آخر الأخبار

البروفيسور ساري حنفي: الليبرالية الرمزية تقوض العدالة والعلمانية الفرنسية دين معاد للأديان

شارك

في حال واجهت مشكلة في مشاهدة الفيديو، إضغط على رابط المصدر للمشاهدة على الموقع الرسمي

تشهد المرحلة الراهنة تفاقمًا حادًا في الاستقطابات المجتمعية، وتبرز فيها مآلات مقلقة لما يُعرف "بالحداثة المتأخرة"، التي تتسم بانتشار السلطوية، والهشاشة الاقتصادية، والتدمير البيئي. في هذا المناخ، يصبح النقاش العقلاني صعب المنال، وتتعاظم الحاجة إلى مراجعة نقدية عميقة "لأيديولوجيا العصر"، لا سيما الليبرالية، التي يُفترض بها أن تكون حاملة لقيم العدالة والتحرر.

وفي هذا السياق، يبرز كتاب عالم الاجتماع الفلسطيني ساري حنفي "ضد الليبرالية الرمزية.. دعوة إلى علم اجتماع تحاوري" (الصادر عام 2025)، ليُقدّم نقدًا مُركزًا لما أسماه "الليبرالية الرمزية".

اقرأ أيضا

list of 2 items
* list 1 of 2 المنقذ من الضلال لأبي حامد الغزالي.. سيرة البحث عن إشراق المعرفة
* list 2 of 2 هل يمكن فصل “التاريخ” عن “التأريخ”؟ الطيب بوعزة يجيب end of list

من هذا المنطلق، يأتي هذا العمل لنقد المسار الذي اتخذته الليبرالية المتأخرة، مقترحًا نقدًا ليبراليًا ذاتيًا لمآلات الحداثة. يتناول الكتاب إشكالية "الليبرالية الرمزية" التي يصفها بأنها انحراف أملته عوامل مُحدّدة كالنيوليبرالية و"الرأسمالية العاطفية"، مما أدى إلى تبني النخب الليبرالية الكلاسيكية لقيم الحرية الفردية والمساواة ظاهريا، بينما أخلّت بمقتضيات التحول إلى الليبرالية السياسية التي تفصل بين مفهومي العدل والخير، وتهمل العدالة الاجتماعية كتوازن بين الحرية والمساواة.

وعليه، تستضيف الجزيرة نت الدكتور ساري حنفي، أستاذ علم الاجتماع بالجامعة الأميركية في بيروت، وشغل فيها منصب مدير مركز دراسات الشرق الأوسط والعالم العربي. كما شغل منصب رئيس الجمعية الدولية لعلم الاجتماع (2018-2023)، ونائب رئيس المجلس العربي للعلوم الاجتماعية (2015-2016). واعترافًا بمساهماته الكبيرة في العلوم الإنسانية والاجتماعية، انتُخب زميلًا في الأكاديمية البريطانية.

كما شغل الدكتور حنفي سابقًا منصب رئيس تحرير مجلة "إضافات" وهي المجلة العربية لعلم الاجتماع (2007-2022)، ونال عدة جوائز أكاديمية رفيعة، منها جائزة عبد الحميد شومان (2014) وجائزة الكويت في العلوم الاجتماعية (2015)، وحصل على الدكتوراه الفخرية من جامعة سان ماركوس الوطنية في بيرو (2018). من أبرز مؤلفاته: "البحث العربي ومجتمع المعرفة.. رؤية نقدية جديدة" (بالاشتراك مع ر. أرفانيتس)، و"علوم الشرع والعلوم الاجتماعية.. نحو تجاوز القطيعة، أليس الصبح بقريب"، وكذلك مؤلفه الأخير "ضد الليبرالية الرمزية".

إعلان

يُحلّل الدكتور حنفي في حواره مع الجزيرة نت كيف أن النخب الليبرالية -وخاصة صُنّاع "اقتصاد المعرفة" من صحفيين وباحثين وأساتذة- أصبحوا "ليبراليين رمزيين"؛ يدافعون عن الحريات الأساسية لكنهم يفرضون مفهومًا أحاديًا للخير، مُخلّين بمقتضيات الليبرالية السياسية التي أسس لها جون رولز. هذا الإخلال يتمثل تحديدًا في إهمال أهمية العدالة الاجتماعية والتدخل في مفاهيم الخير الفردية والجماعية، كما يظهر في قضايا العلمانية واللباس الديني.

كما يُوضّح الدكتور حنفي أن مشروعه يتناول "الحداثة المتأخرة"، التي تتميز بتفاقم الاستبداد والشعبوية، وتدمير البيئة، والتفاوت الاجتماعي الخطير الذي يطال الطبقة الوسطى. ويُفسِّر هذا التدهور بارتباط الليبرالية بمسار النيوليبرالية التي تجاوزت دورها الاقتصادي إلى قوة مُهيمنة تُسَلعِن الحياة والعلاقات، و"بالرأسمالية المشاعرية" التي عمّقت فكرة الفردانية المطلقة وخلقت وهم الخيارات، مُحوِّلة حتى علاقات الحب والحميمية إلى سلع قابلة للتبادل.

يُسلّط الدكتور حنفي الضوء على انحرافات في تطبيق الليبرالية، مثل تحوّل "العلمانية على الطريقة الفرنسية" إلى ما يشبه "دينا مُناهضا للأديان" يستقوي على الضعيف بقوانين تُجرِّم المظاهر الدينية. كما يفتح ملف تجاوز الأهداف النضالية لبعض الخطابات الحقوقية (مثل بعض أطراف الحركة النسوية أو التنوع الجندري) لتصبح سلعة مُجنّدة لخدمة أهداف تجارية نيوليبرالية، مما يخلق وهمًا للحرية ويُعيد هندسة المجتمع قيميًا وديمغرافيًا.

لمواجهة هذا الانحراف، يقترح الكتاب إطار "علم الاجتماع التحاوري" كمنهج بديل يُركّز على أسبقية العدل على الخير. لا يقتصر هذا المفهوم على مجرد "ندوات حوارية"، بل يبدأ بتعديل ميزان القوة بين الأطراف عبر "التنظيم المدني الحضري" والعمل من القاعدة إلى القمة. ويُشدّد على ضرورة تجسير الهوة بين النخب وعامة الناس عبر مناصرة المجال المدني بكل مكوناته، وتضمين التحليل الطبقي المُهمَل ضمن أي مقاربة للإشكاليات الاجتماعية.

مصدر الصورة الدكتور "ساري حنفي" أستاذ علم الاجتماع بالجامعة الأميركية في بيروت (الجزيرة)

فإلى الحوار:


*

بالنظر إلى تشابك الأفكار في هذا العمل مع إشكالية الاستقطابات الحادة للنُخَب التي تناولتها سابقاً، ألا يُمكن اعتبار هذا الكتاب امتداداً ونقداً ليبرالياً ذاتياً لمآلات الحداثة؟ وإذا كان الأمر كذلك، فكيف تُحلِّل هذه المآلات؟وما الذي تقصده تحديداً "بالليبرالية الرمزية"؟

تتسم الحداثة المتأخرة اليوم باستقطابات كبرى تُصاحبها أوضاع مُزرية تتجلى في الاستبداد، والشعبوية، وتدمير البيئة، والتفاوت الاجتماعي، والظلم الرهيب الذي يعمّ العالم. في الحقيقة، يوجه كتابي نقدًا مباشرًا للّيبراليين، وخاصة اليسار الليبرالي الذي أرى أنَّ أجوبته لأمراض هذه الحداثة كانت ضعيفة أو غير مُناسبة، وذلك بسبب انتهاكه للقيم الليبرالية التي يدّعي الدفاع عنها.

تُوصف هذه الظاهرة بتعبير "ليبراليون رمزيون" وهم ليبراليون كلاسيكيون ولكنهم سياسيا غير ليبراليين، في إشارة إلى أنهم تبنّوا المفاهيم الليبرالية الكلاسيكية، مثل الحريات الأساسية (الفردية، والتعبير، والتدين، وغيرها)، وقيم المساواة، واحترام حقوق الإنسان، والعدالة الاجتماعية، لكنهم أخلّوا بمقتضيات التحول من الليبرالية الكلاسيكية إلى الليبرالية السياسية، خصوصًا كما صاغها الفيلسوف الأميركي جون رولز. وقد أدّى هذا التحول تحديدًا إلى إهمال أهمية العدالة وفرض مفهوم أحادي للخير.

إعلان

تُعرّف العدالة الاجتماعية بالتوازن بين الحرية والمساواة. ويكمن التحدي في أن هذين المفهومين الهامين قد يتناقضان أحيانًا؛ فإذا مُنِحت الحرية للناس، يجب ألا يُسمح لهم في الوقت ذاته بالإضرار بالآخرين. على سبيل المثال، إذا سُمح لشخص بشراء كميات هائلة من الأراضي -كأن يشتري مدينة صغيرة- فإن ذلك يُخلُّ بمبدأ المساواة بينه وبين الطبقات المتوسطة والفقيرة هناك. لذا، يُعد مفهوم العدالة الاجتماعية بالغ الأهمية، وفي رأيي، قد تم تهميشه.

تتضمن الليبرالية السياسية أيضًا التفريق بين مفهومي العدل والخير. يُشير مفهوم الخير إلى رؤية الفرد للعالم: ما يرغب في ارتدائه، أو أكله، أو كيفية قضاء وقته. يتعلق كل هذا بمفهوم فردي أو جماعي للخير، وينبغي ألا تتدخل فيه الدولة، لا سيما عند وجود مفاهيم خير متنافسة أو متصارعة. فمثلًا، قد يتضمن مفهوم الخير لدى الشخص المتدين ألا يقتصر الأمر على الامتناع عن شرب الخمر، بل وألا يُسمح بيعه في بلده، بينما يحمل غير المتدين رؤية مختلفة.. هل ينبغي للدولة التدخل في مثل هذه المفاهيم؟

أدَّعي أن النُخب الليبرالية الرمزية هم صُنَّاع اقتصاد المعرفة من الصحفيين، وباحثي العلوم الاجتماعية، والأساتذة في التعليم، وغيرهم من منتجي المعرفة، و سَمَّيتُ هذه الظاهرة "بالليبرالية الرمزية".

