آخر الأخبار

الإقطاعيون الرقميون.. من فلاحة الأرض إلى حرث البيانات

شارك

في أحد أكثر المشاهد رسوخًا في ذاكرة السينما العربية، يمدّ محمد أبو سويلم -الفلاح المصري البسيط الذي قام بدوره الممثل الكبير محمود المليجي- يده المرتجفة ليمسك حفنة من تراب أرضه التي تُنتزع منه قسرًا، لكنه يرفض أن يتركها. لم تكن الأرض عنده وسيلة للبقاء فقط، بل كانت هوية، وجذرًا، وكرامة لا تقبل المساومة.

مشهد "الأرض" ليوسف شاهين لم يكن مجرد دراما، بل هو تشريح لصراع يتكرّر في كل عصر. واليوم، وبعد أكثر من نصف قرن، يعود الصراع ذاته لكن في ساحة أخرى.

لم تعد الأرض ترابًا تحت الأقدام، بل صارت رقعة رقمية نعيش فيها، ونعمل، ونُعرّف بها أنفسنا. واليد التي تنتزعها اليوم ليست يد سلطة أو إقطاعي قديم، بل خوارزمية خفية صمّمتها شركات لا نراها، لكنها تعرف عنا كل شيء.

الأرض ما عادت تُحرث بل تُجمع، والمحصول لم يعد قمحًا بل بياناتك وأنت الفلاح المسكين، لا تدري ما الذي يُسلب منك كل يوم، أما الإقطاعي فلم يعد الرجل الجالس على صهوة حصانه، بل طبقة من الأثرياء الجدد تجلس على خوادم عملاقة، وتحصدك وأنت تبتسم.

ومن لم يشعر بانتزاعها، فربما لأنه يعيش داخلها… لا يراها تُفلت من بين يديه، لأنه لم يعد يلمسها أصلًا.

مصدر الصورة فيلم "الأرض" لم يكن مجرد دراما بل هو تشريح لصراع يتكرّر في كل عصر بأشكال مختلفة (مواقع التواصل الاجتماعي)

من أرض الواقع إلى أرض الإنترنت.. ولادة الحلم الرقمي

قبل أن نُساق إلى مزارع البيانات الكبرى، كان الإنترنت حلمًا صغيرًا بحجم حرفين، هما "lo".

ففي 29 أكتوبر/حزيران 1969 أُرسلت أول رسالة عبر شبكة "آربانت" (ARPANET)، ولم تصل كاملة بل وصل منها حرفان فقط من كلمة "login"، لكنها كانت كافية لإطلاق ثورة هادئة، ستعيد تشكيل العالم.

في 1989 ابتكر تيم بيرنرز لي الشبكة العنكبوتية العالمية، وأطلق أول صفحة ويب في 1991. لم يكن يسعى إلى الربح، بل إلى مساحة مشتركة لتبادل المعرفة، خارج حدود السوق والسياسة.

وأيضا في ذلك الزمن، وُلد لينكس، وظهرت ويكيبيديا، وازدهرت حركة البرمجيات الحرة. حتى القراصنة الأوائل لم يكونوا مجرمين بل فلاسفة رقميين يرون أن الأنظمة يجب أن تُفكك ليس بهدف التخريب بل لتُفهم.

لقد كانت شبكة الإنترنت حينها تُشبه أرضًا مفتوحة؛ بلا أسوار، بلا ضرائب، بلا حرّاس أو بوابات. لكنها لم تكن محصّنة، فقد بدأ الحصاد مبكرًا، حين اكتشف البعض أن الحلم يمكن تخزينه، وبيعه، واحتكاره.

مصدر الصورة تيم بيرنرز لي مبتكر الشبكة العنكبوتية العالمية لم يكن يسعى إلى الربح بل إلى مساحة مشتركة لتبادل المعرفة خارج حدود السوق والسياسة (رويترز)

بناء السور حول الأرض الرقمية

أين بدأت المزارع تُسوَّر؟ لم ينتبه أحد. كانت التطبيقات سهلة، والخدمات مجانية، والوصول أسرع. لكن ما بدا أنه حرية كان في الحقيقة أول سور يُبنى حول "الأرض المفتوحة".

إعلان

مع دخول الألفية الثالثة تسارعت التحولات، ففي 2004 وُلد فيسبوك ، وفي 2005 ظهر يوتيوب ، ثم اشترته غوغل في 2006 وفي 2007 غيّر الآيفون علاقة الإنسان بالشبكة فقد أدخل الإنترنت إلى جيب المستخدم، والجيب المفتوح أغرى الإقطاعيين الجدد ففيه ما هو أغلى من الذهب؛ بيانات تُحصد بلا حرث.

لم تكن هذه الثورة تقنية فقط، بل كانت بنيوية، من شبكة متفرعة مفتوحة إلى منظومة مغلقة تديرها منصات عملاقة. بدأ الاستحواذ يبتلع المنافسين، إنستغرام وواتساب تحت مظلة ميتا، أندرويد ويوتيوب ضمن غوغل، أمازون تهيمن على السحابة، ومايكروسوفت تتحول إلى إمبراطورية أعمال.

