برحيل المفكر الإسلامي الكبير، الدكتور حلمي محمد القاعود، ينثلم جانب كبير من ركن الأصالة والهوية، ويفقد الفكر والوعي الإسلامي المعاصر واحدًا من أبرز رموزه، وأقدر كتّابه، وأصدق رواده الأمناء الشرفاء المرابطين.
وُلد القاعود بقرية "المجد" التابعة لمركز الرحمانية بمحافظة البحيرة، يوم الخميس 3 جمادى الأولى 1365هـ/ 15 أبريل/نيسان 1946م، وحفظ القرآن الكريم في طفولته، ثم حصل أولًا على دبلوم دار المعلمين عام 1966، وعمل بعدها مدرسًا بالمرحلة الابتدائية، ثم التحق بكلية الآداب، جامعة القاهرة، فتخرج فيها عام 1977.
والتحق القاعود بدار العلوم فحصل منها على الماجستير والدكتوراه في البلاغة والنقد؛ إذ كانت دراسته للماجستير عن "مدرسة البيان في الأدب العربي"، وللدكتوراه عن "شخصية النبي -صلى الله عليه وسلم- في الشعر العربي الحديث".
انتقل بعد ذلك للعمل مدرسًا بكلية الآداب، جامعة طنطا، إلى أن أُعير أستاذًا مشاركًا بكلية المعلمين بالرياض، من عام 1989 إلى 1994، ثم حصل على الأستاذية عام 1999، وتولى رئاسة قسم اللغة العربية بآداب طنطا من عام 1999م حتى 2002م.
أبدع الدكتور حلمي القاعود نتاجًا ضخمًا، يقارب 100 كتاب، امتدت على مسطرة الثقافة العربية والإسلامية المعاصرة في مجالات الأدب، والنقد، والفكر، والفن، والثقافة، والسياسة، والتاريخ، والرواية، والقصة، واليوميات.
فقد أبدع 37 كتابًا حول الأدب والنقد، والدراسات البلاغية المتخصصة. وحول الإسلام والسياسة، قدم 36 كتابًا، تناولت سائر شؤون اشتباك المسلم المعاصر مع الشأن السياسي في الداخل والخارج، من زوايا الرصد الإسلامي الوسطي الأمين.
كما أصدر الدكتور القاعود دراسته الصحفية المتخصصة، "الصحافة المهاجرة: رؤية إسلامية"، التي صدرت عام 1992، والتي عُنيت بظاهرة هجرة الصحافة العربية إلى لندن وباريس وروما وقبرص، ورصدت توجهاتها وقضاياها التي عالجت من خلالها الواقع العربي الشديد الارتباك في تلك الفترة.
كذلك صدر له في قصص الأطفال، مجموعته "من واحد إلى سبعة" التي صدرت ملحقة بالعدد 174 من سلسلة كتاب "قَطْر الندى" الصادر عن الهيئة المصرية العامة للكتاب، إلى جانب مجموعتين قصصيتين، و3 مدونات من أدب السرديات، و4 كتب من التحقيقات والتوثيقات.
للدكتور حلمي القاعود عدة دراسات محورية في مجالها، من أهمها كتاباته في مجال تخصصه العلمي، في الأدب والنقد والبلاغة، مثل:
"تيسير علم المعاني".
"مدخل إلى البلاغة القرآنية".
"مدخل إلى البلاغة النبوية".
وكتابه الفاصل "الورد والهالوك" حول شعراء السبعينيات في مصر، الذي نُشر عدة مرات عن دار الأرقم بالزقازيق عام 1999، ودار الاعتصام بالقاهرة عام 1998، ودار العلم والإيمان بدسوق عام 2008.
كانت هذه الدراسة بمثابة صدمة لشعراء الحداثة وعصابات قصيدة النثر، وكانت بمثابة الفرز والتجنيب الرياضي الذي أثبتت الأيام صحة وجهة نظر القاعود العلمية فيها تمامًا؛ فكل من رشحهم للصعود وكانوا من "شعراء الورد" كانوا كذلك فيما بعد، وكل من رشحهم للسقوط وكانوا من "شعراء الهالوك" كانوا كذلك أيضًا، ولم تغادر نظرته شخصًا واحدًا من الفريقين، و"الهالوك" نبات متطفل ينمو بجانب الزروع الأصلية كالفول مثلا ويضعفها.