مصدر الصورة ساري حنفي: لست معنيًا بإرسال رسالة مفادها أن الحداثة -خاصة الغربية- "معطوبة"، على غرار ما طرحه المفكر الفلسطيني وائل حلاق (الجزيرة)
*

في ضوء المنهجية التي اعتمدتها، كيف تُفسِّرُ استخدامك لمُصطلح "الحداثة المتأخرة" تحديداً، وما هي ملامحها وأبعادها؟ وهل تُمثِّل "الليبرالية الرمزية" التي تُعرِّفونها نتيجةً حتميةً للمسار الليبرالي المعاصر، أم أنها انحراف أملته عوامل مُحدَّدة؟ وما هو جوهر هذا الانحراف فيما يتعلق بالتمييز بين العدل والخير؟

سؤال جميل، يسعى مشروعي إلى تجسير الهوة بين النخب المختلفة، سواء كانت نخبًا علمانية ودينية في العالم العربي، أو محافظين وديمقراطيين في دول أخرى كأميركا، ولذلك أتجنب الخوض في إشكالية "التراث والحداثة" الشائعة. أنا لست معنيًا بإرسال رسالة مفادها أن الحداثة -خاصة الغربية- "معطوبة"، على غرار ما طرحه المفكر الفلسطيني وائل حلاق الذي أحترمه كثيرًا.

أستخدم تعبيرًا يشير إلى حينية الحداثة اليوم، وهو "الحداثة المتأخرة"، ليختلف تمامًا عن مفهوم "ما بعد الحداثة". فمفهوم ما بعد الحداثة له معنى خاص يرتبط بالانتقال من السرديات الكلية (Meta-narratives) الموجهة تاريخيًا إلى سرديات صغرى متعددة. أنا أتحدث عن الحداثة الآن، أي الحداثة المتأخرة، لا عن ما بعد الحداثة.

تظهر ملامح الحداثة المتأخرة في ثلاثة أبعاد رئيسية؛ فسياسيًا، نشهد تفاقم الاستبداد في الجنوب (وغيره)، يرافقه تصاعد الشعبوية في الشمال. أما بيئيًا، فيبرز تدمير متسارع للبيئة، إذ يُعد الاحتباس الحراري صناعة بشرية خالصة، مما جعل مجتمعنا مجتمعا كربوني (Carbon Society).

وبالانتقال إلى البعد الاجتماعي، بلغ التفاوت الاجتماعي مستوى خطيرًا، خاصة فيما يتعلق بالتوقعات المعيشية، حيث بدأ التفقير يطال شريحة واسعة من الطبقة الوسطى. ورغم أن أعداد الوفيات جوعًا حول العالم قليلة جدًا مقارنة بما كانت عليه قبل عقود (مما يعني أن المشكلة ليست نقص المجاعات)، فإن التحدي الحقيقي يكمن في أن قطاعات واسعة تعيش في مناطق طرفية مهشة، كما في دول كفرنسا، تعاني من الفقر وتعزو ذلك إلى سياسات النخبة في المدن الكبرى. ويفسر هذا الوضع نشأة حركات مثل "السترات الصفراء" في فرنسا، التي تمثل في جوهرها الطبقة الوسطى المهمشة، خلافًا لأزمات سابقة كانت تُمثَّل بالعمال (مثلا عمال المناجم الفقراء).

إعلان

أُحدِّدُ بذلك ببعض الملامح الأساسية.. لا أؤمن بوجود حركة تاريخية حتمية بالمعنى الماركسي، أي أن هذه الحداثة تحت تأثير الرأسمالية يجب أن تؤدي بالضرورة إلى ما آلت إليه. وبالمثل، لا أرى أن الليبرالية لا يمكن إلا أن تسير في مسارها الحالي.

انتقدتُ بشدة في كتابي المسار الفرداني المتوحش والمُفرط الذي اتخذته الليبرالية، لكني لا أزعم أن الآباء المؤسسين لليبرالية والديمقراطية والمواطنة -أمثال جون لوك، ديفيد هيوم، روسو، ومونتسكيو- هم مَن أنتجوا هذا الانحراف. بل أرى أن هذه الأفكار تحوّلت إلى شيء فرداني واستبدادي لا يُطاق لأسباب مرتبطة بالنيوليبرالية والرأسمالية المشاعرية (Emotional Capital). وقد أدى هذا التحول تحديدًا إلى فرض مفهوم مُعيّن للخير، وإهمال لأهمية العدالة الاجتماعية.

أربطُ تاريخ الأفكار أو الحداثة هنا -بصورة براغماتية- بمسار النيوليبرالية والرأسمالية المشاعرية. ويُعد هذان المفهومان بالغيْ الأهمية لفهم تطور الأفكار الليبرالية والحداثية.

مصدر الصورة ساري حنفي: تدخل النيوليبرالية إلى بيوتنا عبر الدعاية ووسائل الإعلام الاجتماعي (السوشيال ميديا)، مما يؤثر في أدق تفاصيل حياتنا (شترستوك)
*

كيف تجاوزت النيوليبرالية دورها الاقتصادي التقليدي لتتحول إلى قوة مهيمنة على حياتنا؟وما هي أبرز مظاهر هذا التغلغل في الأبعاد الاجتماعية والثقافية؟ وما الدور الذي لعبته "الرأسمالية المشاعرية" في تعميق فكرة الفردانية المطلقة وخلق وهم الخيارات في العلاقات الاجتماعية؟

تتجاوز النيوليبرالية كونها مجرد نظام اقتصادي يركّز على الملكية الخاصة وتراكم الثروة في أيادٍ قليلة. تشير الأرقام إلى تركّز مُخيف للثروات: العُشر الأغنى من سكان العالم يمتلكون ثلاثة أرباع الثروة العالميّة، في حين يعيش النصف الأفقر في حالة من الحرمان التام. بوضوح، لا يقتصر تركيز النيوليبرالية على سحب يد الدولة من تنظيم السوق، أو نصرة المستهلك على المصالح الخاصة فحسب، بل تغلغلت في حياتنا الخاصة والعامة.

تدخل النيوليبرالية إلى بيوتنا عبر الدعاية ووسائل الإعلام الاجتماعي (السوشيال ميديا)، مما يؤثر في أدق تفاصيل حياتنا: علاقات الحب، والصداقة، وكل شيء. لا تقتصر هذه القوة على التأثير في ذاتيتنا (Subjectivity) عن طريق الفردانية المُفرطة فحسب، بل تمتد لتشمل سَلعنة الحياة بأسرها.

تحوّل التعليم على سبيل المثال، إلى سلعة عندما يُضطر أبناء الطبقة الوسطى للالتحاق بالمدارس والجامعات الخاصة بدلًا من العامة، وهو ما يُطلق عليه تحديدًا سَلعنة المعرفة. وسيؤدي هذا الوضع إلى زيادة الاستقطابات الحادة داخل المجتمع لجماعات ونخب مفصولة لا تتحدث مع بعضها البعض.

نستذكر هنا كارل بولانيي (Karl Polanyi) في كتابه "التحول العظيم" (The Great Transformation)، حيث يشير إلى خطورة "السَلعنة الوهمية" لأشياء أساسية كالإنسان والأرض والمعرفة. لم يعد رب العمل يريد سَلعنة ساعات عمل العامل الثماني فحسب، بل أصبح يتدخل فيما يفعله العامل بعد ذلك.

مصدر الصورة كارل بولانيي في كتابه "التحول العظيم" يشير إلى خطورة "السَلعنة الوهمية" لأشياء أساسية كالإنسان والأرض والمعرفة (الجزيرة)

أدى دخول النيوليبرالية إلى فضائنا الخاص إلى ظهور ما كتبت عنه إيفا إلوز (Eva Illouz)، وسمّته "الرأسمالية المشاعرية". هذه الرأسمالية وجدت طريقة لسَلعنة حتى علاقات الحب، والحميمية، والصداقة.

نأخذ مثالًا على ذلك؛ تاريخيًا كنا نتحدث عن الحب باعتباره شعورًا غير مادي يرتكز على الانجذاب القلبي. أما اليوم، فإنه لا يسري ما لم يتضمن جانبًا ماديًا موسَّعًا؛ فقد أصبح عيد الحب يتطلب تبادل هدايا مُكلِفة. لم نعد نعيش وفق منطق مارسيل موس حول مفهوم "التهادي" الأنثروبولوجي، الذي يقوم على فكرة الإهداء ولو أن هناك توقعا بردّ الجميل. لقد أصبحت الهدية مصحوبة بتوقع واضح في القيمة والتبادل (يجب أن تُعاد بالمثل أو بأفضل منه.

ترتبط هذه السَلعنة بما يُسمى اليوم "العلاقات الاجتماعية العابرة"، فبينما كانت خيارات الفرد محدودة سابقًا (3 أو 4 أصدقاء مقربين، أو العائلة الصغيرة والكبيرة)، أصبح الشباب اليوم، وفي ظل الثقافة المُعولَمة (Global Culture) يشعرون بأنهم يمتلكون خيارات غير محدودة، ولو أن هذا الشعور زائف في بعض الأحيان. وبذلك، يستطيع الفرد أن يختار نمط حياته من الثقافة العالمية، ويُعرّف نوعه الاجتماعي (الجندر)، ويُجرِّب جنسانيات مختلفة (Sexuality)، ثم يُقيم علاقة ليرفضها في اليوم التالي.

