في حال واجهت مشكلة في مشاهدة الفيديو، إضغط على رابط المصدر للمشاهدة على الموقع الرسمي
الموسيقى في غرب أفريقيا لم يكن دورها ترفيهيا فقط، ولم تكن وسيلة لتحسين الحالة المزاجية للإنسان ومنحه شعورًا رائعًا بالبهجة والسعادة، لكنها قامت بدور محوري في الحركات التحررية، وُظِّفَت كأداة فعالة للتعبير عن الهوية الوطنية ومواجهة الاستعمار بوسائل سلمية مما ساعد على بناء ذاكرة وطنية جماعية.
كانت موسيقى الأفرو-بيت بمنزلة مقاومة ثقافية لمحاولات طمس الهوية الأفريقية، اعتمدت في ذلك على الرمزية في الغناء لتفادي الرقابة، فدسّ المغنون في أغنياتهم رسائل خفية عكست روح المقاومة. وهكذا، لعبت الأفرو-بيت دورا أساسيا في النضال التحرري، ولا تزال تعمل على تعزيز الهوية والوحدة الوطنية.
تشير الحفريات الأثرية إلى وجود موسيقى أفريقية منذ عصور ما قبل التاريخ، إذ وُجدت لوحات من العصر الحجري الوسيط يعود تاريخها إلى حوالي 6000-4000 قبل الميلاد، تصور أشخاصا يرقصون ويعزفون على آلات موسيقية.
في بداياتها كانت الموسيقى التقليدية الأفريقية جزءًا من الطقوس الدينية التعبدية والروحية للتقرب والتواصل مع أرواح الأسلاف والآلهة الأفريقية، حسب اعتقادهم، وسيلتها في ذلك الرقص على أنغام الطبول كما في أغاني الزولو، أو كما في مديح الأسلاف والملوك "أناشيد الغريوت الطقسية" (الغريوت هو راوي قصص ومغنٍّ وموسيقي ومؤرخ شفوي) في غرب أفريقيا.
لقد جسدت الموسيقى الأفريقية التقليدية ملامح الهوية الثقافية لشعوب القارة السمراء، وقامت بدور محوري في الحياة اليومية والنشاط المجتمعي، بدءًا من الولادة والختان، وصولًا إلى الزواج والحرب والموت.
أيضا لم تقتصر على الاحتفال فقط، بل تحوي الحكايات والسرد القصصي في قوالب الغناء الجماعي، وتساعد على ذلك الطبيعة النغمية للغات الأفريقية، التي تخلق تلاحمًا فريدًا بين اللغة والإيقاع.
وتمثل هذه الأغاني أرشيفًا حيًّا للذاكرة الجماعية، يحفظ في داخله تنوع الطقوس والاحتفالات الموسمية والدينية والاجتماعية بين المجموعات الأفريقية المختلفة. وتتميّز بأساليبها التفاعلية مثل أسلوب النداء والاستجابة، وتعدد الإيقاعات، إضافة إلى عنصر الارتجال، مما يضفي عليها طابعًا نابضًا بالحياة يعكس ثراء النسيج الثقافي والاجتماعي للقارة السمراء.
وتستخدم الأغنية الأفريقية مجموعة من الآلات التقليدية الفريدة مثل الكورا، والجمبي، والمبيرا، والتي تُصنع غالبًا من مواد بسيطة ومتوفرة محليا مثل جلود الحيوانات للطبول وأمعائها لأوتار بعض الآلات، مما يعكس إبداع الموسيقيين الأفارقة في تطويع البيئة لإنتاج نغماتهم المميزة.
ورغم صعوبة حصر الموسيقى الأفريقية في مقام موسيقي واحد نظرًا لغناها وتنوعها، فإن المقام الخماسي، إلى جانب الخصوصيات الموسيقية التي تميز كل منطقة، يعتبر المقام الأوسع انتشارا لتلك الموسيقات.
ويتكون المقام الخماسي من 5 نغمات كما في موسيقى الصين وموسيقى البلوز في أميركا، وأصوات المقام الخماسي هي الأصوات الثابتة في المقام " تُحذف درجتا الفاء والسي، ذوات نصف الدرجة"، وهو أكثر المقامات انتشارا وشيوعا في الموسيقى التقليدية الأفريقية خصوصا في شرق القارة وغربها.