كذلك كانت دراساته المنهجية المؤسِّسة، مثل: "الواقعية الإسلامية في روايات نجيب الكيلاني"، و"الأدب الإسلامي.. الفكرة والتطبيق"، ضمن أهم مرتكزات الأدب الإسلامي المعاصر، الذي كان القاعود أحد رواده الأوائل، منذ أيام طرح الفكرة، وإنفاذها رابطةً ومسيرةً ونهجًا، تنتشر فروع شجرته في أحد عشر قُطرًا من أرض الله.
ربما تفرض علينا تلك المسيرة الطويلة العريضة للدكتور حلمي القاعود، أن نوجز القول فيها في نقاط:
أولًا: حققت مسيرة الدكتور حلمي القاعود تلك المعادلة الصعبة، وهي الانطلاق إلى الشهرة والعالمية من مركز دائرة المحلية. فالدكتور القاعود لم يغادر قريته الأم "المجد" -مركز الرحمانية، محافظة البحيرة- من أول يوم إلى آخر يوم في حياته، على الرغم من بُعد المسافة؛ فهذه القرية تبعد عن القاهرة أكثر من 150 كيلومترًا.
ومن المعروف أن القاهرة هي صانعة الرموز والأضواء، وهي مركز حراك الثقافة المصرية والعربية بشكل أساسي. على الرغم من ذلك، فقد حصل على جائزة مجمع اللغة العربية عام 1968، وجائزة المجلس الأعلى لرعاية الفنون والآداب عام 1972، وجائزة التميز في النقد الأدبي من اتحاد كتّاب مصر عام 2020، وغيرها من الجوائز وشهادات التقدير، وهو لم يغادر قريته من المهد إلى اللحد.
ثانيًا: بدأ الدكتور حلمي القاعود حياته باحثًا في كنف الشعر والقصة والرواية، فقد عمل لفترة سكرتيرًا لتحرير مجلة "الشعر"، كما كان من أوائل إصداراته قصة حياة الأديب الكبير محمد عبد الحليم عبد الله، التي صاغها في صورة روائية بعنوان "الغروب المستحيل"، وبها بدأ تعرُّفه القريب لمحمد عبد الحليم عبد الله، الذي كان يعمل مديرًا عامًّا بالمجمع اللغوي، الذي ذهب إليه القاعود عام 1974 ليتقدم لمسابقته التي فاز بها في العام نفسه.
ثالثًا: عمل الدكتور القاعود مدرسًا بكل مراحل التعليم، فقد ارتقى سلم التعليم من أول درجة إلى آخر درجة، فعقب تخرجه من دار المعلمين، عمل معلمًا بالمرحلة الابتدائية، ثم بعد حصوله على ليسانس الآداب، عمل بالمرحلة الإعدادية ثم الثانوية، ثم بعد حصوله على الدكتوراه، انتقل إلى التدريس بالجامعة.
ومن أول عمله كمدرس إلى الأستاذية بالدراسات العليا، انخرط في الصحافة الإسلامية بشكل تام، كأنما كان متفرغًا لهذا المجال عاكفًا عليه؛ فقلما تجد صحيفة أو مجلة إسلامية، من المغرب إلى الهند، لم يكتب لها القاعود، حتى إن الكثير من الصحف والمجلات كانت تعتبره ضمن هيئة تحريرها الأساسية.
فقد كتب لـ"الاعتصام"، و"الدعوة"، و"الوعي الإسلامي"، و"منار الإسلام"، و"المجتمع"، و"الشعب"، و"آفاق عربية"، و"البعث الإسلامي"، و"المشكاة"، و"الأدب الإسلامي"، و"المحجة"، كما كتب بـ"الأهرام"، و"الأخبار"، و"الجمهورية"، و"الهلال"، وغيرها من الصحف والمجلات، لأكثر من 60 عامًا متواصلة.