إعلان

أظهرت الرأسمالية المشاعرية، التي تناولها زيغمونت باومان في سياق حديثه عن الحداثة والحب السائل، وكأن الفرد يمتلك خيارات، بينما هو في الحقيقة لا يستطيع الوصول إليها. لقد صرنا جميعًا نرتدي ثيابًا متشابهة ونرتاد أماكن محددة تبيعنا نفس "التصميم"، سواء كنا في الرباط، أو بيروت، أو فرنسا، أو أي مكان آخر. وقد تغلغل هذا الأمر في حياتنا بشكل واعٍ، والأخطر من ذلك هو تغلغله في اللاوعي.

يُعيدنا هذا المشهد إلى أصل الاستقطابات الحادة. فاليوم، يطرح خطاب الحداثيين أن المشكلة تكمن في التراث والعائلة البطريركية التي تفرض قيودًا على الفتاة، مثل الزواج المبكر أو منع العلاقات الجنسية قبل الزواج. لكن هذا الطرح يتجاهل حقيقة أن هؤلاء الذين يتعاشرون مبكرا في أميركا، على سبيل المثال، أكثر شيوعًا بأضعاف كثيرة مما هو عليه في العالم العربي.

يسود اليوم وهمٌ بأن المشكلة محصورة في التراث والعائلة البطريركية، بينما يتغافل الكثيرون عن دور لوبيات صناعة الأدوية في الترويج لأدوية "التحول الجنسي" (Transgenderism). ومع ذلك، لا أُنكر وجود نسبة ضئيلة ومُثبتة من الأفراد لديهم دوافع بيولوجية أو نفسية حقيقية للتحول أو لرغبات مغايرة، وهو أمر مُسلَّم به في الأبحاث العلمية.

توجد قوة مرتبطة بالرأسمالية المشاعرية والنيوليبرالية تفرض أنماطًا معينة للحياة، وتُصوِّر هذه الأنماط على أنها خيارات فردية، بينما لا يوجد في الواقع خيار حقيقي. يُطرح الأمر وكأنه أجندة "مُعدَّة مُسبقًا"، مما يخلق وهمًا للحرية.

مصدر الصورة فتاة تحمل لافتة كُتب عليها: "النسوية لا حدود لها" خلال مسيرة دعماً للمرأة في اليوم العالمي للمرأة في بلغراد، صربيا، السبت 8 مارس/آذار 2025 (أسوشيتد برس)
*

هل تشير من خلال هذا العرض إلى أن خطابات الحركة النسوية تجاوزت أهدافها النضالية والحقوقية لتصبح سلعة مُجنَّدة لخدمة أهداف تجارية نيوليبرالية؟ وهل تنطبق هذه السَلعنة على الخطابات المضادة بحيث تُقدّم هذه الخطابات جميعها كخيارات أيديولوجية ومعرفية، بينما هي في جوهرها تخدم القالب النيوليبرالي ذاته؟

أرى أن الحركة النسوية (Feminism) حركة بالغة الأهمية في مكافحة الظلم والجور الناتج عن التمييز الجندري في العديد من المجتمعات، ومن ضمنها المجتمعات العربية. لكني أشير إلى أن المشكلة اليوم لا تكمن في الحركة النسوية بشكل عام، بل في بعض أطرافها التي انبهرت بالحداثة المتأخرة لدرجة عجزت معها عن رؤية كيف تنشر هذه الحداثة أنماطًا معينة بصورة إجبارية أو مدفوعة بالبروباغندا.

أرى أنه يلزم الإقرار بوجود هذه المشكلة، ففي كتابي خصصت 4 فصول تطبيقية عقب شرح إشكاليتنا مع الليبرالية الرمزية. أحد هذه الفصول يتناول العلمانية على الطريقة الفرنسية، حيث أوضحت أن هذا التعبير لا يقتصر على فرنسا فحسب، بل يشمل توجهات بعض العلمانيين في دول أخرى، مثل المغرب الكبير أو لبنان.

تحوّلت العلمانية على الطريقة الفرنسية إلى ما يُشبه دينًا مُناهضًا للأديان، لا سيما الأديان التي تُعتبر "أجنبية" بالنسبة لفرنسا. ويُشكل اللباس -الذي يُعد جزءًا أساسيًا من مفهوم "الخير" لدى الأفراد- نقطة خلاف، إذ تفرض النخب الليبرالية الرمزية على المرأة عدم ارتداء الحجاب في الفضاءات العامة، كالمدارس والوظائف الحكومية. أوجّه النقد ذاته لإيران، فأنظر إلى فرض الحجاب وفرض عدم التحجّب بنفس الميزان النقدي. يُعد هذا مثالًا على انحراف العلمانية الفرنسية عن قيم الليبرالية الأساسية.

كما يتضمن الكتاب فصلًا عن التنوع الجندري والجنساني، وفيه أدعو جميع الدول -مهما كانت ثقافتها- إلى تبني الإعلان العالمي لحقوق الإنسان بمعناه العام، بما في ذلك عدم التمييز على أي أساس (جندري، جنساني، عنصري، إثني، إلخ)، وبالتالي قبول التنوع في المجتمع.

يَكمُنُ نقدي هنا في أننا لسنا مُضطرين لتبني نمط مُعيّن من التنوع الجنساني والزعم بأنه لا علاقة له بالثقافة. بل على العكس تمامًا، هذا الأمر مرتبط بالثقافة. وإذا كان الأمر كذلك، فمن الأهمية بمكان إدخال الثقافة في النقاش ليتحول إلى حوار مجتمعي: هل المطلوب منا أن نقبل بأن تكون الممارسات الجنسية في الفضاء العام، أم أن تقتصر على الفضاء الخاص، وذلك تجاوزًا لقبول كل أشكال التنوع؟ لا يمكننا التعامل مع هذا كرزمة (Package) متكاملة تُفرَض علينا. ولا ينبغي أن يُفهم كلامي خطأ؛ فأنا لا أنتقد وجود التنوع الجنساني في الفضاء العام، بل أشدد على أن كيفية التعبير عنه مرتبطة بالثقافة.

ساري حنفي: يجب احترام كل بنود حقوق الإنسان، ولا يجوز لمن يبرر الإبادة أن يدّعي أجندة سليمة (الفرنسية)
*

يَضمُّ الكتاب أيضًا فصلًا يتناول العائلة، أتساءل فيه: لماذا يعتقد الليبراليون الرمزيون اليوم أن موظف الخدمة الاجتماعية في الدول الإسكندنافية (تحديدًا السويد، بناءً على دراساتي المُعمقة) أقدر على تحديد مصلحة الأطفال أكثر من الآباء والأمهات في العائلة البيولوجية؟ ولماذا يُنقَل ما بين 4000 إلى 5000 طفل سويدي سنويًا من عائلاتهم رغمًا عن الوالدين، تحت حجج مختلفة؟

يجب الإقرار بأن بعض الحجج شرعية (مثل العنف المُفرط أو الإدمان)، لكننا وجدنا أن هذه الحالات تمثل الأقلية، فالأكثر شيوعًا هو الوصم الثقافي الموجه ضد المهاجرين أو القرويين، والاعتقاد بأن "الآباء لا يعرفون تربية أولادهم"، أو أنهم "لن يُنشئوا أطفالًا سويديين على طريقتنا". كما تُظهر ذلك بعض الدراسات الميدانية الإثنوغرافية كيف أن الدولة لم تعد تقبل بأن تُنازعها العائلة على هذه السلطة.

أُبيّنُ بذلك كيف بدأت الليبرالية تؤدي إلى انحرافات تسببت في ردود فعل سلبية تجاه تبنّي قيمها الأساسية. يتمثل "الفيل في الغرفة" اليوم في الإبادة الجماعية المستمرة في غزة. وعندما أُلقي محاضراتي في أوروبا، أُوجّه سؤالًا للحضور: كيف يمكن لألماني، أو جمعية تدعم حماية الحيوانات الأليفة، أو مجموعة جندرية صغيرة، أن تتجاهل مقتل 43 ألف طفل وامرأة في غزة، بينما يُرسل بلدها السلاح إلى إسرائيل وتزعم أن هذا لا يتعارض مع حقوق الإنسان؟!

ظهرت اليوم انحرافات مُخيفة.. يجب علينا ألا نختار بين قضية وأخرى، بل أطالب باحترام جميع بنود الإعلان العالمي لحقوق الإنسان. لا يمكن لأي شخص يدعم إبادة جماعية بالآلاف أن ينظر إلى مُجتمع من عشرات الأشخاص ويزعم أن أجندته سليمة؛ فهذه الأجندة غير سليمة.

يُبرز كل ما سبق هذا الانحراف.. لقد فتح هذا الإطار ملفات كثيرة. وفي الواقع، تجاوز الكتاب مجرد طرح الإشكاليات، بل اقترح بعض الحلول، وسنعود إليها بالتفصيل لاحقًا.

ساري حنفي: تفاقمت ظاهرة الإسلاموفوبيا إلى درجة خطيرة في الدول الغربية، خاصة في أوروبا وفرنسا، بل تمتد لتشمل المتدينين المسيحيين واليهود أيضًا ولكن بدرجات أقل (رويترز)
*

لقد فتحتَ ملفاً شائكاً حول العلمانية وتجاوزاتها لتصبح أشبه بدين مُعادٍ للأديان في بعض الحالات، حيث وصفت بعض النماذج التي تُعادي كل أشكال التدين وتُصعّب الحوار. فهل اقتراحك "بضرورة العلمانية اللينة أو الناعمة" يهدف إلى تطويق تأثيرات "الليبرالية الرمزية" عبر التعامل بمرونة أكبر مع الأسئلة المجتمعية؟

ننظر إلى التعددية الثقافية (Pluralism) عندما نتحدث عن الموسيقى (مثل الراب، والموسيقى الأفريقية، والشاب خالد وغير ذلك)، لكننا نغفل عن أن المجتمع يضم مُتدينين وغير مُتدينين. يُعدّ اللباس جزءًا من مفهوم "الخير" لدى المتدينين، سواء رغبت امرأة في ارتداء الحجاب أو أرادت طالبة ارتداء عباءة وهي ذاهبة إلى المدرسة في رمضان.