أما المقام السباعي فيشيع استخدامه في إثيوبيا وبعض المناطق في غرب السودان وهو مختلف عن المقام الغربي التقليدي لارتباطه بتلك الثقافات. والمقام الأخير المستخدم في أفريقيا هو المقام المعدل الذي يحتوي على نغمات بدرجات النصف وربع الدرجة داخل المقام.
شهدت الموسيقى الأفريقية تغييرات عميقة بفعل التأثيرات الاستعمارية والدينية، فقد أدت القوى الاستعمارية إلى إعادة تشكيل الأنماط التقليدية، عبر استبدال الآلات الأصلية بآلات غربية، مثل البيانو والغيتار، وفرض الإيقاعات الغربية، مما أسفر عن أنماط موسيقية هجينة مثل "الهاي لايف" في غرب أفريقيا.
وقد امتدت الهيمنة الثقافية الاستعمارية إلى اللغة، فأُقصيت اللغات المحلية لمصلحة لغات المستعمرين في النصوص الغنائية. وعلى الصعيد الديني، فرضت الموسيقى الكنسية الغربية نفسها على الموسيقى والطقوس الأفريقية.
تلك التحولات لم تقتصر على الشكل والمحتوى، بل أعادت تعريف دور الموسيقى من أداة اجتماعية وثقافية إلى وسيلة دينية، مما أثر في عمق التجربة الموسيقية الأفريقية وتنوعها.
مجمل القول إنه لا يوجد مقام موحد لكل الموسيقات الأفريقية لكن أهمها المقام الخماسي والإيقاعات المتعددة والتكرار والتفاعل المضاد داخل الغناء الجماعي، بالإضافة إلى الارتجال بمصاحبة آلات موسيقية محلية مثل الجيمبي والبالافون والكورا والمبيرا.
يشير العديد من المتخصصين إلى أهمية التفريق بين "الأفرو-بيت" بوصفه نمطًا كلاسيكيا ذا طابع نضالي، و"الأفرو-بيتس" كنوع موسيقي حديث يحتفي بالثقافة والشباب والحياة اليومية. ففي حين كان الأول منصة للاحتجاج، أصبح الثاني لغة عالمية للرقص والاحتفال والتعبير الشخصي
نشأ الأفرو-بيت -صوت الثورة والموسيقى- في أواخر ستينيات وسبعينيات القرن المنصرم في نيجيريا ، ويُعد الموسيقي الشهير فيلا كوتي الأب الروحي لهذه المدرسة.
يمزج الأفرو-بيت بين موسيقى غرب أفريقيا التقليدية والجاز والفانك والسول، ويتميز بإيقاعاته المعقدة وعزفه الطويل على الآلات الموسيقية، كلماته تحمل في طياتها رسائل سياسية حادة وانتقادات اجتماعية صريحة حيث كان صوتًا للمقاومة وأداة فنية في مواجهة القمع.
أما الأفرو-بيتس فهو نمط موسيقي معاصر نشأ في غرب أفريقيا في أوائل العقد الأول من القرن 21، ويجمع بين الموسيقى التقليدية والموسيقى الغربية ويزاوج بين الإيقاعات والألحان الأفريقية التقليدية وبين عناصر من الهيب هوب والريغي والفانك والآر إن بي وموسيقى أفرو-بيت التي أطلقها فيلا كوتي.
ويتميز بإيقاع سريع وحيوي وجذاب تؤديه الطبول وبقية الآلات الإيقاعية، والغناء فيه باللغة الإنجليزية واللهجات المحلية، وتدور موضوعاته حول الحياة والحب وقضايا الهوية.
نجح الأفرو-بيتس سريعا في تجاوز الحدود، ليصبح ظاهرة عالمية، إذ وصل إلى قوائم الموسيقى العالمية، وتعاون فيه فنانون أفارقة مع نجوم عالميين، مما أسهم في تعزيز حضور الثقافة الموسيقية الأفريقية في الأسواق الدولية.
انطلقت موسيقى الأفرو-بيتس في منتصف الألفية الثانية من قلب غرب أفريقيا، حاملة مزيجًا فريدًا من الإيقاعات المحلية والعالمية مثل الدانسهول، والهيب هوب، وآر آند بي. وسرعان ما تخطت هذه الموسيقى حدود القارة، لتلقى رواجًا كبيرًا في المملكة المتحدة وتصبح جزءًا من المشهد الموسيقي العالمي.
