في حال واجهت مشكلة في مشاهدة الفيديو، إضغط على رابط المصدر للمشاهدة على الموقع الرسمي
بعد سنوات من التعثر، يشهد مشروع الربط الثابت بين ضفتي المتوسط عبر مضيق جبل طارق ديناميكيات استثنائية في ظل الطفرة النوعية التي تطبع العلاقات السياسية والاقتصادية بين المغرب وإسبانيا، وهو ما يعكسه انتظام أشغال الأجهزة المكلّفة بتدبير المشروع والتقدم الملحوظ في إنجاز الدراسات التقنية ودراسات الجدوى.
وقد تنامى الاهتمام الأوروبي بالعوائد الإستراتيجية والمالية للربط الثابت بين القارتين الأوروبية والأفريقية في خضم تقلّب خرائط التحالفات الدولية وتزايد جاذبية مضيق جبل طارق ضمن المشاريع الجيوسياسية العابرة للقارات، كبوابة أوروبا العالمية وأنبوب نقل الغاز النيجيري إلى الدول الأوروبية عبر المغرب.
وتسعى ورقة تحليلية نشرها مركز الجزيرة للدراسات بعنوان " ديناميكيات مشروع الربط القاري بين المغرب وإسبانيا: الحوافز والكوابح " للباحث عبد الرفيع زعنون، إلى تتبع السياقات والخلفيات الكامنة وراء مشروع بناء نفق تحت قاع البحر للربط بين المغرب وإسبانيا، مع إبراز تقاطع المصالح والرهانات المحلية والقارية، إضافةً إلى استشراف السيناريوهات المتوقعة لتشغيله والمخاطر المحتملة التي قد تؤدي إلى إبطاء وتيرة إنجازه أو حتى إلى وأده في المهد.
فكرة الربط بين أوروبا وأفريقيا عبر مضيق جبل طارق ليست وليدة اليوم، بل تعود إلى عام 1869 مع افتتاح قناة السويس ، قبل أن يتم التبني الرسمي للمشروع سنة 1979 باتفاق بين الملك الحسن الثاني والملك الإسباني خوان كارلوس . ومنذ ذلك الحين، عُهد إلى شركتين حكوميتين؛ الشركة الوطنية لدراسات مضيق جبل طارق بالمغرب، والشركة الإسبانية للدراسات من أجل الربط الثابت عبر مضيق جبل طارق، بمهام دراسات الجدوى والتخطيط التقني.
بعد استبعاد فكرة الجسر بسبب تأثيراته البحرية والأمنية، حُسم التوجه نحو نفق بحري مخصص للسكك الحديدية، بامتداد يناهز 42 كيلومترا، منها 28 كيلومترا تحت قاع البحر. ووقع الاختيار على مسار "عتبة المضيق" بين طريفة و طنجة ، لكن الأزمة المالية العالمية لعام 2008 جمّدت التمويل، وتوقف المشروع لسنوات بسبب توتر العلاقات السياسية بين مدريد و الرباط ، خاصة في فترة 2010-2021.
لكن الزخم للمشروع عاد مع اعتراف إسبانيا في مارس/آذار 2022 بمبادرة الحكم الذاتي للصحراء تحت السيادة المغربية، ما أسهم في استئناف اجتماعات اللجنة المشتركة بين البلدين، وصولا إلى توقيع اتفاقيات تقنية ومؤسساتية في عامي 2023 و2024. كما حصل المشروع على دفعة معنوية بعد قبول الملف المغربي – الإسباني – البرتغالي المشترك لتنظيم كأس العالم 2030.
خصصت الحكومتان أكثر من 100 مليون يورو لدراسات الجدوى، وكلفتا شركة "إينيكو" الإسبانية بتطوير النموذج الهندسي. كما التزمت مدريد بتوفير نصف مليار دولار لتجهيزات رصد زلزالي في قاع البحر، وتم توقيع شراكات علمية مع مراكز بحث مغربية وإسبانية لتعميق الفهم الجيولوجي والهندسي للممر.
تحوّل المشروع من مجرد ربط ثنائي إلى مبادرة إقليمية تربط أوروبا بأفريقيا، خاصة مع إدماجه في شبكة النقل الأوروبية، ورهان الاتحاد الأوروبي عليه لتعزيز البنية التحتية الأورو-متوسطية.