يُمنَعُ هذا اللباس في فرنسا بمجرد الاشتباه بأن فيه إشارة دينية محتملة، حتى بالنسبة للواتي يرغبن في النزول للسباحة بملابسهن الكاملة. لقد وصل الاستبداد لدى النُخب الليبرالية إلى درجة أنهم يستقوون على الضعيف بالقوانين، حيث يُشرَّع في فرنسا، وبشكل واضح، قانون ضد المسلمين كل شهرين أو ثلاثة.

إنّ النقاشات في البرلمان الفرنسي خلال العقد الأخير تكشف عن استهداف شبه مستمر (كل 4 أو 5 أشهر) للّباس أو حتى لتصرفات بسيطة، مثل رغبة لاعب كرة قدم في تناول تمرة عند أذان المغرب. يُقبَلُ كل التنوع، باستثناء أن يقول لك أحدهم: "أنا مُتنوع في تديّني"؛ وهذا أمر مخيف حقًا!

أصبحت هذه العلمانية استبدادية فعلاً، وبشكل واضح، فهي ليست استبدادية فقط ضد الدين "الأجنبي" كالإسلام، حيث تفاقمت ظاهرة الإسلاموفوبيا إلى درجة خطيرة في الدول الغربية، خاصة في أوروبا وفرنسا، بل تمتد لتشمل المتدينين المسيحيين واليهود أيضًا ولكن بدرجات أقل.

دَفَعَ خوف الإيطاليين على مفهوم العائلة، أو قلقهم من مرونة الجندر في لحظة ما، إلى التصويت لرئيسة الوزراء الحالية جورجيا ميلوني، فهم لا يعارضون وجود المتحولين جنسيًا أو المثليين، لكنهم يرفضون أن يُعاد تنظيم المجتمع بالكامل في غياب مفهوم أساسي للرجل والمرأة. وتُظهر هذه العلمانية اليوم -باسمها- أنها ترفض أن يُفرَض على المتدينين أي شكل من أشكال النقد للآخرين. هذا التناقض تحديدًا هو ما لا تلتفت إليه النخب الليبرالية الرمزية.

يتعين على المجتمع أن يتفق على مفهوم العدل، لأنه مفهوم بالغ الأهمية؛ فالعدل يعني أننا جميعًا مُتساوون، ولدينا حريات فردية تمنعنا من الإضرار بالآخرين، ويتضمن إعادة توزيع للثروة. كل هذا له علاقة بمفهوم العدل الذي يجب أن يتفق عليه المجتمع، بينما يُترَك مفهوم الخير للناس.


*

هل يُمكن توضيح الحد الفاصل الذي وضعتموه في الكتاب بين تقبُّل واقع التنوع الجندري، انطلاقاً من ميثاق الأمم المتحدة لحقوق الإنسان، وبين الترويج له؟ ولماذا تَرون أن هذا الترويج تحديداً يُسقطنا في أجندات نيوليبرالية تهدف إلى إعادة هندسة المجتمع وتوزعاته الديمغرافية والقِيمية بما يتجاوز خياراته؟

أستذكرُ المثال الذي ذكرتُه بالتفصيل حول كأس العالم في قطر، فقد شهدنا في الحقيقة حملة شرسة ضد قطر، وضد العالم الإسلامي بشكل عام، بسبب الموقف من المثلية. موقفي واضح بضرورة قبول كل أشكال التنوع الجندري والجنساني بغض النظر عن الثقافة، لكن ما يعنيه هذا القبول، وكيف يُترجَم قانونيًا، يرتبط بكيفية صناعة المجتمع لقوانينه، وبكيفية التعبير عن الحقوق الفردية في دول يُفترض أنها ديمقراطية. أما ما يتجاوز القبول، فيجب أن يخضع للنقاش الثقافي.

لقد عشتُ فترة في أوروبا (فرنسا)، وأجد أن بعض المظاهر السوسيولوجية هناك طبيعية في المجتمع الفرنسي مثل طريقة اللباس أو مهرجانات المثليين. وأرى أن الترويج لهذه المظاهر هناك أمر أصبح يكاد طبيعيا للأغلبية. لكن لا يمكننا أن ننتقل إلى مرحلة الترويج في بلد لا يقبل حتى مجرد القبول، فلاعب كرة قدم، على سبيل المثال، لن يُسمح له بأن يُصرَّ على وضع علم قوس قزح واللعب به؛ لا ينجح هذا الأمر.

ينطلق الفصل برمته من قصة اللاعب المغربي زكريا أبوخلال، رفض ارتداء قميص يحمل علم قوس قزح في يوم مخصص لذلك. كتب اللاعب على تويتر بوضوح: "أولا وقبل كلّ شيء أريد التأكيد أنني أحمل احترامًا عاليًا لكلّ شخص، بغض النظر عن جنسه أو خلفيّته وثقافته. الاحترام قيمة أقدّرها كثيرًا وتمتدّ إلى الآخرين، لكنّها تشمل كذلك احترام قناعاتي الشخصيّة. لذلك لا أعتقد أنني الشخص المناسب للمشاركة في هذه الحملة". يلزم هنا تسليط الضوء على الفرق بين "القبول مُقابل الاحتفاء"؛ فالفارق بينهما جوهري.

أُؤكد أن من حق الأفراد، ضمن مفهوم "الخير"، أن يعيشوا بالطريقة التي يشاؤونها. وفي المقابل، من حق العائلة، ضمن المفهوم ذاته، التي تريد أن تُربي أولادها على أن الزواج بين رجل وامرأة هو المفهوم الأساسي، وليس بين رجل ورجل.. هذا هو جوهر ما أتحدث عنه.

وَصَلَ القمع اليوم في بلد مثل بريطانيا إلى درجة أن الأهل قد يُستدعَون إذا ما علموا أن طفلهم كررَ لهم في المنزل ما قاله أهله عن تفضيل الزواج المغاير. يأتي الموظفون ليقولوا للأهل: "هذا يتعارض مع ما نُعلّمه في المدرسة بأن كل الأشكال ممكنة"، هذا التدخل منافٍ للقيم الليبرالية السياسية.

أعتبرُ تربية الأطفال جزءًا من مفهوم الخير، ومن حق العائلة أن تربي أولادها كما تشاء طالما لم تستخدم العنف. وأنا أقصد بالعنف النمط الذي يتكرر ولا يقتصر على مجرد رد فعل لحظي. لذا ينبغي أن تظل تربية الأطفال جزءًا من مفهوم الخير؛ وبالتالي لا يمكن للدولة، عبر موظف الخدمة الاجتماعية كما هو الحال في الدول الإسكندنافية، أن تكون سلطتها فوق سلطة العائلة، أو أن تحدد لها طريقة التربية.

تعود الاستقطابات الرهيبة التي تشهدها الولايات المتحدة اليوم إلى سخط اليمين على ممارسات الليبراليين الرمزيين. لقد كتبتُ هذا الكتاب قبل صعود ترامب، وأشرتُ فيه إلى أن تغيير المناهج في المدارس قد أدّى إلى اغتراب وإشكالات لدى الكثير من آباء وأمهات الطلبة.

في النرويج، أخبرتني أم -عرَّفت نفسها بأنها لا تؤمن بالدين- أنها ضد المناهج الجديدة للتربية الجنسانية والجندرية.. أرتني كتيبًا دراسيًا حول المنهاج الجديد للتربية الجنسية، يضم صورًا للعائلة بأشكالها المختلفة (رجل وامرأة، رجل ورجل، امرأة وامرأة، شخص بمفرده مع طفل.. إلخ). وقد أوضحت لي أنها لا تمانع إظهار أن العائلة تأخذ أشكالًا مغايرة، لكن يتم تقديمها بأسلوب يُضلل الأطفال؛ فاليوم في النرويج -وليس في المغرب أو لبنان- النسبة الغالبة للأسر (أكثر من 90%) هي لرجل وامرأة متزوجين. لذا، يجب أن يُوضع هذا النموذج كأساس للعائلة، وتُظهر الأشكال الأخرى كاستثناءات. يمكن الاطلاع على أطروحة الماجستير الرائعة لطالبتي اللبنانية النرويجية، ريم البيطار.

تُشير الإحصائيات في بريطانيا (لعام 2021) إلى أنّ 3. 2% فقط من سكان المملكة يقولون عن أنفسهم إنّهم جزء من مجتمع الميم (1. 9% مثلِيّ/سحاقيّة، و1. 9% ثنائي الجنس أو غير ذلك)، مقابل 89. 4% قالوا: غَيْريّ الجنس.

جَعَلَ هذا التركيز المُفرط على هذه الأقليات الصغيرة موضوع مرونة الجندر يظهر بقوة في خطاب ترامب الافتتاحي، وعندما قال إن "أميركا هي رجل وامرأة وفقط"، تضاعف التصفيق. يُبرز هذا سخط المحافظين تجاه الليبراليين الرمزيين. أرى أن الخطاب الرئاسي يجب أن يتناول قضايا العدالة، لا قضايا الخير الخلافية.

ألتزمُ بالاتساق مع ذاتي؛ لا يوجد في العلم شيء اسمه "مرونة الجندر"، بل هو مفهوم ميتافيزيقي، مثله مثل مفهوم المغايرة الجنسية (الرجل يتزوج امرأة) الذي يُعد جزءًا من الميتافيزيقا ومفهوم الخير، والذي جاء غالبًا مع الأديان. لكن ليس كل ما جاء مع الأديان يجب أن يُنبذ، وليس لأن الأسرة كانت بطريركية تاريخيًا يجب أن نُلغيها.

