وفقا لراغب، خطوة استباقية لضبط الصراعات الإقليمية، مع إبقاء إسرائيل ضمن دائرة مراقبة استراتيجية، دون الدخول في صدام مباشر.
كما يظهر الدور المصري كفاعل إقليمي محوري، قادر على تنفيذ استراتيجيات عملية تتجاوز الشعارات، وتوفر بدائل سياسية وعسكرية قابلة للتطبيق، بما يعزز وزنه الإقليمي في منطقة لطالما شهدت صراعات مفتوحة على النفوذ والمصالح.
في ظل هذه التطورات، يبدو أن شرق المتوسط يتجه نحو مرحلة جديدة من التوازنات، تتسم بتحالفات إقليمية أكثر مرونة، وقوة ردع متوازنة، مع تركيز على الاستقرار السياسي والأمني، بما يضمن عدم استفادة أي طرف خارجي من الفراغ في المنطقة، ويعيد رسم خارطة النفوذ بعيدًا عن التفوق التقليدي لإسرائيل، لصالح الأمن الجماعي والمصالح الاستراتيجية للدول الإقليمية.