تعود موسكو إلى الواجهة في سوريا ولكن بعباءة جديدة، فالحكومة الانتقالية في دمشق أبدت رغبتها باستئناف الدوريات الروسية في الجنوب لمواجهة النفوذ الإسرائيلي، بحسب صحيفة "كوميرسانت" الروسية.
الزيارة الأخيرة لوزير الخارجية السوري إلى موسكو فتحت الباب أمام تقاطع مصالح لافت بين الطرفين، حيث تسعى روسيا لتثبيت قواعدها العسكرية على الساحل، فيما تبحث دمشق عن مظلة توازن بها الضغوط الإقليمية.
فهل يشكل هذا التطور بداية فصل جديد في العلاقات الروسية السورية؟
أطلق اللقاء بين الرئيس الروسي فلاديمير بوتين ووزير الخارجية السوري أسعد الشيباني، مرحلة جديدة من التعاون السياسي والعسكري بين روسيا وسوريا، يقوم على "احترام سيادة سوريا ودعم الاستقرار والإعمار وتصحيح العلاقات على أسس متوازنة ومعالجة إرث النظام السابق"، بحسب موقع إدارة الإعلام في وزارة الخارجية والمغتربين السورية.
وفي مؤتمر صحفي مشترك عُقد بين وزيري الخارجية الروسي سيرغي لافروف والسوري أسعد الشيباني في موسكو، قال الأخير إن زيارته إلى روسيا تهدف إلى "بدء نقاش ضروري بالاستناد إلى دروس الماضي، لصياغة المستقبل" مضيفاً أنه اتفق مع لافروف على تشكيل لجنتين مكلفتين بإعادة تقييم الاتفاقيات السابقة بين سوريا وروسيا، وأوضح أن "هناك فرص عديدة لبناء سوريا موحدة وقوية، ونأمل أن تقف روسيا إلى جانبنا في هذا المسار".
لكن، لماذا انتظرت دمشق قرابة ثمانية أشهر، لإعادة تعزيز علاقاتها مع روسيا؟
زيارة الشيباني إلى موسكو فتحت الباب لتقارب أوثق، تُرجم سريعًا بعودة الدوريات الروسية في القامشلي، شمال شرقي البلاد.
ورغم احتفاظ موسكو بقواعدها في طرطوس وحميميم، يبقى التحدي في الميدان الجنوبي حيث تتقاطع حسابات إسرائيل وتركيا وإيران، ما يجعل الدور الروسي ورقة أساسية في معادلة التوازن الإقليمي وفقاً لتقرير "كوميرسانت".
يقول الباحث الأمني في شؤون سوريا، فايز الأسمر، لبي بي سي عربي:"أرى أن دمشق تحاول موازنة علاقاتها وتجنب الارتهان لطرف محدد، خاصة للغرب، في ظل ما تواجهه من تحديات أمنية داخلية وخارجية. ومن خلال تقاربها مع موسكو تسعى إلى خفض التوترات وتعزيز استقرار البلاد، مستفيدة من ثقل روسيا الدولي وعضويتها في مجلس الأمن وتأثيرها في القرارات الأممية".
يضيف الأسمر: "تسعى القيادة السورية إلى فتح قنوات مع المجتمع الدولي وصفر المشاكل لتسهيل إعادة إعمار البلاد. ورغم ماضي موسكو الأسود في الثورة السورية، تدرك دمشق ثقلها الاقتصادي والسياسي والعسكري، ما يجعلها شريكاً أساسياً يمكن الاستفادة منه لتحقيق الاستقرار والحد من العزلة الدولية".
لكن، كيف يُوفق الكرملين بين دعمه السابق لبشار الأسد ونظامه الذي امتد لعقود من الزمن، وبين حكومة شكلتها شخصيات معارضة سابقة كانت تصفها موسكو بالإرهابية؟
ألكسندر زاسيبكين، وهو دبلوماسي روسي بارز شغل منصب سفير روسيا الاتحادية لدى لبنان، يقول لبي بي سي عربي:
"إن السياسة الروسية ثابتة في احترام وحدة وسيادة سوريا. الحوار الوطني لم يكتمل بعد ويجب أن يضمن حقوق جميع المكونات". مضيفاً أن "روسيا دعمت هذا الحوار منذ البداية وسعت للتوافق بين النظام والمعارضة، والتعاون مع السلطات السورية الحالية خيار صائب يخدم مصالح الشعب، خاصة مع توازن سياستها الخارجية مقابل انحياز الولايات المتحدة لإسرائيل. كما أن دولاً مثل تركيا والسعودية والخليج لا تعارض الوجود الروسي انطلاقاً من ضرورة الحفاظ على التوازن في المنطقة".