رابعًا: بدأ الدكتور حلمي القاعود حياته كبيرًا، مسايرًا للكبار في كل مسيرته، حيث قام وهو طالب بدار المعلمين، بمشاركة زميله الذي سبقه بعامٍ دراسي، السيناريست الكبير محمد جلال الغلبان الذي عُرف فيما بعد باسم (محمد جلال عبد القوي)، في إعداد وتقديم الإذاعة المدرسية بدار المعلمين بدسوق، ثم ساير الصف الأول من كل الكُتاب الإسلاميين الذين عايشهم وعاش معهم وبهم.
خامسًا: عُرف عن الدكتور القاعود شدة الصبر، والمراس والتحمل، وهكذا صارت حياته جميعًا، فقد أجبرته على أن يكون صبورًا في كل شيء. فحين ذهب ليتقدم إلى الجامعة بعد حصوله على الثانوية العامة، جُنِّد بالقوات المسلحة عقب نكسة 1967 ليظل فيها 6 سنوات كاملة، ويخرج عام 1974 بعد تحقيق النصر.
أثمرت هذه المرحلة روايته التي تُعتبر من الأعمال الأدبية الجيدة عن حرب أكتوبر/تشرين الأول، "الحب يأتي مصادفة"، التي صدرت عن دار الهلال عام 1976. ثم واصل دراسته وهو بالقوات المسلحة، ومراسلته للأدباء والكُتاب في المشارق والمغارب، حتى إنه في الوقت الذي كان فيه طالبًا، كانت قد صدرت له أكثر من 4 كتب متخصصة.
سادسًا: بدأ حياته روائيًّا بروايته "الغروب المستحيل" عن سيرة محمد عبد الحليم عبد الله، بتقديم من يوسف الشاروني، ثم صدر له فيما بعد 12 عملًا روائيًّا، ومجموعتان قصصيتان، ومجموعة لقصص الأطفال، إلا أن ضخامة إنتاج القاعود وغزارة عطائه، ظلمته كروائي، فلم ينتبه أحد إلى هذه الأعمال المتميزة، التي تقيم منه أديبًا روائيًّا قديرًا. كذلك، فإن معظم رواياته صدرت عن دور نشر متخصصة، وكانت تستوجب وقفة من الدارسين لهذا الجانب المظلوم من حياة هذا الراحل الكبير.
سابعًا: هناك جانب مظلوم آخر من جوانب عطاء هذا العلم الجليل، ألا وهو إسهاماته الوفيرة في وسائل الإعلام المتعددة من إذاعة وتلفزيون في الداخل والخارج، خاصة "إذاعة القرآن الكريم من القاهرة" التي كان ضيفًا كبيرًا في العديد من برامجها، لا سيما برنامج "بلاغة الرسول" الذي يعده ويقدمه الزميل القدير الدكتور عبد الله الخولي.
كما كان ضيفًا كبيرًا البرنامج الشهير "قصة في حديث" للإذاعي الكبير الزميل الصديق رجب خليل، الذي كان أول من استضافه عام 1993، إلى أن توقف البرنامج عام 2014. وقد أصدر الدكتور القاعود معظم هذه الحلقات في كتاب ضخم من 4 أجزاء، تحت عنوان "قصة وحديث" عن مكتبة دار الصحابة بطنطا.
ثامنًا: كان الدكتور حلمي القاعود يقيم علاقات أدبية وثقافية كاملة من خلال المراسلة البريدية، تلك الوسيلة التي كانت معهودة في ذلك العهد. فقد أقام علاقاته المتينة مع الأديب السوري الكبير فاضل السباعي، و"نجيب محفوظ سوريا" الدكتور عبد السلام العجيلي، وغيرهم، من خلال هذه المراسلات البريدية، بما يجعل من رسائله المخطوطة مكنزًا أدبيًّا وثائقيًّا (والتي كان بعضها بيني وبينه، من حسن حظي).