أسهم نجوم مثل فيلا كوتي، وبيرنا بوي، ويزكيد، ودافيدو، وتيمز، وريما، وآيرا ستار في ترسيخ مكانة هذا اللون الموسيقي عالميا، فأضحى يمثل جسرًا ثقافيا يربط أفريقيا بالعالم، ويعكس نبض الثقافة الشعبية الأفريقية من خلال الرقصات واللغة والأسلوب.
ولم تقتصر أهمية الأفرو-بيتس على البعد الفني، بل امتدت لتفتح آفاقًا اقتصادية جديدة للفنانين من خلال البث الرقمي، والجولات الموسيقية، والشراكات مع علامات تجارية كبرى. ومع تزايد التعاون العابر للثقافات، تواصل الأفرو-بيتس ترسيخ حضورها في المهرجانات العالمية وقوائم الموسيقى الرقمية.
يُعد فيلا كوتي (1938-1997) أحد أبرز رموز الموسيقى والسياسة في أفريقيا المعاصرة. وُلد في مدينة أبيوكوتا النيجيرية وسط أسرة مناضلة، حيث كانت والدته من أوائل الناشطات النسويات. درس الموسيقى في لندن، لكنه وجد صوته الحقيقي بعد تأثره بحركات النضال الأسود خلال جولة في الولايات المتحدة عام 1969.
ابتكر كوتي أسلوب "الأفرو-بيت"، وجسّد فيه مزيجًا فنيا فريدًا جمع بين الجاز، والفانك، والإيقاعات التقليدية لشعب اليوروبا، وجعل من موسيقاه أداة للنضال السياسي. تحولت أعماله إلى منصات احتجاجية لاذعة ضد الاستبداد، مثل أغانيه " زومبي " و"بيستس أوف نو نيشن".
يقول في أغنيته الشهيرة "Beasts of No Nation":
"كما ترون، هناك العديد من القادة
هناك العديد من التنكرات
حيوان في جلد إنسان وحيوان يضع ربطة عنق
حيوان يرتدي عباءة وحيوان يرتدي بدلة"
في مسرحه بمدينة لاغوس، اجتمع المهمشون حول صوته، بينما واجه حملات الدهم والاعتقالات، خاصة بعد تأسيسه ما عرف باسم "جمهورية كالاكوتا" التي هاجمتها السلطات، مما أدى إلى مقتل والدته. لم تثنه التهديدات، فتبنّى اسم "أنيكولابو" -أي "من يحمل الموت في جعبته"- رمزًا لتحديه للسلطة العسكرية.
ورغم فشله في الترشح لرئاسة نيجيريا عام 1979 واعتقاله لاحقًا، ظل فيلا كوتي أيقونة فنية وثورية حتى وفاته عام 1997. إرثه لا يزال حيًّا، ملهمًا أجيالًا من الفنانين والمناضلين في أفريقيا والعالم.
في سبعينيات القرن الماضي، أعلن فيلا كوتي استقلال مجمّعه السكني "يوتوبياه" في لاغوس تحت اسم "جمهورية كالاكوتا المستقلة"، متحديًا النظام العسكري القائم آنذاك. لم تكن كالاكوتا كيانًا معترفًا به، بل كانت مساحة بديلة للفن، والحرية، والاحتجاج، تضم أسرته وفرقته وأستوديو تسجيل وعيادة طبية.
حملت الجمهورية الوليدة طابعًا ساخرًا في اسمها المستوحى من زنزانة سجن، وجاءت كرمز صريح لرفض القمع والفساد، وسعيًا لبناء مجتمع مستقل يُعبّر عن قيم العدالة والتغيير.
غير أن هذا الحلم اصطدم بعنف الدولة، إذ شنّ الجيش النيجيري هجومًا مدمرًا عليها في عام 1977. لكن رغم زوالها المادي، بقيت "جمهورية كالاكوتا" حيّة في الذاكرة الثقافية والسياسية، تجسّد مقاومة الطغيان، وتلهم أجيالًا من الفنانين والمناضلين في نيجيريا والعالم.