مصدر الصورة بحلول العقد الثاني من القرن أصبحت الشركات الخمس الكبرى تتحكم في مفاصل الاقتصاد الرقمي (مواقع التواصل الاجتماعي)

بحلول العقد الثاني من القرن أصبحت الشركات الخمس الكبرى تتحكم في مفاصل الاقتصاد الرقمي، وفي 2023 وحده قفزت الشركات التي تعرف بـ"العظماء السبعة" بقيمتها السوقية أكثر من 800 مليار دولار في أسبوع. فهل هذا نمو أم احتكار بهيئة ابتكار؟

لكن الأخطر لم يكن في الأرقام، بل في السلطة الجديدة إذ لم نعد نعيش على الإنترنت، بل نعيش داخله؛ تمامًا كمن يسكن بيتًا لا يملك مفاتيحه ولا يعرف من يراقبه.

الأرض الرقمية تحت سيطرة الإقطاعيين

لم يكن أبو سويلم بحاجة لفهم قوانين السوق ليعرف أن أرضه تُنتزع، واليوم لا يحتاج الفلاح الرقمي إلى قراءة عقود الاستخدام ليُدرك أن هناك من يحصد ما يزرع.

هنا يبرز توصيف الاقتصادي الفرنسي سيدريك دوران لما نعيشه باسم "الإقطاع التكنولوجي" أو كما يسميه أحيانًا "المنطق الفئوي الجديد"، ودوران هو أستاذ اقتصاد في جامعتي السوربون وجنيف، وأحد أبرز المفكرين في نقد الاقتصاد الرقمي المعاصر.

وقد اشتهر بكتاباته عن التحولات الاقتصادية المرتبطة بصعود التكنولوجيا والمنصات الرقمية، ومن أشهر أعماله كتاب "الإقطاع التكنولوجي: نقد الاقتصاد الرقمي" .

دوران يرى في هذا النظام أن الشركات لم تعد تنتج كما في الرأسمالية الكلاسيكية، بل تُقيم سورًا حول الأرض الرقمية وتحصل على الريع من كل من يعيش داخلها.

وهو يطرح فكرة أن الاقتصاد الرقمي، خاصة مع هيمنة الشركات التكنولوجية الكبرى، يعيد إنتاج علاقات اجتماعية واقتصادية تشبه في جوهرها علاقات الإقطاع التقليدي، لكن بصيغة معاصرة.

ويمكن تلخيص المنطق الفئوي في النقاط التالية:

الاحتكار الرقمي: تحولت شركات التكنولوجيا من مشاريع ناشئة إلى كيانات احتكارية تسيطر على تدفقات المعلومات وتفرض تبعية على المستخدمين والشركات الأخرى، كما كان النبلاء يسيطرون على الأراضي والفلاحين.

العلاقة التبعية: يصف دوران العلاقة بين المستخدمين والمنصات الرقمية بأنها علاقة "عبودية" جديدة، حيث يصبح الأفراد والشركات معتمدين كليا على المنصات الرقمية، ويصعب عليهم التحرر من هذه التبعية، تمامًا كما كان الفلاحون مرتبطين بأراضي النبلاء.

الريع الرقمي: لا تنتج المنصات الرقمية شيئًا ماديًّا بحد ذاتها، بل تفرض ريعا من خلال امتلاكها لمواقع إستراتيجية في تدفق البيانات والمعلومات، وتحقق أرباحها من خلال استخراج البيانات وبيعها أو استغلالها، وليس من الإنتاج المباشر كما في الرأسمالية الصناعية.

إعلان

السيطرة والسلطة: تمتلك الشركات الرقمية سلطة تتجاوز في بعض الأحيان سلطة الدول، وتتحكم في مصائر المستخدمين وحتى في الشركات التقليدية، بما يعيد إنتاج منطق السيادة الإقطاعية بشكل جديد.

مصدر الصورة الاقتصادي اليوناني يانيس فاروفاكيس (يمين) والاقتصادي الفرنسي سيدريك دوران كانا أول من حذر من الإقطاع الرقمي (مواقع التواصل الاجتماعي)

ويُكمل الاقتصادي اليوناني يانيس فاروفاكيس هذا التصوّر حين يميز بين الرأسمالية التي كانت تحقّق الربح والإقطاع الذي كان يجني الريع، فيقول "في عالم أمازون وغوغل، لم تعد القيمة تُنتج عبر السوق، بل تُستخرج من السيطرة على البنية ذاتها".
إنه اقتصاد "الإيجار" لا "التبادل"، حيث لم تعد المنصات تبتكر لتبيع، بل تحتكر لتُؤجر، وتتحول إلى "إقطاعيات سحابية" تُحكِم قبضتها على المعرفة والقرار والسلوك. "نحن لا نملك أدواتنا، بل نعيش في أرض يملكها الإقطاعيون الجدد، ويقررون فيها من يدخل، ومن يُطرد، وماذا يرى، وماذا يُمنع".