كما أبدت بريطانيا اهتمامها بتمويل المشروع بعد تخليها عن فكرة الربط القاري لجبل طارق بمدينة طنجة لأسباب سياسية وتقنية، وأصبحت أكثر حماسا لدعمه بعد خروجها من الاتحاد الأوروبي، بما يخدم سعيها نحو تعزيز شراكتها مع الدول الأفريقية.
وسيُربط النفق بالقطارات فائقة السرعة من الجانبين: في إسبانيا نحو مدريد وبرشلونة، وفي المغرب نحو الدار البيضاء وأغادير، حيث سيقلص زمن السفر من طنجة إلى مدريد إلى 6 ساعات، وإلى باريس في 10 ساعات. وتشير التقديرات إلى عبور سنوي يصل إلى 13 مليون طن من البضائع و12.8 مليون مسافر.
وتمثل الاهتمام الأوروبي فعليا بمساهمة من برنامج "الجيل الأوروبي المقبل" بـ1.6 مليون دولار لدراسات الجدوى، مع انخراط صناديق أوروبية في تقييم سيناريوهات العائد الاقتصادي للمشروع.
من جهة أخرى، يعزز المشروع المبادرات المغربية في جنوب الصحراء، مثل ميناء الداخلة الأطلسي ومبادرة الولوج إلى المحيط الأطلسي، ما يحوّل المغرب إلى محور لوجستي يربط القارة السمراء بأوروبا.
ماليا، رغم هذا الزخم، تظل العقبة الكبرى هي الكلفة المالية غير المؤكدة؛ فبينما تقدّر الحكومات أن المشروع سيكلف 15 مليار دولار، تشير التقديرات الفنية الأولية إلى إمكانية مضاعفة هذا الرقم إلى أكثر من 30 مليار دولار، خاصة بسبب التحديات الجيولوجية في المضيق، منها الصخور الصلبة، والعمق البحري (يصل إلى 900 متر)، والنشاط الزلزالي، والتيارات البحرية القوية.
هندسيا، يعتبر المشروع تحديا من الطراز العالي، ويتطلب تقنيات معقدة لدعم البنية التحتية في منطقة ذات ظروف طبيعية متقلبة.
سياسيا، يواجه المشروع عراقيل عدة، منها فتور بعض المؤسسات الإسبانية، ورفض وكالة السكك الحديدية الإسبانية للمشروع بدعوى ضعف البنية الحالية. كما أن مخاوف الاتحاد الأوروبي من تحوّل النفق إلى بوابة جديدة للهجرة غير النظامية تدفعه إلى التردد، ولا سيما مع صعود اليمين المتطرف في أوروبا.
العلاقات المغربية الإسبانية نفسها توصف بأنها "علاقات بأسنان منشار"، أي أنها متقلبة، مما يجعل المشروع عرضة للتجميد عند كل أزمة دبلوماسية، خاصة في ظل احتمال فوز قوى يمينية أو يسارية متطرفة في الانتخابات الإسبانية، وهي قوى ليست متحمسة لعلاقات شراكة إستراتيجية مع المغرب.
كما أن الموقع الجيوسياسي للمضيق، ومرور قرابة 20% من التجارة العالمية عبره، يضع النفق تحت أعين القوى الكبرى التي قد لا توافق بسهولة على مشروع قد يؤثر على حركة السلع والطاقة والسلاح.
هناك سيناريوهان محتملان لمصير المشروع:
يمثل مشروع الربط القاري بين المغرب وإسبانيا حلما جيوسياسيا كبيرا يتجاوز الربح الثنائي ليصل إلى تعزيز الربط بين قارتي أفريقيا وأوروبا. وفي ظل الديناميكيات الدبلوماسية الراهنة، وتسارع الجهود التقنية، يبدو المشروع أقرب من أي وقت مضى إلى التحقق.
لكن لا يزال مصيره مرتهنا بعدة محددات، منها مدى الجاهزية التقنية، وقدرة المغرب وإسبانيا على تجاوز تقلبات السياسة، وجاهزية التمويل الأوروبي والدولي، فضلا عن العامل الزمني الحاسم المرتبط بمونديال 2030. فإذا لم يتحقق اختراق فعلي قبل هذا الموعد، فقد يعود المشروع إلى حالة الجمود، ويظل الحلم معلقًا في مهب الريح.