أنتقدُ كل هذا؛ فإذا كان الأمر يتعلق بميتافيزيقا ضد ميتافيزيقا، فهناك تنافس وصراعات بمفاهيم الخير وأدعو إلى حله من خلال الحوار المجتمعي. يتمثل دور علم الاجتماع التحاوري تحديدًا في إيجاد حلول للمناطق الرمادية بين مفاهيم الخير المتنافسة، لكن لا يمكننا أن نعتبر أن مكافحة التمييز ضد مجتمع الميم يتطلب بالضرورة أن ندرّس أطفالنا مرونة الجندر.. أرى أن هذا اغتيال لليبرالية. والكتاب، كما أوضحتُ سابقًا، هو نقد ليبرالي لكيفية تحوّل الليبراليين، وهو نقد يقوم على أساس الليبرالية نفسها، وليس باسم أي دين أو عقيدة شمولية.


*

كيف يُفسّر كتابكم الانحراف الذي أدت إليه عوامل كالنيوليبرالية والرأسمالية المشاعرية عبر سَلعنة العلاقات والتمجيد المُفرط للفرد المُطلق"؟

يتجسد الهم الأكبر للكتاب أو جزء أساسي منه، في الكيفية التي يَنعكس بها فرض مفاهيم الخير على الحقوق ومفهوم العدل. يجب أن نعي جيدًا أن هذه الطريقة لا تخدم القيم الليبرالية.

تعود أسباب هذا الانحراف، في رأيي، إلى النيوليبرالية والرأسمالية المشاعرية. فسَلعنة الحب، التي نراها في أعياد الحب وتضخيم المهور سائدة في مجتمعاتنا، حتى الفقيرة منها، ولا تقتصر على الليبراليين.

تُرسّخ سَلعنة الحب فكرة الفرد المطلق، وهو الشخص الذي يُعرِّف ذاته كفرد وحسب. وقد أصبح هناك تركيز مُفرط على أنني "ساري حنفي الفرد" الذي يريد أن يعمل ويلبس ويأكل ويشرب ويصادق ما يشاء. أضعنا بذلك حقيقة أن ساري حنفي ليس فقط فردا؛ بل هو أيضا أب لأسرة، وأستاذ لديه مسؤوليات أخلاقية تجاه الطلاب، وله صفات وأدوار أخرى. لقد أدى هذا التمجيد المطلق للخيارات الفردية إلى ما أعتبره الانحراف الأساسي في الليبرالية.

ساري حنفي: بسبب ارتفاع نسب البطالة، وتزايد تكاليف المعيشة مقارنة بالماضي، نشهد اعتمادا على العائلة أكثر بكثير مما كان قبل 50 سنة (شترستوك)
*

في ضوء التحديات التي تواجهها الأسرة والمخاطر التي تفرضها الحداثة المتأخرة والنيوليبرالية على سلطة العائلة، كيف تُحلّل التناقض الجوهري في سياسات دول الرفاه تجاه هذه المؤسسة؟ ولماذا تَرى أنه لا يمكن إلغاء الأسرة لحل مشكلاتها؟ والأهم من ذلك، كيف يمكن إيجاد توازن بين حقوق الفرد والحقوق الجماعية للأسرة؟وهل تقتضي حماية الليبرالية الكلاسيكية والمحافظة على اللحمة المجتمعية وضع حدود لضمان استمرارية القيم الأسرية دون السقوط في فخ السلطوية؟

يجب أن نُقِرّ بوجود مشاكل حقيقية في الأسرة البطريركية، بما فيها انتهاك حقوق المرأة وحقوق الأطفال الصغار من قِبل الأبناء الأكبر سنًا، أو بين الآباء والأمهات وأطفالهم. يتعين معالجة هذه المشاكل، ويجب ألا نُغفل أهمية إيجاد توازن دائم بين حقوق الفرد وحقوق العائلة، فالحقوق ليست فردية فحسب، بل جماعية أيضًا.

لا يمكن أن يكون حل مشاكل الأسرة عبر إلغاء هذه المؤسسة الاجتماعية البالغة الأهمية، لا سيما في ظل أمراض الحداثة المتأخرة والنيوليبرالية التي بدأت تقضي عليها.

تُظهر دراسات عديدة، ومنها دراسة توماس بيكيتي (Thomas Piketty) في كتابه "رأس المال في القرن 21″، أن الأبناء في فرنسا، تاريخيًا، كانوا يستطيعون إيجاد عمل والاعتماد على أنفسهم بعد سن 18. أما اليوم، فبسبب ارتفاع نسب البطالة، وتزايد تكاليف المعيشة مقارنة بالماضي، وتوقعاتنا بالعيش في مساكن مستقلة، نشهد اعتمادًا على العائلة أكثر بكثير مما كان قبل 50 سنة.

لا يمكن لأي والد اليوم أن يقول لابنه ذي 12 عامًا: "اذهب واعتمد على نفسك". فلو فعلنا ذلك في دول كالمغرب أو لبنان أو سوريا (أو حتى في دول الرفاه الغربية)، سيؤول مصير الأبناء إلى الشارع وسيصبحون بلا مأوى.

تظل الأسرة هامة حتى في دول الرفاه، مثل السويد؛ فعلى الرغم من أن الدولة هناك تفكك الأسرة بشكل مستمر، وأنها دولة غنية وتؤدي واجباتها بالكامل، فإنها لا تستطيع الحد من مشكلة المخدرات بين الشباب. وقد كان النقاش الأخير (قبل 5 أشهر) حول خفض سن المسؤولية الإجرامية من 17 إلى 15 عامًا. نحن نتحدث عن دولة رفاه قوية لا تتمكن من حل مشكلات ناجمة عن تفكك الأسرة، مع أن الدولة تلعب دورًا أساسيًا في هذا التفكك.. هذا هو التناقض الجوهري الذي أتحدث عنه. لذلك، يجب علينا اليوم أن نضمن أن سياساتنا تدعم الأسرة ولا تفككها.

وكمثالٍ سريع على هذا التغيير؛ قبل 20 سنة، كانت البنوك في دول مثل فرنسا وأميركا وكندا تُقرض الأب أو الأم لتسديد رسوم تعليم الابن الجامعية، وكان الأساس في ذلك هو العائلة. أما اليوم، فيُمنَح القرض للفرد مباشرةً وليس للعائلة. في الماضي كانت كفالة الأب لابنه تُبقي على وشائج اجتماعية قوية بينهما، بينما تحدُّ كل سياساتنا اليوم من سلطة الأسرة على الفرد.

وفي الوقت ذاته، يجب ألا نُغفل سلطة التكنولوجيا والإعلام الاجتماعي على الفرد، فلو أنهم يمنعون شركات الأدوية والغذاء وغيرها من التأثير على أطفالنا، لأمكننا أن نقول لهم: لا تتدخلوا في تربية أولادنا. لكن لا يجوز أن تُضعَف مكانة العائلة، وفي الوقت ذاته، يُتغاضَى عن كيفية دخول الرأسمالية المشاعرية والنيوليبرالية إلى بيوتنا وتفكيك الفرد ودعمه في آن واحد.

ساري حنفي: الرأسمالية المشاعرية جعلت الفرد يلجأ للمعالج بدل الأهل أو الأصدقاء لحل مشاكله (شترستوك)
*

في سياق تحليلك للساحة الأكاديمية والجامعات كنموذج لحضور "الليبرالية الرمزية" الطاغية، كيف أدى تفشّي ما سمّيته "السلاموية (Safetyism)" إلى تراجع القيَم النقدية والليبرالية داخل المؤسسات؟ وكيف تُفسّر وصول هذا المشهد إلى واقعه المرير الذي يهدد الأكاديميين صراحةً -كما نرى في السياق الأميركي بشأن الوقفات الاحتجاجية تضامناً مع غزة- لثنيهم عن الدفاع عن القضايا العادلة التي تنتمي إلى منظومة العدل والخير؟

تُفرضُ اليوم الاستقطابات المجتمعية الحادة على الجامعة، التي كانت تاريخيًا مكانًا لجعل النقاش معقولًا في المجتمع. تعاني الجامعة من مشكلة أعزوها إلى سَلعنتها وتطورها، لكن الأسباب تختلف بين الجامعات؛ فمشكلة الجامعة في فرنسا اليوم ليست السَلعنة، بل استبداد النظام السياسي والاعتداء على استقلاليتها، كما يتضح من ضغط اللوبيات الصهيونية لمنع مظاهرات الطلاب. لكن بشكل عام، لعبت السَلعنة دورًا أساسيًا في أميركا وكثير من الدول.

ساهمت الرأسمالية المشاعرية في صعود التحليل النفسي والمُعالِج النفسي. فبينما كان الفرد تاريخيًا، يذهب ويتحدث عن مشكلته مع صديقه المقرب أو أهله (والده، والدته، خاله)، سادت اليوم فكرة اللجوء إلى مُعالج نفسي.

يلعب المُعالج النفسي دورًا في ترسيخ الفردانية، فعندما تتحدث إلى أخيك عن مشكلة، فإنه يُقاربها ضمن سياق العائلة التي يعرفها، وقد يلعب دور الوسيط مع الوالد. أما المُعالج النفسي فلا يستطيع لعب هذا الدور. وفي أسوأ الأحوال، إذا لم تسر الأمور بخير، فقد ينصحه المُعالج "بقطع العلاقة"، وهي ديناميكية مختلفة تمامًا عن التواصل العائلي.

شهدنا تحولًا ملحوظًا في الجامعات.. عندما بدأتُ العمل في الجامعة الأميركية عام 2005، كانت هناك ثلاث حالات فقط سنويًا تُصنّف على أنها "تكييف نفسي". أما في سنواتي الأخيرة، فأصبح كل فصل دراسي يأتي فيه طالبان أو ثلاثة بطلب رسمي بأن يُسمح لهم بعدم الدوام دائمًا أو الحصول على وقت إضافي في الامتحان.

يُطلق على هذا "الفضاء الآمن" (Safety Space)، حيث يريد كل طالب فضاءه الخاص الذي يجب أن لا يمسّه أحد. أصبح هذا المفهوم ضد التماسك الاجتماعي وضد فكرة النقد الحر.