أما عمار قناة، أستاذ العلاقات الدولية ومدير مركز الدراسات الإستراتيجية والتنبؤ السياسي في موسكو، يقول لبي بي سي عربي: "تريد دمشق تعزيز علاقاتها مع روسيا بسبب محدودية الانفتاح الأمريكي والتحفظ الأوروبي، وسط تحديات سياسية وأمنية، أما روسيا، فهي منشغلة بمشكلات أخرى لكنها مستعدة لفتح آفاق استراتيجية قد تتطور لتصبح طويلة المدى مع سوريا".
ونقلت وكالة أسوشييتد برس وغيرها، مطالب دمشق التي تمحورت بشكل أساسي حول "رغبة دمشق بوقوف روسيا إلى جانبها في إعادة الإعمار ومراجعة الاتفاقيات المبرمة في عهد بشار الأسد وتعزيز التعاون الأمني والاقتصادي المستدام، إضافة إلى تأمين الغطاء والدعم السياسي لمواجهة التهديدات الخارجية، ولا سيما الضربات والتدخلات الإسرائيلية داخل الأراضي السورية".
اختارت موسكو "عدم التصعيد ضد مسلحي هيئة تحرير الشام التي كانت تصنفها كمنظمة إرهابية، بل التفاوض والتكيف مع الواقع الجديد" وفقاً للمستشار العسكري الروسي ألكسندر هوفمان، نقلاً عن موقع "سبيشال أوراسيا" - الرائد في مجال الاستخبارات الجيوسياسية وتحليلات المصادر المفتوحة.
هوفمان أشار إلى أن أحد دوافع التواصل مع القادة الجدد هو وجود مقاتلين من آسيا الوسطى وشمال القوقاز في صفوفها، ما يشكل تهديداً أمنياً مباشراً لروسيا إذا تمكّن هؤلاء من فتح ممر عبر تركيا وجورجيا إلى داغستان الروسية.
ويرى فايز الأسمر أن موسكو تدرك تغيّر المعادلات في سوريا والمنطقة، وتسعى للتقارب مع دمشق لضمان بقاء قاعدتيها في طرطوس وحميميم والحفاظ على موطئ قدم لها على السواحل الدافئة بأي صيغة كانت.
يقول زاسيبكين: "دون شك، تهتم موسكو باستمرار وجود قواعدها العسكرية بالدرجة الأولى، وهذا لا يتعارض مع مصالح سوريا، كما أنها قادرة على تقديم المساعدة من خلال إعادة بناء الجيش السوري انطلاقا من تقاليد التعاون الثنائي في هذا المجال". مضيفاً أن روسيا "تهتم بإيجاد الحلول السياسية السلمية للمشاكل بما في ذلك النزاع العربي الإسرائيلي".
فرانسيسكو بيلكاسترو، رئيس برنامج العلاقات الدولية في جامعة داربي في المملكة المتحدة، يوضح لبي بي سي نيوز عربي: "صحيح أن سقوط الأسد كان بمثابة انتكاسة لروسيا بالنظر إلى حجم استثماراتها في سوريا، لكن أعتقد أن القيادة الروسية قيادة براغماتية بما يكفي وتستطيع التواصل مع القادة الجدد لضمان مصالحها الاستراتيجية قدر الإمكان رغم انشغالها في جبهات أخرى".
ويقول إن الحكومة السورية تعتمد على الدعم الخارجي بشدة، تماماً كما كان يفعل نظام الأسد في السنوات الأخيرة، إلا أن القوى الخارجية التي تعتمد عليها هي التي اختلفت.
بالإضافة إلى ذلك، يوضح بيلكاسترو "أن إسرائيل باتت أكثر عدوانية وحزماً في بضع السنوات الماضية. وعلى الرغم من ضعفها الكبير، تظل سوريا محوراً جيوسياسياً من عدة نواحٍ، وهو ما يجعلها دائماً ورقة مهمة".
بيلكاسترو يرى أن "الحكومة السورية الجديدة تدرك أنها في وضع جيوسياسي معقد. ربما يكون العامل الرئيسي هو مسار العلاقات الروسية التركية، فبينما تحاول القيادة السورية تعزيز شراكات مختلفة، من الصعب رؤيتها تبتعد عن العلاقة مع تركيا، لذا سيكون لأنقرة رأي في السياسة الخارجية لدمشق، على الأقل في الأمد القريب".
وفي نهاية المطاف، تمر علاقة موسكو بدمشق بمرحلة إعادة تشكيل عميقة، إذ تتكيف روسيا، التي كانت تفرض شروطها في عهد الأسد، مع واقع جديد وقيادات ومطالب مختلفة. وبرغم الخلافات والمطالب غير الملباة، لا سيما مطالب محاكمة الأسد، يظل الطرفان يتقاسمان مصالح استراتيجية مشتركة، تدفعهما لتعزيز التعاون في مجالات محددة، من حماية القواعد العسكرية وخلق توازن قوى دقيق يضمن الاستقرار، وصولاً إلى إعادة بناء الجيش الوطني والحد من التدخلات الخارجية.