عاش الدكتور حلمي القاعود حياته كلها، من أول يوم إلى آخر يوم، وهو يمثل درعًا واقية للأمة، مع ذلك الفريق الكبير من حماة الثقافة ورعاة الهوية، من أمثال أنور الجندي، وعبد الحليم عويس، ومحمد عبد الله السمان، وعماد الدين خليل، ونجيب الكيلاني، والدكتور مصطفى محمود، ومحمد جلال كشك، وعادل حسين، وغيرهم وغيرهم.
وقد امتاز الدكتور حلمي القاعود بانتقاله بفن المقال الإسلامي من مجرد الحديث عن الإسلاميات والأخلاقيات وتعاليم الدين ومفاهيمه، إلى الشارع السياسي العام والمجريات اليومية الساخنة، وحديث المواطن بين اليوم والليلة، واشتباكه مع شؤون الدين والحياة. فكان مقاله قطعة حية من صناعة الحياة، يجد المسلم فيه بوصلته وسلواه وهداه.
وهكذا كانت معظم كتاباته الإسلامية عبارة عن منازلات في الأرض المكشوفة، مثل "الحرب الصليبية العاشرة"، و"دفاعًا عن الإسلام والحرية"، و"تحرير الإسلام"، و"الإسلام في مواجهة الاستئصال"، و"حراس العقيدة"، و"مسلمون لا نخجل"، وغيرها من مئات المقالات والدراسات.
لعل الدكتور حلمي القاعود قد أراد أن يختصر فلسفته وعطاءه في صياغة سيرته الذاتية، التي أصدر منها 3 أجزاء، على هذا النحو الذي ينتظم خارطته الثقافية الواعية، كالتالي:
الجزء الأول: (زمن البراءة) النيل بطعم الجوافة.
الجزء الثاني: (زمن الهزيمة) النيل لم يعد يجري.
الجزء الثالث: (زمن الغربة) النيل لا طعم له.
الجزء الرابع: (زمن الوداع) النيل يودع أحبابه.
وقد صدرت جميعًا عام 2015.
هذا، وقد صدق صديقه الدكتور عبد السلام البسيوني، الذي حيّاه عند بلوغه السبعين بقصيدة طويلة منها:
تمشي وحدك
كأبي ذرٍّ تمشي وحدك
تهدر وحدك
تلعن أم الباطل وحدك
تجبه كالأسد الضاري..
عار الطاغوت
وتواجه بالصدر العاري..
فرعون.. سهام الجبروت
وتجندل.. يا قولة حق..
أصنام الكهنة والكهنوت
يا قلمًا منضودًا من سجيل
يا لغةً لا تعرف للمَيْنِ سبيل
يا جيش رجوم..
من طيرٍ تنقضُّ أبابيل
كما نعاه ولده الكاتب الصحفي الدكتور محمود القاعود، على لسان إيليا أبي ماضي، في قصيدة طويلة منها:
أبي.. وإذا ما قلتها فكأنني
أنادي وأدعو: يا ملاذي ويا ركني
لمن يلجأ المكروب بعدك في الحمى
فيرجع ريان المنى ضاحك السنِّ
فذهنٌ كنجم الصيف أولى الضحى
ورأيٌ كحد السيف، أو ذلك الذهنِ
وكنت ترى الدنيا بغير بشاشة
كأرضٍ بلا ماء، وصوتٍ بلا لحنِ
جريءٌ على الباغي، عيوفٌ عن الخنا
سريعٌ إلى الداعي، كريمٌ بلا مَنِّ
وهكذا، عاش القاعود حياته كلها، على مستوى الكلمة والفكرة والجامعة، وهو شوكة في حلوق الطابور الخامس في كل مكان، يعرّيهم ويجلدهم، ويجعل غزلهم أنكاثًا، وبُنيانهم أجداثًا.
رحم الله الأكاديمي الكاتب المفكر القدير، الدكتور حلمي القاعود، رحمة واسعة، وجزاه عما قدم خير الجزاء، وتقبله في الصادقين السابقين.