فاليوم، إذا أدرّس مادة عن العدالة الانتقالية وبدأتُ الحديث عن تاريخ المنطقة ودور العثمانيين، وما إذا كان ما حدث للأرمن هو إبادة جماعية أم لا، لم يعد الطلاب يقبلون فكرة أن تنظر إلى الموضوع بموضوعية. يقول لك الطالب: "أنت تُزعجني نفسيًا بموادك وتضعني في وضع سيئ"، ما يعني أنه يستطيع تقديم طلب ضدك بتهمة إعطاء مواد تسبب له إساءة نفسية.

يسودُ هذا المنطق اليوم، ويؤدي إلى انحسار فكرة الحريات الفردية. فقد تزايدت نسب إلغاء المحاضرات بسبب لوبيات تمارس الضغط ضد موضوعات سياسية أو جندرية. نحن نتحدث هنا عن خلافات حتى داخل صفوف اليسار نفسه (مثل خلافات الاتجاهات النسوية حول "الترانس" أو تمايزات حقوق مجتمع الميم بين عناصره داخليا). يوجد اليوم ضيق نفَس رهيب بسبب هذه الفردانية المُفرطة التي تُضيّع الحرية. وعندما لا نتحمل بعضنا البعض، يستطيع الطرف الأعلى أن يتدخل وينظر إلينا على أننا "زبائن يجب إرضاؤهم".

تُذكِّرنا هذه الحالة بدراسة أرلي هوكشايلد (Arlie Russell Hochschild) في كتابها "القلب المُدار" أو "إدارة المشاعر" (The Managed Heart) والتي تناولت مضيّفات الطيران اللواتي يُطلب منهن الابتسام دائمًا بغض النظر عن ظروفهن الشخصية. وبالمثل، يُطلب منا كأساتذة اليوم أن نُقدِّم مواد تُرضي جميع الطلاب ولا تتحدى أحدًا.

يُطرَدُ أستاذ من جامعة أميركية لأنه أظهر مخطوطة فارسية قديمة (من القرنين 9 و10 الميلاديين) تتضمن صورة للنبي محمد صلى الله عليه وسلم. لقد طُرِدَ الأستاذ لمجرد عرض مخطوطة صنعها مسلمون في ثقافة لم تكن ترى مشكلة في تصوير النبي.. يُبرز هذا كيف ضاق نفَس الجميع بشكل مرضي.

شهدنا أيضًا الوضع الكارثي والمكارثي في جامعة كولومبيا الأميركية، التي دفعت مبلغًا ماليًا فلكيًا كغرامة (وصل الرقم إلى 221 مليون دولار) بسبب "الوضع النفسي الصعب" للطلاب اليهود، الناجم عن هتافات المتظاهرين بعبارة "فلسطين حرة". يُعدُّ هذا أمرًا غير معقول! يشعر المرء بالخزي في الأكاديمية؛ فكيف ترضى جامعة عريقة -مثل كولومبيا- بتسويةٍ كهذه وتدفع هذا المبلغ الهائل للحكومة أو للمدّعين؟

ساري حنفي: بصفتي فلسطينيًا، أرى أن المقاومة المسلحة شرط جوهري لفتح أفق حوار مستقبلي جاد يضمن الكرامة والعدالة (شترستوك)
*

لقد تضمن كتابك نقدًا معمقًا "لليبرالية الرمزية"، مُسلطًا الضوء على تناقضاتها والأطر المنهجية التي حِيكت حولها، بعيدًا عن جوهر الأفكار الليبرالية الأصيلة. وفي مواجهة هذه التحديات التي فرضتها الليبرالية الرمزية، طرحتَفي الكتاب مفهوم "علم الاجتماع التحاوري" كإجابة لتحيدات الليبيرالية الرمزية.. كيف يُشكّل مفهوم "علم الاجتماع التحاوري" الذي تفضلت بتقديمه، إطاراً ومنهجاً بديلاً لمقاربة الإشكاليات الاجتماعية والسياسية، وكيف يعالج التحديات والقصور الذي كشفت عنه "الليبرالية الرمزية"؟

تتمحور القضية التي لاحظتها بين العديد من الباحثين الاجتماعيين -سواء في علم الاجتماع أو العلوم الاجتماعية عامة، وتحديداً في التطبيق الاجتماعي لهذه العلوم- حول اختزال مهمة الباحث في مناصرة المجتمع المدني باللحظة المعيارية الصلبة. هذا يعني أن الباحث ينتصر لما يراه تقدميًا ويُمثّل مناصرة للضعيف والمهمش، مُهملاً في غالب الأحيان لحظة أخرى أسمّيها "لحظة الوساطة" أو "المعيارية الخفيفة"؛ فالمعيارية موجودة دائماً ولا يمكن نفيها، لكنها تكون في هذه الحالة معيارية خفية.

أُوضّح ما أقصده بالوساطة بأن أبدأ بنقد الكيفية التي يفهم بها باحثو علم الاجتماع المجتمعَ المدني على أنه مجموعة متجانسة الآراء. فالمجتمع المدني لا يقتصر على الأفراد ذوي الآراء التقدمية، بل هو أوسع من ذلك، فهو المجال بين الدولة والفرد والجماعات بكل تنوع آرائهم.

أستند في هذا إلى عالم الاجتماع الأميركي جيفري ألكسندر (Jeffrey C. Alexander)، الذي نبّه إلى أن الاختزالية في هذا التعريف تُمثّل إشكالاً كبيراً. لذلك، طرح ألكسندر مفهوم "المجال المدني" (Civic Sphere) الذي أضاف للمجتمع المدني -بمفهومه التقليدي كالنقابات والمنظمات الأهلية وغير الحكومية والأحزاب السياسية المعارضة- جمعيات المصالح. وتشمل هذه الجمعيات المصالح الدينية (المسجد والكنيسة) والجماعات التجارية والعائلية، فكلها تُعتبر جزءًا من المجال المدني العام.

أرى إذن أن علم الاجتماع يجب أن يناصرَ المجال المدني بكل مكوناته؛ يتطلب ذلك التعامل مع هذه المكونات كلها وتقديم معرفة وصفية أقرب ما تكون إلى الحياد، وذلك لكي تتشكل إمكانية الحوار المجتمعي. وبعد تحقيق ذلك، يمكن الانتقال إلى المعيارية الصلبة التي ننتصر فيها للتعددية وللتعبيرات المحسوسة للإعلان العالمي لحقوق الإنسان.

أُشدّد على أن الفصل بين هذين المستويين أمر بالغ الأهمية، فنقدُنا ينشأ من كون الباحثين غالبًا ما يماهون بينهما، مما يُنسيهم المستوى الأول.

لإيضاح ذلك، أُعطي مثالًا: نسمع كثيرًا عبارة "لا حرية لأعداء الحرية"، التي يُقصد بها غالبًا الحركات الإسلامية، أي لا يمكن التحاور معها. أعتبر هذا إشكالًا كبيرًا في العالم العربي وفي دول أخرى، حيث رأيت هذا الإشكال يتكرر في سياقات مختلفة، مثل مناقشة "الحوار مع الجمهوريين" في السياق الأميركي. في الحقيقة، أرسلت رسالة مفادها أن علم الاجتماع بذلك يُصبح انعكاسًا لمتطلبات الليبراليين الديمقراطيين في أميركا، مما يمنع التحدث مع هذه الأطراف.

أذكرُ مثالًا شخصيًا هنا؛ تلقيت رفضًا لنشر مقال لي في مجلة دولية لأنني استخدمت بيانات من منظمة تُعنى بحرية الأكاديميين. وعلى الرغم من أنني استخدمت هذه البيانات بحذر شديد ووضّحت حدود استخدامها، فقد اعتُبر مجرد استخدام اسم المنظمة العريقة "Foundation for Academic Freedom" (FIRE) كافيًا للتوصية بعدم نشر المقالة، وهو ما حدث بالفعل.. تُعدّ هذه مشكلة حقيقية.

لذلك، أُشدّد اليوم على "علم الاجتماع التحاوري"، فهو علم اجتماع يؤكد على هذين المستويين. أوضّح أن "التحاور" ليس معناه ندوات حوارية؛ بل يبدأ "بالتنظيم المدني الحضري". لا يمكن أن يتم التحاور في ظل وجود تجمعات مُغلقة (Ghetto communities) أو أحياء طرفية فقيرة تتكدس فيها مظاهر الفقر، إذ لا يمكننا التحاور بين طرف ضعيف جدًا وآخر قوي.

يَجبُ أولًا التفكير في تعديل ميزان القوة قبل إجراء التحاور. ففي الفضاءات الاستبدادية، قد تكون المظاهرات والحركات الاجتماعية هي السبيل للوصول إلى نقطة يُتاح فيها التحاور، بل قد يتطلب الأمر ثورة، بما فيها الثورة المسلحة، قبل البدء في التحاور.

أتخذُ موقفًا واضحًا بصفتي فلسطينيًا، فأنا أناصر المقاومة الفلسطينية، وأرى في المقاومة المسلحة الشرط الجوهري لإمكانية إقامة حوار ذي معنى في المستقبل مع الطرف الاستعماري.

وهنا، تجدر الإشارة إلى حقيقة بالغة الأهمية: علمُ الاجتماع التحاوري لا يقوم على منطق الأبيض والأسود، كما أنه لا يعني القطيعة التامة. بل يُمكن أن ينشأ لقاء، شريطة أن يُبنى على أسس لا تتحقق إلا بوجود توازن فعلي في موازين القوى.

يُشددُ علم الاجتماع التحاوري أيضًا على أسبقية العدل على الخير.. أرى أن الرهان الأكبر لكل ناشط اجتماعي وسياسي اليوم يتمثّل في حقيقة الاشتغال على العدالة الاجتماعية. وأعتبر التركيز على هذا الموضوع أكثر أهمية من التركيز على قضايا "اللايف ستايل وحرياتنا الثقافية".