ما يطرحه المفكران ليس استعارات شعرية، بل حقائق يمكن لمسها يوميا في مجالات متنوعة منها:


* البنية التحتية حيث أمازون، وغوغل، ومايكروسوفت تهيمن على الحوسبة السحابية وتشغل خوادم العالم.
* البيانات الشخصية؛ فميتا وغوغل تمتصان بياناتنا وتعيدان تشكيل قراراتنا.
* خوارزميات تيك توك ويوتيوب تقرر ما نراه ومتى، من دون تفسير.
* كل هذه الشركات لديها غريزة طبيعية لقتل المنافسة والاستحواذ والابتلاع السريع لمنع أي بديل من التنفس.
* الاحتكار الناعم وخصوصا الذي تمارسه آبل والذي يجعلها تتحكم في واجهات السوق، وتفرض نسبها على من يحاول البيع.

لقد أعيد تشكيل المشهد الرقمي، فالمستخدم أصبح الفلاح الجديد، لا يرى الأرض التي يعمل فيها، ولا يعرف سيدها. فكل ما أمامه شاشة، وخلفها بوابة مغلقة.

حين تتقن الرأسمالية التنكر.. نظام جديد أم وجه قديم؟

هل ما نعيشه اليوم هو نظام جديد أم مجرد نسخة متوحشة من الرأسمالية القديمة؟

المفكرون الذين صاغوا مفهوم "الإقطاع التكنولوجي" يرون أن ما يحدث ليس تطورًا طبيعيًّا، بل طفرة في السيطرة، إذ لم تعد القيمة تُنتج، بل تُستخرج من السيطرة على البنية التحتية، ومن التراكم الخفي للبيانات، ومن تصميم القواعد لا التلاعب بها.

في المقابل، هناك من يرى أن هذا ليس نظامًا جديدًا بل مجرد احتكار كلاسيكي بأدوات عصرية. فالرأسمالية لم تنتهِ، بل استعارت قناعًا رقميًّا.

ومع ذلك، تبقى الحقيقة الصلبة أن هذه الشركات أصبحت تمتلك سلطة لا يشبهها شيء في التاريخ الاقتصادي الحديث. أدواتها -من الخوارزميات إلى الذكاء الاصطناعي- لا تُرى، ولا تُفهم، لكنها تقرر كل شيء: ما نقرأ، من نحب، ماذا نشتري، ولمن نصوّت.

هكذا، يجد المستخدم نفسه داخل منظومة لا يملك مفاتيحها، ولا يراها بوضوح، تمامًا كمن يسكن قصرًا من زجاج لا يعرف أين بابه.

الوعي أول الحصاد

في مواجهة هذا الإقطاع الناعم، بدأت بعض الأصوات تعود إلى جذور الحلم الرقمي الأول. فالاتحاد الأوروبي مثلًا يقود ثورة تشريعية مضادة، بقوانين مثل اللائحة العامة لحماية البيانات والمعروفة اختصارا "جي دي بي آر" (GDPR) وتشريعات الخدمات الرقمية، تُحاول كسر احتكار البيانات وردّ السيادة إلى أصحابها.

وهناك دعوات متصاعدة لتفكيك الشركات العملاقة، وفصل خدماتها كما فُككت شركات النفط والسكك الحديد في القرن الماضي.

على الهامش، تنمو بدائل لامركزية: أنظمة مفتوحة المصدر، وتطبيقات لا تبيع بياناتك، ومجتمعات رقمية تؤمن أن الشفافية ليست خيارًا بل هي حق.

لكن الحقيقة القاسية تبقى أن كل هذا لن ينجح ما لم توجد إرادة سياسية، وضغط مجتمعي، وتحالف بين من يرفض أن يُحصد بصمت.

فالمسألة لا تتعلق فقط بالتنظيم بل باستعادة الأرض، الأرض الرقمية التي لا تُروى بالماء بل بالمعرفة، ولا تُحرث باليد بل بالوعي.

إعلان

حفنة التراب الرقمية

في نهاية فيلم "الأرض"، يمدّ أبو سويلم يده نحو التراب وهو يُسحب بعيدًا. لا يقاوم بالسلاح، بل بالإصرار على التمسك بما هو حق. تلك اليد المرتجفة لم تكن ضعيفة، كانت آخر جدار في وجه قوة السلب.

واليوم، ونحن نُسحب من أرضنا الرقمية؛ من بياناتنا، من خصوصيتنا، من وعينا ذاته، يبقى السؤال معلقًا: هل نملك الإصرار نفسه؟

لم تعد الأرض حفنة تراب بل غدت سطرًا من الشيفرة، أو سياسة خصوصية مكتوبة بخط صغير، لكنها ما زالت تستحق أن نتمسك بها.
لأن من لا يعرف أرضه الرقمية قد لا ينتبه لحظة انتزاعها.

الجزيرة المصدر: الجزيرة
شارك

إقرأ أيضا


حمل تطبيق آخر خبر

آخر الأخبار