أنتقدُ في هذا السياق المقاربة التقاطعية (Intersectionality) التي بدأت على حق بهدف استكمال التحليل الطبقي بالتحليل الجندري والإثني والجغرافي وقضايا أخرى، لكنها أفضت إلى نسيان التحليل الطبقي. أقِرّ بفضل الحركة النسوية في الترويج لهذه المقاربة، التي تُنبّه عند تحليل أي ظاهرة إلى أن الظلم لا يتعلق فقط بالطبقة الاجتماعية، بل أيضًا بالجندر، والإثنية، والعرقية (حتى في حالة أميركا). ومع ذلك، ألاحظُ أننا ركّزنا بشكل كبير على هذه العوامل وأَغفَلنا التحليل الطبقي، الذي أراه بالغ الأهمية.

أَعتَقِدُ أن الحركات الإسلامية في مجتمعاتنا العربية، على سبيل المثال، ما زالت تفتقر إلى رؤية واضحة لشكل العدالة الاجتماعية. وفي هذا الإطار، أَتَساءل: كيف نتعامل مع النيوليبرالية اليوم؟ فنحن نريد جذب الاستثمارات، ولكن يَجبُ أن نعمل في الوقت ذاته على اقتصاد تعاوني جزئيًا على الأقل.

أَسألكَ -وأنت تعيش في المغرب- هل كان ممكنًا إشراك الشعب المغربي في الاستثمار بالمشاريع الكبرى مثل مشروع "نور" للطاقة الشمسية، بدلاً من الاعتماد الحصري على الأموال الألمانية وغيرها؟ هذا سؤال مشروع.

أَبْتَعِدُ عن تبسيطية الدعوة للانتقال المباشر من النظام الرأسمالي إلى الاشتراكي، وأَتفقُ مع إيريك أولين رايت (Erik Olin Wright) في أن علينا اليوم البحث عن طوباوية بديلة تِكونواقعية. لدينا أمثلة كثيرة يمكن التفكير فيها، ومن أهمها "تعاونية مون دراغون" (Corporation Mondragon) في إقليم الباسك بإسبانيا؛ تخيل حجم هذه التعاونية التي يعمل بها 81 ألف عامل، يملكها العمال ولا يوجد لها مالك، وتعمل في كل القطاعات، بما فيها الصناعة العسكرية.

لذا أرى أن علم الاجتماع التحاوري والمشروع الليبرالي التحاوري الذي أُنادي به يتطلبان التفكير بجدية في إنهاء الاستقطابات الحادة التي تُنتج شبه حروب أهلية داخل مجتمعاتنا، حيث يُدمرُ المنتصر الطرف الآخر. هذا هو الفضاء الذي أتحدث عنه.

ساري حنفي: دور المؤسسة الدينية ورجال الدين هام جدًا في الفعل الاجتماعي، لذا تُعدّ استقلاليتها المؤسسية مهمة (رويترز)
*

بالاستناد إلى نقدك "لليبرالية الرمزية"، كيف يتقاطع ويتمايز تركيزك على عدم اتساق الليبراليين في الغرب (كموضوع العلمانية وانتهاك استقلالية المؤسسة الدينية) عن نقدك لأداء المعارضة الليبرالية في الدول الاستبدادية؟ وبصيغة أخرى: كيف يمكن إحداث هذا التحاور السوسيولوجي في ظل وجود دولة تسلطية؟

يتمحور الكتاب بشكل أساسي حول نقد الديمقراطيات الليبرالية، ولكنه ينتقد أيضًا أداء الليبراليين حتى في الدول الاستبدادية؛ لذا، لم أُهمل موضوع الاستبداد أبدًا.

اهتمامي في هذا الكتاب تحديدًا مُرَكَّزٌ على عدم اتساق الليبراليين في فرنسا عندما يَمنعون الحجاب في المدارس والوظيفة العمومية، أكثر مما أنا مَعنيٌّ بكيفية فرض دول مستبدة مثل إيران للحجاب في الفضاء العام. ورغم أن الإشكالية تبدو متوازية (فكلتا الحالتين تُمثل انتهاكًا للتعددية في مفهوم الخير)، فإن الكتاب يُركز على عدم اتساق الطرف الليبرالي. لذلك، يَحْمِلُ الكتاب عنوان "ضد الليبرالية الرمزية".

أُدْركُ أن دولنا العربية الاستبدادية تفتقر إلى أدنى حد من استخدام القيم الليبرالية من قبل السلطة السياسية، بينما تحمل المعارضة مثل هذه القيم، مثل الديمقراطية ومفاهيم العدالة الاجتماعية الأخرى، وهذا هام جدًا. ولكن، أُشيرُ أيضًا إلى أن المعارضة قد تتبنى بعض أمراض الليبرالية، وهي ما أُسميه "الليبرالية الرمزية". هذا يعني محاولة فرض مفهوم الخير على المجتمع؛ فمثلاً، بعض المعارضات العربية تتخذ موقفًا علمانيا صلبا فيه قطيعة مع مجتمعاتنا العربية المتدينة، وبعضها يذهب إلى حد المناداة بمنع الحجاب في بعض الوظائف (كوظيفة المدرّسة في المدارس)، وهذا مخلّ كمن يمنع السافرة من هذه الوظائف.

أَعتبر سؤالك حول تراث الليبرالية سؤالًا بالغ الأهمية. ففي هذا التراث الليبرالي، تُعدّ الدولة هي الحَكَم الأخير (Last Resort Arbiter) عند اختلاف المجتمع. ويظهر دورها سواء أكان الاختلاف في مفهوم العدل -حيث تُجرى عملية تصويت لممثلي الشعب، ثم تحمي الدولة من خلال مؤسساتها (كالشرطة) منتجات هذا القانون- أو عندما تتصارع مفاهيم الخير في الفضاء العام وتنشأ مشكلة. لذا، تُمثِّلُ الدولة أهمية كبيرة في التراث الليبرالي.

لكن، ثمة معضلة عندما نتحدث عن دولة استبدادية. ففي هذه الحالة، لا يمكننا تطبيق الكثير مما أَطْرَحُهُ في كتاب "ضد الليبرالية الرمزية" على أداء الدولة؛ ببساطة لأنها دولة استبدادية. هنا، لا تكمن المشكلة في عدم اتساق القيم الليبرالية، بل في كون الدولة نفسها تَنْتَهكُ كل هذه القيم.

أُقَدِّمُ مثالًا لتوضيح المشكلة: أَعْمَلُ كثيرًا على موضوع العلمانية.. أَفْهَمُ العلمانية على أنها تَمايُز الديني عن السياسي، وحيادية الدولة تجاه المواطنين، وهذا يَتطلّبُ استقلالَ المؤسسة الدينية عن المؤسسة السياسية.

أَرَى أن استقلال المؤسسة الدينية هو الأهم، فأنا لستُ قلقًا على المؤسسة السياسية؛ فهي مستقلة دائمًا ولديها الجيش والشرطة. قلقي كباحث سوسيولوجي للدين مُنْصَبٌّ على استقلالية المؤسسة الدينية. تاريخيًا، اكتسبت المؤسسة الدينية استقلالها من خلال الوقف واحترام الناس.

أُدْرِكُ أن دور المؤسسة الدينية ورجال الدين هام جدًا في الفعل الاجتماعي (كالدعوة إلى مقاومة الاستبداد والاستعمار)، لذا تُعدّ استقلاليتها المؤسسية مهمة. ولكن، يجب أن تُطبَّقَ مفاهيم الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، التي قرر المجتمع تبنيها، على جميع مؤسسات المجتمع، بما فيها المؤسسة الدينية، وذلك ضمن إطار استقلاليتها نفسه.

نُسَلِّطُ الضوء على مثال حيوي: في قضايا العلاقة بين الأديان والمذاهب (مثل الدروز والشيعة والسنة)، يجب ألا تقرر المؤسسة الدينية بمفردها، فنحن لا نرضى أن يحدث في أي دولة ما يحدث اليوم في اليونان، حيث لا يمكن بناء مسجد دون موافقة البطريرك الأرثوذكسي.. هذا ليس منطقيًا.. يَجِبُ أن يكون هناك دستور لحماية كل الأديان، وبالتالي، يَحِقُّ لأي دين بناء دار عبادته دون أن يُقَرِّر الطرف المنافس ذلك.

بالمقابل، يجب ألا تتدخل الدولة في أمور الدين الداخلية.. لا يَجوز للدولة أن تُقَرر ما إذا كان الإمام يجب أن يكون رجلًا لا امرأة. كما لا يَحِقُّ للدولة -كما تفعل فرنسا- أن تُرسِلَ مُخْبِرين إلى الجوامع لِتَطْرُدَ الإمام إذا قرأ آية تذكر تعدد الزوجات؛ فلا يَنبغي التدخل في الدين.

ولكن، يَحِقُّ لها التدخل إذا كان هناك عنف أو انتهاك صارخ لمفهوم العدل الذي قرره المجتمع. فمثلاً، في أميركا، تدخلت الدولة ضد استخدام الماريغوانا في الطقوس الدينية لبعض الديانات المحلية الوثنية. بهذا المعنى، تُعدُّ الدولة هامة كحَكَم أخير، كالمحكمة العليا. ولكن، أُشَدِّدُ على أن الدولة الاستبدادية لا يمكن أن تكون آخر حَكَم، وهذه هي المشكلة الكبرى اليوم.

أَرَى أن دولًا مثل فرنسا تَنْتَهِكُ استقلالية المؤسسة الدينية الإسلامية تحديدًا، لكونها لا تَجْرُؤُ على فعل ذلك مع المسيحية أو اليهود، وتَعْتَبِرُ الإسلام دينًا أجنبيًا. وما نراه في فرنسا للأسف هو انتهاكٌ صارخٌ لاستقلالية المؤسسة الدينية. في المقابل، تُعاني دولنا العربية من قِلّة استقلالية المؤسسة الدينية عن المؤسسة السياسية. وأَعْتَقِدُ أن أي حديث عن العلمانية دون هذا الاستقلال هو حبر على ورق؛ بل هو هيمنة سياسية على الكهنة.

لذلك، يُحاورُ الكِتاب الليبراليين مُؤكِّدًا أنه إذا أَرَدْنَا أن نَلْعَبَ دورنا كليبراليين في التغيير الاجتماعي لصالح العدل والمساواة ومنع الظلم، فيجبُ أن نَحُلَّ إشكالياتنا الداخلية أولًا. وأُدْرِكُ أن المشكلة الكبيرة التي تُواجهني هي: ما علاقة هذا الكتاب بشخص يعيش في بلد استبدادي؟ وأُقِرُّ بأن الكتاب لا ينطبق على فهم الدولة الاستبدادية، ولكنه يَنْطَبِقُ على فهم سلوك المعارضة الليبرالية في مجتمعات تطمح إلى الديمقراطية (مثل سوريا ما بعد الأسد).

أُلاحِظُ شيئًا مُدهشًا؛ هناك فجوة واضحة بين الليبراليين وعامة الناس. يَنْدَهِشُ كل من يزور سوريا من الديناميكية والحيوية التي يتمتع بها الناس. في المقابل، يَتَمَسَّكُ الليبراليون بمفاهيمهم الخاصة. تَظْهَرُ اليوم أكثر من 30 مبادرة كبيرة للاقتصادات التضامنية، مثل حملة "الوفاء لإدلب"، وهي ديناميكيات مختلفة تمامًا عن الديناميكية النيوليبرالية التي يَطْرَحُونَها.

أَنْتَقِدُ في هذا السياق فهم السلطة على أنها فقط من "فوق إلى تحت"؛ بينما يَجِبُ أن نَنْظُرَ إلى السلطة أيضًا من "تحت إلى فوق". عَلَيْنا أن نعمل من القاعدة إلى القمة. لذلك، يَجِبُ أن نُسَلِّطَ الضوء على أهمية مفاهيم التضامن و"المواطنية" و"الحب الاجتماعي".. إذا أَهْمَلْنَا هذه المفاهيم، سنظلُّ فقاعة لا يراها أحد، وإذا أَرَدْتَ أن تَصِلَ تحليلاتُك للناس، تَحَدَّثْ معهم.

الجمعية الدولية لعلم الاجتماع اتخذت قرارا تاريخيا بتعليق عضوية نظيرتها الإسرائيلية، مؤكدة رفضها العنف الإسرائيلي وداعية لإنهاء الاحتلال وممارسات الفصل العنصري (مواقع التواصل)
*

كيف تقرأ الوضع في فلسطين؟ ما هي الرؤية الفكرية والأخلاقية الدافعة لموقفك من القضية الفلسطينية؟وكيف توازن بين دعمك لحق المقاومة وإعادة توازن القوى، وبين تبنيك "للمقاطعة الأكاديمية المعقولة" القائمة على الوازع الذاتي؟ وهل يمكن يوماً ما أن يكون هناك مشروع ليبرالي تحاوري سواء أكان فلسطينيا-فلسطينيا أو فلسطينيا-إسرائيليا؟

أؤكدُ أن دعوة حركة المقاومة الفلسطينية (حماس) إلى الحوار قائمة في الحقيقة منذ عام 1996، حينما أعلنت قبولها حل الدولتين. وفي هذا السياق، أَجْرَى موسى أبو مرزوق مقابلة بالغة الأهمية مع مؤسسة إعلامية هندية في 29 أكتوبر/تشرين الأول، أكّد فيها أنهم مع صوتٍ لكل إنسان موجود، قاصدًا بذلك حسب تعبيره "العربي والأعجمي أو المسلم والمسيحي واليهودي"، فأي رؤية أكثر وضوحاً من هذه؟ تنادي حماس بذلك بوضوح، ولكن إسرائيل لا تريد، لذا تختار حماس المقاومة رغم ضعفها، وذلك للرد على عنف الاحتلال وإن بأدوات عنيفة.

أَرَى أن ما يحدث اليوم في فلسطين هو محاولة لإعادة توازن القوى، بغض النظر عن فشل ذلك أو نجاحه. وأَعْتَقِدُ أن الشعب الفلسطيني، وخاصة أهالي غزة، خُذِلوا بشكل مذهل، أولا من الأنظمة العربية والإسلامية. ولكن لم يتخيل أحد هذا الانحطاط الدولي وانحطاط الديمقراطيات الليبرالية بهذا الشكل. لم يظن أحد أن هذه الدول ستقف صامتة أو مبارِكة وداعمة بالسلاح لهذه الإبادة الجماعية. وبالتالي، بغض النظر عن نجاح فعل المقاومة الفلسطينية أو فشله، أَعْتَبِرُ أن هذا التعديل لتوازن القوة كان هاماًّ جداً ليكون هناك حوار يومًا ما.

لذلك، أُفَرِّقُ في طروحاتي للمقاطعة الأكاديمية عن نظيرتها السياسية، لذا كَتَبْتُ مقالة قبل شهر تقريباً بعنوان "راديكالية ولكنها خاطئة.. دفاعاً عن المقاطعة الأكاديمية المعقولة". دَعْني أُوَضِّحُ لك موقفي؛ أنا مع كل أشكال المقاطعة المؤسساتية لنظام الأبارتايد والاستعمار الإحلالي، ولكنّ هذا لا يمنع أن نكون في مؤتمر دولي، مثلما كُنَّا في الرباط مؤخراً. وبغض النظر عن أنني ضد التطبيع المغربي مع الكيان الصهيوني بما في ذلك السماح للإسرائيليين بزيارة المغرب دون تقصي موقفهم من المشروع الاستعماري، فأنا لا أمانع حضور الإسرائيليين إذا كانوا يلتزمون بمدونة أخلاقية تشمل مناهضتهم للنظام الاستعماري على الأقل في غزة والضفة الغربية.

أُنَاضِلُ الآن بأن تُضاف "الكولونيالية" إلى الكود الأخلاقي لحضور فعاليات الجمعية الدولية لعلم الاجتماع؛ بمعنى أنه لا يقتصر الكود الأخلاقي على عدم التحرش الجنسي (وهو هام)، بل لا يمكن أيضًا أن تُؤَيِّدَ استعمارًا إحلاليًا وأبارتايد، خاصةً عندما يكون هناك احتلال مُعترف به دوليًا مثل حالة الضفة الغربية وغزة، ويُسمَحُ لك بأن تكون جزءًا من مؤتمر.

لأجل ذلك، أُؤَكِّدُ لك أن غالبية من الإسرائيليين الذين التقيتهم في الجمعية الدولية لعلم الاجتماع على مدى العقدين الأخيرين، يُعَدّونَ خصومًا أشداء -على الأقل- لدولة الأبارتايد والاستعمار الإحلالي في الضفة الغربية وغزة. فهل يُقْطَعُ حبلُ التواصل مع هؤلاء؟ بكل تأكيد لا.. أرى أنه يجب أن نستمر في الحوار معهم ما داموا ملتزمين بالمدونة الأخلاقية التي أسلفْتُ ذكرها. وحيث إنه لا توجد مدونة أخلاقية رسمية بعدُ في الجمعية الدولية لعلم الاجتماع، فإنني أتبنى كودًا أخلاقيًا داخليًا صارمًا: لن أحضر أبدًا فعالية يشارك فيها شخص يسعى للترويج لاستعمار إحلالي، سواء أكان في فلسطين أو أوكرانيا أو كشمير.. هذا الوازع الأخلاقي الذاتي هو حدودي المانعة.

لذلك، أَدْعُوكَ للتنبه إلى أن هذا الكتاب قد انطلق من مناهضة النزعة المفرطة لتقنين العلاقات الاجتماعية وتجريم الممارسات التي يقوم بها الأفراد. فبالرغم من أنني أُسْهِبُ في الكتابة عن ظاهرة الإسلاموفوبيا في أوروبا، لم أَطْلُبْ قط محاسبة المُتهمين بها أو إقصاءهم من وظائفهم؛ وهذا على النقيض مما يُمارَسُ اليوم تحت ذريعة معاداة السامية. إن هذا لَهو العبث بعينه، فمجرد انتقادك لإسرائيل يُلْصِقُ بك تهمة معاداة السامية، فتجد نفسك مُجَرَّدًا من عملك. إنه لأمر صادم ومذهل أن نرى طلابي يُطْرَدون من جامعة كولومبيا لمجرد انتقادهم لإسرائيل.. إنها حالة مروّعة تشهدها فرنسا وبريطانيا والولايات المتحدة على وجه الخصوص. انظر -مثلا في فرنسا- إلى الكم الكبير من التجريم لمن يقفون ضد الإبادة الجماعية في غزة، كما هو الحال مع الصديق العزيز عالم السياسة الشهير فرانسوا بورغا.

لأجل ذلك، يَتَحَتَّمُ علينا أن نُجَدِّدَ فهمنا لمفهوم السلطة؛ وذلك بأن نَتَأَمَّلَ كيف نَبْنِي هذه السلطة من القواعد. وعليه، كيف نُعَزِّزُ أهمية الوازع الداخلي والمساءلة الذاتية في ظل غياب أو ضعف السلطة المركزية. وفيما يخص آداب التحاور، نعودُ إلى أصوله وشروطه، فإذا انعدمت الأطر المؤسساتية المُلزِمة، فليس أمامنا سوى تفعيل وازعنا الأخلاقي والذاتي. إنَّ الأخذ بهذا الاعتبار هو الركن الأهم في معادلة الفعل والتأثير.

لقراءة المقال كاملا إضغط هنا للذهاب إلى الموقع الرسمي
الجزيرة المصدر: الجزيرة
شارك

إقرأ أيضا


حمل تطبيق آخر خبر

آخر الأخبار